المنشورات

يحيى بْن خالد بْن برمك، أَبُو عليّ

كان المهدي قد ضم إليه هارون الرشيد وجعله في حجره، فلما استخلف هارون عرف ليحيى حقه، وكان يعظمه، وإذا ذكره يَقُولُ: قال أَبِي. وجعل إصدار الأمور وإيرادها إليه، إلى أن نكب البرامكة، فغضب عليه، وخلده في الحبس إلى أن مات فيه.
وكان له الكلام الحسن، والكرم الواسع، فمن كلامه: حاجب الرجل عامله على عرضه.
وقَالَ: من بلغ رتبة تاه بها أخبر أن محله دونها.
وقَالَ: يدل على كرم الرجل سودان غلمانه.
وقَالَ لابنه: خذ من كل طرفا، فإن من جهل شيئا عاداه.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بن علي، أخبرنا الحسن بن محمد الخلال، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عِمْرَانَ، أَخْبَرَنَا أبو بكر محمد بن يحيى النديم قال:
قال يحيى بن خالد: ثلاثة أشياء تدل على عقول أربابها: الهدية، والكتاب، والرسول.
وكان يقول لولده: اكتبوا أحسن ما تسمعون، واحفظوا أحسن ما تكتبون، وتحدثوا بأحسن ما تحفظون [2] .
قال ابن عمران: وحدثنا أبو عبد الله الحكيم قَالَ: حدثني ميمون بن هارون قال:
حدّثني علي بن عيسى قَالَ: كان يحيى بن خَالِد يَقُولُ: إذا أقبلت الدنيا فأنفق فإنها لا تفنى، وإذا أدبرت فأنفق فإنها لا تبقى [3] .
أخبرنا القزاز، أخبرنا الخطيب، أخبرنا أبو الحسن محمد بن عبد الواحد القزاز، أخبرنا أبو سعيد السيرافي، حدثنا محمد بن أبي الأزهر، حدثنا الزبير بن بكار/ قال:
سمعت إسحاق بن إبْرَاهِيم يَقُولُ: كانت صلات يحيى بن خالد إذا ركب لمن تعرض له بمائتي درهم، فركب ذات يوم، فعرض له أديب شاعر فَقَالَ:
يا سمي الحصور يحيى أتيحت ... لك من فضل ربنا جنتان
كل من مر في الطريق عليكم ... فله من نوالكم مائتان
مائتا درهم لمثلي قليل ... هي منكم للقابس [1] العجلان
قال يحيى: صدقت. وأمر بحمله إلى داره، فلما رجع من دار الخليفة سأله عن حاله، فذكر أنه تزوج، وأخذ بواحدة من ثلاث، إما أن تؤدي المهر وهو أربعة آلاف درهم، وإما أن يطلق، وإما أن يقيم جاريا [للمرأة] [2] ما يكفيها إلى أن يتهيأ له نقلها، فأمر له يحيى بأربعة آلاف للمهر، وأربعة آلاف لثمن منزل، وأربعة آلاف لما يحتاج إليه [المنزل] [3] وأربعة آلاف للبنية، وأربعة آلاف يستظهر بها، فأخذ عشرين ألف درهم [4] .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بن علي الحافظ، أخبرنا أحمد بن عُمَر النهرواني، أخبرنا المعافى، حدثنا محمد بن أحمد بن أبي الثلج، حدثنا حسين بن فهم قَالَ: قال ابن الموصلي: حدثني أَبِي [قال:] أتيت يحيى بن خالد بن برمك، فشكوت إليه ضيقة، فَقَالَ: ويحك! ما أصنع بك؟ ليس عندنا في هذا الوقت شيء، ولكن ها هنا أمر أدلك عليه، فكن فيه رجلا، قد جاءني خليفة صاحب مصر يسألني أن أستهدي صاحبه شيئا، وقد أبيت ذلك، فألح عليّ وقد بلغني/ أنك أعطيت بجاريتك فلانة آلاف دنانير، فهو ذا أستهديه إياها وأخبره [5] أنها قد أعجبتني، فإياك أن تنقصها من ثلاثين ألف دينار، وانظر كيف يكون. قَالَ: فو الله ما شعرت إلا بالرجل قد وافاني فساومني بالجارية. فقلت: لا أنقصها من ثلاثين ألف دينار، فلم يزل يساومني حتى بذل لي عشرين ألف دينار، فلما سمعتها ضعف قلبي عن ردها، فبعتها وقبضت العشرين ألفا، وصرت إلى يحيى بن خَالِد، فقال لي: كيف صنعت في بيع جاريتك؟
فأخبرته وقلت: والله ما ملكت نفسي أن أجبت إلى العشرين ألفا حين سمعتها. فَقَالَ:
إنك لخسيس، وهذا خليفة فارس قد جاءني في مثل هذا، فخذ جاريتك، فإذا ساومك بها [1] فلا تنقصها من خمسين ألف دينار، فإنه لا بد أن يشتريها منك بذلك.
قال: فجاءني الرجل فأسمت عليه خمسين ألف دينار، فلم يزل يساومني حتى أعطاني ثلاثين ألف دينار، فضعف قلبي عن ردها، ولم أصدق بها، فأوجبتها له بها، ثم صرت إلى يحيى بْن خَالِد، فقال لي: بكم بعت الجارية؟ فأخبرته، فَقَالَ: ويحك! أما تؤدبك الأولى عن الثانية. قلت: والله ضعف قلبي عن رد شيء، لم أطمع فيه. فَقَالَ:
هذه جاريتك فخذها إليك. قَالَ: جارية أفدت بها خمسين ألف دينار، ثم أملكها، أشهدك أنها حرة، وأني قد تزوجتها [2] .
أَخْبَرَنَا [أَبُو] [3] مَنْصُورٍ الْقَزَّازُ، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ بن ثابت الخطيب: وبلغنا أن الرشيد بعث صالحا صاحب المصلى إلى منصور بن زياد يقول لَهُ: قد وجب عليك/ عشرة آلاف درهم، فاحملها إلي اليوم، فإن فعل إلى ما قبل غروب الشمس، وإلا فخذ رأسه، وائتني به، ولا تراجعني. قَالَ صالح: فخرجت إلى منصور فعرفته، فقال: ذهبت والله نفسي، والله ما أتمكن من ثلاثمائة ألف درهم فضلا [عن] عشرة آلاف ألف. قال له صالح:
خذ فيما هو أعود عليك من هذا القول. فَقَالَ لَهُ: تحملني إلى أهلي حتى أوصي. فلما دخل إليهم ارتفع صياح الحريم [4] والجواري، فَقَالَ لصالح: امض بنا إلى يحيى بن خالد، لعل الله أن يأتي بالفرج على يده. فمضى معه، فدخل على يحيى وهو يبكي فَقَالَ: ما لك؟ فقص عليه القصة، فأطرق متفكرا ثم دعى جارية فَقَالَ: كم عندك من المال؟
قالت: خمسة آلاف ألف درهم. فقال: أعديها. ثم وجه إلى الفضل فقال لَهُ: يا بني، كنت عرفتني أنك تريد أن تشتري ضيعة بألفي ألف درهم، وقد وجدت لك ضيعة تغل السكر، وتبقى الدهر فأنفذها إلي. فأنفذها وأرسل إلى جعفر، فَقَالَ: يا بني أبعث إلي بألف ألف درهم لحق لزمني. فبعث إِلَيْهِ، ففكر ساعة ثم قال لخادم على رأسه: ابعث إلى دنانير وقل لها هات العقد الذي وهبه لك أمير المؤمنين فأهديه. فَقَالَ: هذا عقد أمير المؤمنين بمائة وعشرين ألف دينار. فوهبه لدنانير، وقد قومناه عليك بألفي ألف درهم ليتم المال، فخل عن صاحبنا. فأخذت ذلك، ورددت منصورا معي، فلما صرنا إلى الباب تمثل منصور:
فما بقيا علي تركتماني ... ولكن خفتما صرد النبال
/ قال صالح: فقلت في نفسي ما أحد أكرم من يحيى، ولا أردأ طبعا من هذا النبطي، إذ لم يشكر من أحيا نفسه. وصرت إلى الرشيد فعرفته ما جرى إلا إنشاد [1] البيت، خوفا عليه أن يقتله. فقال الرشيد: قد علمت أنه لا يسلم إلا بأهل هذا البيت، فاقبض المال، واردد العقد، فما كنت لأهب هبة ثم أرتجعها.
قال صالح: وحملني غيظي من منصور أن عرفت يحيى ما أنشد، فأقبل يحيى يتحمل له بالغدر ويقول: إن الخائف لا يتقى [2] له لب، وربما نطق بما لا يعتقد، فقلت: والله لا أدري من أي فعليك أعجب، من فعلك معه، أو من اعتذارك عنه، لكني أعلم أن الزمان لا يأتي بمثلك أبدا.
وكان يحيى بن خالد يجري على سفيان بن عيينة كل شهر ألف درهم، فسمع سفيان يقول في سجوده: اللَّهمّ إن يحيى كفاني أمر دنياي فاكفه بهم آخرته. فلما مات يحيى رآه بعض إخوانه في النوم، فقال لَهُ: ما فعل الله بك. قَالَ: غفر لي بدعوة سُفْيان.
أخبرنا القزاز، أخبرنا أحمد بن علي، أخبرنا أحمد بن أبي جعفر الأخرم، أخبرنا أبو علي عيسى بن محمد بن أحمد الطوماري، حدثنا المبرد قال: حدثني محمد بن جعفر بن يحيى بْن خالد بن برمك قال: قال أبي لأبيه: يحيى بن خالد بن [3] برمك- وهم في القيود ولبس الصوف والحبس-: يا أبت، بعد الأمر والنهي والأموال العظيمة أصارنا الدهر إلى القيود ولبس الصوف والحبس؟ فقال له أبوه: يا بني، دعوة مظلوم سرت بليل غفلنا عنها ولم يغفل الله عنها، ثم أنشأ يَقُولُ:
/ رب قوم قد غدوا في نعمة ... زمنا والدهر ريان غدق
سكت الدهر زمانا عنهم ... ثم أبكاهم دما حين نطق
[1] توفي يحيى في حبس الرشيد بالرافقة لثلاث خلون من محرم هذه السنة وهو ابن سبعين، وصلى عليه ابنه الفضل، ودفن على شاطئ الفرات في ربض هرثمة، ووجد في جيبه رقعة حين مات، مكتوب فيها بخطه: «قد تقدم الخصم والمدعى عليه بالأثر، والقاضي هو الحكم العدل الّذي لا يجور ولا يحتاج إلى بينة» [2] .
فحملت الرقعة إلى الرشيد، فلم يزل يبكي يومه، وبقي أياما يتبين الأسى في وجهه.





مصادر و المراجع :

١- المنتظم في تاريخ الأمم والملوك

المؤلف: جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي (المتوفى: 597هـ)

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید