المنشورات

هارون الرشيد، أمير المؤمنين، ابن المهدي

كان بالرقة، وكان جبرئيل بن بختيشوع يدخل عليه كل يوم، فإن أنكر شيئا وصفه لَهُ، فذكر له ما يصلح، فدخل عليه يوما، فرآه مهتما، فسأله عن حاله، فَقَالَ: لرؤيا رأيتها أفزعتني. فقال: لعلها من بخارات رديئة، أو من تهاويل السوداء: فَقَالَ: رأيت كأني جالس على سريري هذا، إذ مدت إلي من تحتي ذراع أعرفها، وكف أعرفها، وفي الكف تربة حمراء، فقال لي قائل اسمعه ولا أرى صفته: هذه التربة التي تدفن فيها.
فقلت: أين هذه التربة؟ فَقَالَ: بطوس. وغابت اليد وانتبهت. فقال له الطبيب: أحسبك أخذت مضجعك ففكرت في خراسان وحروبها. فقال: قد كان ذلك. ومرت الأيام، ونسي، واتفق خروجه إلى خراسان حين تحرك رافع الخارجي، فلما كان ببعض الطريق ابتدأت به العلة، وما زالت تزيد حتى دخل إلى طوس، فمرض في بستان هناك، فبينا هو في البستان وذكر تلك الرؤيا، فوثب متحاملا يقوم ويسقط، فاجتمعوا إليه، كلّ يقول: يا سيدي، ما جاء لك!؟ فَقَالَ: يا جبريل، تذكر رؤياي بالرقة، في طوس. ثم رفع رأسه إلى مسرور فَقَالَ: جئني من تربة هذا البستان/ فمضى وأتى بالتربة في كفه حاسرا عن ذراعه، فلما نظر إِلَيْهِ قَالَ: والله هذه الذراع التي رأيتها في منامي، وهذا والله الكف بعينه، وهذه والله التربة الحمراء ما خرمت شيئا. وأقبل على البكاء والنحيب بعد هذا الكلام ثلاثة أيام [2] .
وفي رواية أخرى: أنه رأى في المنام أن امرأة وقفت عليه، وأخذت كف تراب وقالت: هذه تربتك عن قليل. فأصبح فزعا، فقص رؤياه، فقال له أصحابه: وما في هذا؟ قد يرى النائم أغلظ من هذا. فبينا هو يوما يسير إذ نظر إلى امْرَأَة فَقَالَ: هذه والله المرأة التي رأيتها في منامي، ولقد رأيتها بين ألف امرأة ما خفيت عليّ، ثم أمرها أن تأخذ كفا من تراب فتناوله، فضربت بيدها الأرض، وناولته، فَقَالَ: هذه والله التربة التي رأيتها، وهذه المرأة بعينها. وكان إذ مات [3] هناك.
وروى الصولي قال: حدثني حسين بن يحيى قَالَ: سمعت هبة الله بن إبراهيم بن المهدي يحدث عنه أَبِيهِ قال: أحب الرشيد أن يعرف حقيقة علته، وعلم أن ابن يختيشوع يكتمه، فواطأ إنسانا من أهل طوس وسأله أن يلاطف بختيشوع، ففعل، ثم أعطى الرجل ماءه وقال له: اذهب به إلى ابن بختيشوع على أنه ماء لمريض لك. ففعل الرجل ذَلِكَ، فلما رأى ابن بختيشوع الماء قَالَ لبعض من معه: كأنه والله ماء الرجل ففطن الذي جاء بالماء، فقال لابن بختيشوع: اتق الله في، فإن بيني وبين [1] هذا الرجل/ معاملات، فإن كان يعيش لم استقص عَلَيْهِ، وأن كان يموت فرغت مما بيني وبينه.
فَقَالَ: تريد أن أصدقك؟ قَالَ: نعم. قال: صاحب هذا الماء لا يعيش إلا أياما. فعاد الرسول وأخبر الرشيد بذلك. وعلم ابن بختيشوع بالأمر، فاختفى إلى أن مات الرشيد، ولما قرب موت الرشيد جعل يقول:
إني بطوس مقيم ... ما لي بطوس حميم
أرجو إلهي لما بي ... فإنه بي رحيم
لقد أتاني بطوس ... قضاؤه المحتوم
[2] وقَالَ: (احفروا لي قبرا. فحفروا له في ذلك البستان. فَقَالَ: احملوني أنظر إِلَيْهِ.
فحمل فنظر إليه، فجعل يَقُولُ: أغثني أغثني، وارحم عبرتي. ثم قَالَ: قربوني قليلا.
فقربوه، فنظر في القبر فقال: وسعوا عند الصدر قليلا. ففعلوا، وهو ينظر، وأنزل قوما فختموا فيه القرآن، وقَالَ: مدوا موضع الرجلين. ففعلوا، وهو في محفة على شفير القبر، ثم شخص ببصره إلى السماء وقال: يا من لا يموت، ارحم من يموت، يا من لا يزول ملكه، ارحم من قد زال ملكه [3] . ثم بكى بكاء شديدا، وأنشد:
/ أنا ميت وعز من لا يموت ... قد تيقنت أنني سأموت
ليس ملك يزيله الموت ملكا ... إنما الملك ملك من لا يموت
وتوفي ليلة الأحد، وقيل: ليلة السبت نصف الليل، لغرّة جمادى الأولى، لثلاث خلون منه، من سنة ثلاث وتسعين، فكانت خلافته ثلاثا وعشرين سنة، وشهرين، وثمانية عشر يوما، وكان له سبع وأربعون سنة، وخمسة أشهر، وخمسة أيام. وقيل:
خمس وأربعون سنة. وقيل: ست وأربعون. وصلى عليه ابنه.
وتوفي وفي بيت المال تسعمائة ألف ألف ونيف. وذكر بعض المؤرخين أنه خلف ما لم يخلفه أحد من الملوك من العين والورق والجوهر والدواب والأثاث، ما بلغ قيمته سوى قيمة الضياع: مائة ألف ألف دينار [1] .
ورثاه أبو الشيص فَقَالَ:
غربت في الشرق شمس ... فلها العينان تدمع
ما رأينا قط شمسا ... غربت من حيث تطلع
[2] .





مصادر و المراجع :

١- المنتظم في تاريخ الأمم والملوك

المؤلف: جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي (المتوفى: 597هـ)

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید