المنشورات

شخوص الرشيد إلى الري

وسبب ذلك: أن الرشيد كان [1] قد استشار يحيى بن خالد في تولية خراسان علي بن عيسى بن ماهان، فأشار عليه أن لا يفعل، فخالفه وولاه إياها، فلما شخص علي بن عيسى ظلم الناس وعسفهم، وجمع مالا جليلا، ووجه/ إلى هارون بهدايا لم ير مثلها قط من الخيل، والرقيق، والثياب، والنساء، والأموال، فقعد هارون بالشماسية على دكان مرتفع حين وصلت إليه تلك الهدايا وأحضرت فعرضت عَلَيْهِ، فعظمت في عينه، وكان إلى جانبه يحيى بن خالد، فقال لَهُ: يا أبا عليّ، هذا الذي أشرت علينا أن لا نوليه هذا الثغر فخالفناك فيه، وكان في خلافك البركة. وهو كالمازح [2] معه إذ ذاك فَقَالَ: يا أمير المؤمنين، جعلني الله فداك، أنَا وإن كنت أحب أن أصيب في رأيي وأوافق في مشورتي، فأنا أحب أن يكون رأي أمير المؤمنين أعلى، وفراسته أثقب، وما أحسن هذا وأكثره إن لم يكن وراءه ما تكره. قَالَ: وما ذاك؟ قَالَ:
إني أحسب أن أكثر هذا أخذ ظلما. فوقر ذلك في نفس الرشيد، فلما عاث علي بن عيسى بخراسان ووتر أشرافها، وأخذ أموالهم، واستخف برجالهم شكى الناس سوء سيرته، وسألوا أمير المؤمنين أن يبدلهم من أحب من كفاءته، فدعا يحيى بن خالد فشاوره في أمر علي بن عيسى وفي صرفه، وقَالَ: أشر عليّ برجل ترضاه لذلك الثغر،يصلح ما أفسد ذلك [1] الفاسق ويرتق ما فتق. فأشار عليه بيزيد بن مزيد، فلم يقبل.
وكان قد قيل للرشيد أن علي بن عيسى قد أجمع على خلافك، فشخص إلى الري من أجل ذلك عند منصرفه [2] من مكة، فعسكر بالنهروان لثلاث عشرة بقيت من جمادى الأولى ومعه ابناه: المأمون والقاسم، فلما صار بقرميسين أشخص إليه جماعة من القضاة/ وغيرهم، وأشهدهم عليه [3] أن جميع ماله في عسكره ذلك من الأموال والخزائن والسلاح والكراع، وما سوى ذلك للمأمون، وأنه ليس له فيه قليل ولا كثير، وجدد البيعة له على من كان معه، ووجه هرثمة بن أعين صاحب حرسه إلى بغداد، فأخذ البيعة [4] على الأمين، ثم مضى الرشيد عند انصراف هرثمة إلى الري، وأقام بها نحوا من أربعة أشهر حتى قدم عليه علي بن عيسى من خراسان بالأموال، والهدايا، والطرف، والمتاع، والمسك، والجوهر، وآنية الذهب والفضة، والسلاح، والدواب، وأهدى بعد ذلك إلى جميع من كان معه من أهل بيته وخدمه على طبقاتهم، فرأى منه خلاف ما كان ظن به، وغير ما كان يقال عنه، فرضي عنه، ورده إلى خراسان، فخرج وهو مشيع له.
وقدم خزيمة بن خازم على الرشيد الري، فأهدى له هدايا كثيرة [5] .
وفي هذه السنة [6] : قدم سعيد الجرشي [7] بأربعمائة رجل من طبرستان، فأسلموا على يد الرشيد [8] .
وفيها: ولى الرشيد عبد الله بن مالك طبرستان، والريّ، والرّويان [9] ، ودنباوند، وقومس، وهمدان. وولى عيسى بن جعفر بن سليمان عمان، فقطع البحر فافتتح حصنين، وعاد الرشيد إلى بغداد، فدخلها لليلتين بقيتا من ذي الحجة، وقَالَ: والله إني لأطوي [1] مدينة ما وضعت مدينة بشرق ولا غرب [2] ، وما رأيت مدينة أيمن منها ولا أيسر، وإنها لوطني ووطن آبائي، ودار مملكة بني العباس ما بقوا، وما رأى أحد من آبائي سوءا ولا نكبة/ ولا شرا، ولنعم الدار هي، ولكني أريد المناخ على ناحيتها أهل الشقاق والنفاق والبغض لأئمة الهدى، ولولا ذلك ما فارقت بغداد ما حييت، ولا خرجت عنها أبدا [3] .
وفي هذه السنة: كان الفداء [4] بين المسلمين والروم، فلم يبق بأرض الروم مسلم إلا فودي بِهِ. فقال مؤمل بن جميل [5] بن يحيى بن أبي حفصة ابن عم مروان بن أبي حفصة، من قصيدة:
وفكت بك الأسرى التي شيدت لها ... محابس ما فيها حميم يزورها
على حين أعيا المسلمين فكاكها ... وقالوا: سجون المشركين قبورها
[6] .
وفي هذه السنة [7] : رابط القاسم بدابق.
وفيها: حج بالناس العباس بن موسى بن عيسى بن موسى بن مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عباس [8] .






مصادر و المراجع :

١- المنتظم في تاريخ الأمم والملوك

المؤلف: جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي (المتوفى: 597هـ)

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید