المنشورات

إسماعيل بن جامع بن إسماعيل بن عبد الله بن المطلب بن وداعة، أبو القاسم

كان يحفظ القرآن- فيما ذكر الأصفهاني- إلا أنه اشتهر بالغناء.
أخبرنا عبد الوهاب بن المبارك الأنطاكي، أخبرنا أبو الحسن بن الطيوري، أخبرنا أبو محمد الجوهري، أخبرنا أبو عمرو بن حيوية، أخبرنا محمد بن خلف بن المرزبان، حدثنا حماد بن إسحاق قال: أخبرني أَبِي قَالَ: قال ابن جامع: كان أبي ينهاني عن الغناء ويعذبني عليه، ويضيق علي، فهربت منه إلى أخوالي، وكانوا ينزلون بحران، فأنزلوني في مشرعة على نهر، فإنّي أشرف منها على نهر إذ طلعت سوداء معها قربة، فنزلت إلى المشرعة، فجلست ووضعت قربتها، واندفعت تغني:إلى
الله أشكو بخلها وسماحتي ... لها عسل مني وتبدل علقما [1]
فردي مصاب القلب أنت قتلته ... ولا تتركيه هائم القلب مغرما
قَالَ: فاستفزني ما لا قوام لي به، ورجوت أن ترده فلم تفعل، وأخذت القربة ونهضت، فنزلت أعدو خلفها، وقلت: يا جارية. فوقفت، فقلت لها: بأبي أنت وأمي، ردي الصوت. قالت: ما أشغلني عنك. قُلْتُ: بماذا؟ قالت: علي خراج كل يوم درهمين. فأعطيتها درهمين، فوضعت القربة وجلست تغنيه حتى أخذته وانصرفت، فلهوت/ يومي به، وبت فأصبحت وما أذكر منه حرفا واحدا، وإذا أنا بالسوداء قد طلعت، ففعلت كفعلها الأول، إلا أنها تغنت غير ذاك الصوت، فنهضت وعدوت في أثرها وقلت: الصوت قد ذهب عني نغمته. فأبت أن تعيده إلا بدرهمين، فأعطيتها، فأعادته فذكرته، فقلت: حسبك. فقالت: كأنك تكاثر فيه بأربعة دراهم، كأني والله بك وقد أصبت فيه أربعة آلاف دينار.
قال ابن جامع: فبينا أنا أغني الرشيد وبين يديه أكيسة أربعة، وفي كل واحد ألف دينار، قَالَ: من أطربني فله كيس، وعن لي والله الصوت. فغنيته، فرمى إلي بكيس، ثم قال لي: أعد. فأعدت، فرمى إلي بكيس آخر، ثم قال لي: أعد. فأعدت، فرمى إلي بكيس، فتبسمت فقال لي: مم تضحك؟ فقلت: يا أمير المؤمنين، لهذا الصوت حديث عجيب. فحدثته الحديث، فضحك ورمى إلي بالكيس الرابع، وقَالَ: لا تكذب السوداء. ورجعت بأربعة آلاف دينار.
وقد روى نحو هذه الحكاية أبو الفرج علي بن عيسى الأصفهاني [2] : أن ابن جامع قال: انتقلت من مكة إلى المدينة لشدة لحقتني، فأصبحت يوما وما أملك إلا ثلاثة دراهم، فهي في كمي، إذا بجارية في يدها جرة تريد الركي [3] ، تسعى بين يدي، وترنم بصوت شجي:
شكونا إلى أحبابنا طول ليلنا ... فقالوا لنا ما أقصر الليل عندنا
وذاك لأن النوم يغشى عيونهم ... سراعا ولا يغشى لنا النوم أعينا
إذا ما دنا الليل المضر بذي الهوى ... جزعنا وهم يستبشرون إذا دنا
فلو أنهم كانوا يلاقون مثل ما ... نلاقي لكانوا في المضاجع مثلنا
قَالَ: فأخذ الغناء بقلبي ولم يدر لي منه حرف فقلت: يا جارية، ما أدري أوجهك أحسن أم غناؤك، فلو شئت أعدت. قالت: حبا وكرامة، ثم أسندت ظهرها إلى جدار، ثم انبعثت تغنيه، فما دار لي منه حرف، فقلت: لو تفضلت مرة أخرى. فغضبت وكلحت [1] وقالت: ما أعجب أحدكم يجيء إلى الجارية عليها الضريبة فيشغلها، فضربت يدي إلى الدراهم الثلاثة فدفعتها إليها، فأخذتها، وقالت: تريد أن تأخذ مني صوتا أحسبك تأخذ به ألف دينار وألف دينار وألف دينار. ثم غنت ففهمته ثم سافرت إلى بغداد، فآل الأمر إلى أن غنيت الرشيد بهذا الصوت، فرمى إلي ثلاثة أكياس، فتبسمت فأخبرته خبر الجارية.
أخبرني بعض أهل الأدب قَالَ: كان إسماعيل بن جامع قد تزوج بالحجاز جارية سوداء مولاة لقوم، يقال لها مريم، / فلما صار من الرشيد بالموضع الذي صار به اشتاق إلى السوداء، فَقَالَ يذكر الموضع الذي كان يألفها فيه ويجتمعان فيه:
هل ليلة بقفا الصحصاح عائدة ... من قبة ذات أشراح وأزرار
تسمو مجامرها بالمندلي كما ... تسمو بحباته أفراح أعصار
المسك يبدو إلينا من غلائلها ... والعنبر الورد تذكيه على النار
ومريم بين أتراب منعمة ... طورا وطورا تغنيني بأوتار
فقال الرشيد: ويلك! من مريمك هذه التي وصفتها صورة الحور العين؟ قال:
زوجتي. ثم وصفها كلاما أكثر مما وصفها شعرا، فأرسل الرشيد من الحجاز حتى حملت، فإذا هي سوداء طمطمانية، ذات مشافر، فقال لَهُ: ويلك! هذه مريم التي ملأت الدنيا بذكرها، عليك وعليها لعنة الله. فقال: يا سيدي، إن عمر بن أبي ربيعة يَقُولُ [2] :
فتضاحكن وقد قلن لها ... حسن في كل عين ما تود






مصادر و المراجع :

١- المنتظم في تاريخ الأمم والملوك

المؤلف: جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي (المتوفى: 597هـ)

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید