المنشورات

خروج رافع بن الليث بن نصر بن سيار بسمرقند مخالفا لهارون

وخلعه إياه، ونزعه يده من طاعته [1] .
وكان سبب ذَلِكَ: أن يحيى بن الأشعث بن يحيى الطائي تزوّج بنتا لعمّه أبي النعمان، وكانت ذات يسار، فأقام بمدينة السلام وتركها بسمرقند، فلما طال مقامه بها، وبلغها أنه قد اتخذ أمهات أولاد، التمست سببا للتخلص منه، وبلغ رافعا خبرها، فطمع فيها وفي مالها، فدس إليها من قال لها: إنه لا سبيل [لها] [2] إلى التخلص من صاحبها إلا أن/ تشرك باللَّه، وتحضر لذلك قوما عدولا، وتكشف شعرها بين أيديهم ثم تتوب، فتحل للأزواج، ففعلت ذَلِكَ وتزوجها رافع. وبلغ ذلك يحيى بن الأشعث، فرفع ذلك إلى الرشيد، فكتب إلى علي بن عيسى يأمره أن يفرق بينهما، وأن يجلد رافعا الحد، ويقيده ويطيف به في مدينة سمرقند مقيدا على حمار، حتى يكون عظة لمن يراه، فدرأ عنه سليمان بن حميد الحد، وحمله على حمار مقيّدا حتى طلقها، ثم حبسه، فهرب من الحبس ليلا، فلحق بعلي بن عيسى ببلخ، فطلب الأمان فلم يجبه [علي إليه] [3] ، وهم بضرب عنقه، فكلمه فيه ابنه عيسى بن علي، فأذن له في الانصراف إلى سمرقند، فوثب بسليمان بن حميد عامل علي بن عيسى فقتله، فوجه علي بن عيسى ابنه، فمال الناس إلى سباع بن مسعدة، فرأسوه عليهم، فوثب على رافع فقيده، فوثب بسباع، فقيدوه ورأسوا رافعا وبايعوه [1] ، وطابقه [2] من وراء النهر، ووافاه عيسى بن علي، [فلقيه رافع فهزمه، فأخذ علي بن] [3] عيسى في فرض الرجال، والتأهب للحرب [4] .
وفي هذه السنة: قدم الرشيد من الري، فأتى الرقة، فبدأ بأم جعفر فظل عندها، وأمر لها من الغد بستة آلاف ألف درهم [5] ، وتخوت من الوشي، وسلال من الزعفران، وطرائف مما أهداه إِلَيْهِ علي بن عيسى بن ماهان.
أخبرنا محمد بن ناصر، أخبرنا أبو الغنائم بن الرسي، أخبرنا/ الشريف أَبُو عَبْد اللَّه مُحَمَّدً بْن علي العلوي وأبو الفرج محمد بن أحمد بن علان الشاهد قالا:
أَخْبَرَنَا الْقَاضِي أَبُو عَبْد اللَّهِ مُحَمَّد بْن عبد الله النهرواني قال: حدثني محمد بن الحسن السكونيّ، حدثنا أبو الحسن أحمد بن سعيد الدمشقي قَالَ: حدثني الزبير بْن بكار قَالَ:
حدثني عمي مصعب بْن عَبْد الله قَالَ: كان عبيد الله بن ظبيان قاضي الرقة، وكان الرشيد إذ ذاك بها، فجاء إِلَيْهِ رجل، فاستعدى إليه من عيسى بن جعفر، فكتب إليه ابن ظبيان [6] :
أما بعد، أبقى الله الأمير وحفظه وأتم نعمه عَلَيْهِ، أتاني رجل فذكر أنه فلان بن فلان، وأن له على الأمير أبقاه الله خمسمائة ألف درهم، فإن رأى الأمير أبقاه الله أن يحضر هو مجلس الحَكَم، أو يوكل وكيلا يناظر خصمه فعل.
ودفع الكتاب إلى الرجل، فأتى باب عيسى فدفع الكتاب إلى حاجبه، فأوصله إليه، فقال له: قل له: كل هذا الكتاب. فرجع إلى القاضي فأخبره، فكتب إليه: أبقاك الله وحفظك، وأمتع بك، حضر رجل يقال له فلان بن فلان، ذكر أن له عليك خمسمائة ألف درهم، فصر معه إلى مجلس الحكم أو وكيلك إن شاء الله.
ووجه الكتاب مع عونين من أعوانه، فحضرا باب عيسى، ودفعا الكتاب إليه، فغضب ورمى بِهِ، فانطلقا فأخبراه، فكتب إليه: حفظك الله وأبقاك، وأمتع بك، لا بد أن تصير أنت وخصمك إلى مجلس الحَكَم، فإن أبيت أنهيت أمرك إلى أمير المؤمنين.
ثم وجه الكتاب/ مع رجلين من أصحابه، فقعدا على باب عيسى حتى خرج، فقاما إليه ودفعا إليه كتاب القاضي، فلم يقرأه، ورمى بِهِ، فأبلغاه فختم قمطره وانصرف، وقعد في بيته، وبلغ الخبر إلى الرشيد، فدعاه فسأله عن أمره، فأخبره بالقصة حرفا حرفا، فقال لإبراهيم بْن عثمان: صر إلى باب عيسى بن جعفر واختم أبوابه كلها، ولا يخرجن أحد منها، ولا يدخل إليه أحد، حتى يخرج إلى الرجل حقه، أو يصير معه إلى مجلس الحَكَم.
فأحاط إبراهيم بداره خمسين فارسا، وغلقت أبوابه، فظن ابن عيسى أنه قد حدث بالرشيد أمر في قتله، ولم يعلم ما سبب ذلك، وجعل يكلم الأعوان من خلف الباب، وارتفع الصياح من منزله بصراخ النساء، فأمرهن أن يسكتن، وقال لبعض غلمان إبراهيم: ادع لي أبا إسحاق لأكلمه، فأعلموه ما قَالَ، فجاء حتى صار إلى الباب فقال له عيسى: ما حالنا؟ فأخبره بخبر ابن ظبيان، فأمر أن يحضر خمسمائة ألف درهم من ساعته [1] ، وتدفع إلى الرجل، فجاء إبراهيم إلى الرشيد فأخبره، فَقَالَ: إذا قبض الرجل ماله أفتح عليه أبوابه.
وفي هذه السنة: غزا الرشيد الصائفة- وهي بلاد الروم- في رجب، واستخلف المأمون بالرقة، وفوض إليه الأمور، وكتب إلى الآفاق بالسمع والطاعة، ودفع إليه خاتم المنصور يتيمّن به، وهو خاتم الخاصة، / ونقشه: «الله ثقتي آمنت بِهِ» [2] .
وفيها: أسلم الفضل بن سهل على يد المأمون [3] .
وفيها: خرجت الروم إلى عين [1] زربة، وكنيسة السوداء، فأغارت وأسرت، فاستنقذ أهل المصيصة ما أخذوا [2] .
وفيها: فتح الرشيد هرقلة [3] .
وكان من خبر غزاة الرشيد أن الروم كانوا ملكوا امرأة لم يكن بقي في زمانها من أهل المملكة غيرها، فكانت تكتب إلى المهدي والهادي والرشيد بالتبجيل والتعظيم، وتهدي لهم، حتى بلغ ابنها، فجاءه الملك دونها، وعاث وأفسد، وتغير على الرشيد، فخافت على ملك الروم أن يذهب، لعلمها بسطوة الرشيد، فسملت عيني ابنها، فبطل ملكه، وعاد إليها، فعظم ذلك عند أهل مملكتها وأبغضوها، فخرج عليها نقفور- وكان كاتبها- فأعانوه وعضدوه، وقام بأمر الملك، وكتب إلى الرشيد:
من نقفور ملك الروم إلى الرشيد ملك العرب، أما بعد: فإن هذه المرأة كانت وضعتك وأباك وأخاك موضع الملوك، وإني واضعك بغير ذلك الموضع، وعامل على تطرق بلادك، والهجوم/ على أمصارك، أو تؤدي إلي ما كانت المرأة تؤدي إليك، والسلام.
فلما ورد الكتاب على الرشيد كتب جواب كتابه يَقُولُ:
بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله هارون أمير المؤمنين إلى نقفور [4] كلب الروم، جوابك عندي ما تراه عيانا، لا ما تسمعه.
وقد ذكرنا أنهم تكاتبوا نحو هذا في سنة سبع وثمانين، فشخص الرشيد إلى بلاد الروم في مائة ألف وخمسة وثلاثين ألفا من المرتزقة سوى الأتباع، فدخل بلاد الروم، فجعل يقتل ويسبي ويغنم ويعفي الآثار ويخرب الحصون، حتى نزل على هرقلة، وهي أوثق حصن وأمنعه، فتحصن أهلها، وكان لها خندق يطيف [5] بها، فلما ألح عليهم الرشيد بالسهام والمجانيق والعرادات، ففتح الباب يوما رجل منهم وخرج في أكمل زي وسلاح، فنادى: هل من مبارز؟ قد طالت مرافقتكم إيانا، فليبرز [1] إلي منكم رجلان، ثم لم يزل يزيد حتى بلغ عشرين، فلم يجبه أحد، فدخل وأغلق الباب، وكان الرشيد نائما، فلم يعلم بخبره إلا بعد انتباهه، فغضب ولام خدمه إذ لم يعلموه/ فقيل لَهُ: إن الامتناع عَنْه سيغريه [2] ويطغيه، وهو يخرج في غد فيطلب مثل ما طلب، فطالت على الرشيد ليلته انتظارا لَهُ، فإذا هو بالباب قد فتح، وخرج طالبا للبراز، فجعل يدعي أنه يثبت لعشرين، فقال الرشيد: من له؟ فابتدر جماعة من القواد كهزيمة وخزيمة، فعزم على إخراج المطوعة بعضهم، فضج المطوعة، فإذا بعشرين منهم، فقال قائلهم: يا أمير المؤمنين، قوادك مشهورون بالبأس، ومتى خرج واحد منهم فقتل هذا العلج لم يكبر ذَلِكَ، وإن قتله العلج كانت وصمة على العسكر قبيحة، ونحن عامة لا يرتفع لأحد منا صوت، فإن رأى أمير المؤمنين أن يخلينا نختار رجلا من العامة فنخرجه إِلَيْهِ، فإن ظفر علم أهل الحصن أن أمير المؤمنين ظفر بأعرفهم على يد رجل من العامة، ليس ممن يؤمن قتله، ولا يؤثر، وإن قتل الرجل كان شهيدا ولم يؤثر دما. فقال الرشيد: قد استصوبت رأيكم، فاختاروا رجلا منكم، فاختاروا [3] رجلا يقال له: ابن الجزري، وكان معروفا بالبأس والنجدة، فقال له الرشيد: أتخرج؟ قَالَ: نعم، واستعين باللَّه.
فَقَالَ: اعطوه فرسا ورمحا وسيفا وترسا. فَقَالَ: يا أمير المؤمنين، أنا بفرسي أوثق، ورمحي بيدي أشد، ولكن قد قبلت السيف والترس فلبس سلاحه واستدناه الرشيد وودعه وأتبعه الدعاء، وخرج معه عشرون من المطوعة، فلما انقض [4] في الوادي قال لهم العلج وهو يعدهم واحدا واحدا، / إنما الشرط عشرون وقد زدتم رجلا، ولكن لا بأس. فنادوه: ليس يخرج إليك إلا رجل واحد. فلما فصل منهم ابن الجزري تلقاه الرجل الرومي وقد أشرف أكثر [5] الناس من الحصن يتأملون صاحبهم والقرن، حتى ظن أنه لم يبق أحد في الحصن إلا أشرف، فقال الرومي: أتصدقني عما استخبرك؟
قَالَ: نعم، قَالَ: أنت باللَّه ابن الجزري، قَالَ: اللَّهمّ نعم. فكفر لَهُ، ثم أخذا في شأنهما فاطعنا حتى طال الأمر بينهما، وكان الفرسان يقومان ولم نجد من واحد منهما صاحبه، ثم تجالدا بالسيوف، وجعل ابن الجزري يضرب الضربة التي يرى أنه قد بلغ فيها، فيتقيها الرومي، وكان ترسه حديدا، فيسمع لذلك صوت منكر، ويضربه الرومي ضرب مغدر، لأن ترس ابن الجزري كان درقة، فلما يئس كل واحد منهما من صاحبه انهزم ابن الجزري، فدخلت المسلمين كآبة لم يكتئبوا مثلها قط، وعطعط المشركون، ثم اتبعه العلج، فالتفت [1] ابن الجزري، فرمى العلج بوهق فوقع في عنقه، وركض إليه فاستلبه عن فرسه، ثم عطف عَلَيْهِ، فما وصل إلى الأرض حتى فارقه رأسه، فكبر المسلمون وانخذل المشركون، وبادروا الباب يغلقونه. وإنما كانت هزيمة ابن الجزري حيلة منه.
واتصل الخبر بالرشيد فقال للقواد: اجعلوا النار في المجانيق، فتهافت السور، ففتحوا الباب مستأمنين، وصبت الأموال على ابن الجزري/ وقود، فلم يقبل النقود، وسأل أن يعفى ويترك بمكانه من الثغر، فلم يزل به طول عمره.
وكان فتح هرقلة في شوال، وأخربها وسبى من أهلها ستة عشر ألفا، فأقدمهم الرافقة، فتولى بيعهم أبو البختري القاضي.
ووجه الرشيد داود بن عيسى بن موسى سائحا في أرض الرقة في سبعين ألفا.
وافتتح شراحيل [2] بن معن بن زائدة حصن الصقالبة وديسة [3] .
وافتتح يزيد بن مخلد الصّفصاف، ومقلونية [4] .
وولي حميد بن معيوف ساحل بحر الشام إلى مصر، فبلغ حميد قبرس، فهدم وحرق وسبى من أهلها ستة عشر ألفا، وأقدمهم الرافقة، فتولى بيعهم أبو البختري القاضي [1] .
وبعث نقفور بالخراج والجزية عن رأسه، وولي عهده وبطارقته وسائر أهل بلده خمسين ألف دينار، منها عن رأسه أربعة دنانير، وعن رأس ولده دينارين [2] .
وكتب نقفور مع بطريقين من عظماء بطارقته في جارية من سبي هرقلة كتابا نسخته:
لعبد الله هارون أمير المؤمنين، من نقفور ملك الروم، سلام عليك، أما بعد: أيها الملك، إنّ لي حاجة لا تضرك في دينك ولا دنياك، هينة [3] يسيرة، [أن] [4] تهب لابني جارية من بنات أهل هرقلة كنت خطبتها على ابني، فإن رأيت أن تسعفني في حاجتي [فعلت] [5] . والسلام عليك ورحمة الله وبركاته [6] .
واستهداه أيضا طيبا وسرادقا، فأمر الرشيد بطلب الجارية، فأحضرت وزينت وأجلست عَلَى فراش في مضربه الذي كان نازلا فيه، وسلمت الجارية والمضرب بما فيه من الآنية والمتاع إلى رسول نقفور، وبعث إليه بما سأل/ من العطر، وبعث إليه من التمور [7] والزبيب والأخبصة [8] والترياق، فسلم ذلك إليه رسول الرشيد، فأعطاه نقفور وقر برذون دراهم كَانَ مبلغه خمسين ألف درهم، ومائة ثوب ديباج، ومائتي ثوب بزيون [9] ، واثني عشر بازيا [10] ، وأربعة أكلب من كلاب الصّيد [11] ، وثلاث براذين،وكان نقفور اشترط ألا يخرب [1] ذا الكلاع، ولا حمله، ولا حصن سنان، واشترط الرشيد عليه ألا يعمر هرقله، وعلى أن يحمل نقفور ثلاثمائة ألف دينار، فقال أبو العتاهية في ذلك:
إمام الهدى أصبحت بالدين معنيا ... وأصبحت تسقي كل مستمطر ريا
لك اسمان شقا من رشاد ومن هدى ... فأنت الذي تدعى رشيدا [و] مهديّا
إذا ما سخطت الشيء كان مسخطا ... وإن ترض شيئا [كان] [2] في الناس مرضيا
بسطت لنا شرقا وغربا يد العلا ... فأوسعت شرقيا وأوسعت غربيا
ووشيت وجه الأرض بالجود والندى ... فأصبح وجه الأرض بالجود بالجود موشيا
وأنت أمير المؤمنين فتى التقى ... نشرت من الإحسان ما كان مطويا
تحليت للدنيا وللدين بالرضا ... فأصبح نقفور لهارون ذميا
وفيها: خرج خارجي من عبد القيس يقال لَهُ سيف بن بكر، فوجه إليه الرشيد محمد بن يزيد بن مزيد فقتله بعين النورة [3] .
وفيها: نقض أهل قبرس العهد، فغزاهم معيوف وسبى أهلها [4] .
وفيها: حج بالناس عيسى بن موسى الهادي [5] .







مصادر و المراجع :

١- المنتظم في تاريخ الأمم والملوك

المؤلف: جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي (المتوفى: 597هـ)

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید