المنشورات

استئمان خزيمة بن خازم إلى طاهر بن الحسين، ومفارقته محمدا

وسبب ذلك: أن طاهرا كتب إلى خزيمة، فشاور/ من يثق بِهِ، فقالوا: نرى والله أن هذا الرجل أخذ بقفا صاحبنا عن قليل، فاحتل لنفسك ولنا. فكتب إلى طاهر بطاعته، وكتب طاهر بن محمد بن علي بن عيسى بن ماهان بمثل ذلك، فلما كان ليلة الأربعاء لثمان بقين من المحرم وثب خزيمة ومحمد بن علي بن عيسى بن ماهان على جسر دجلة فقطعاه، وركبا أعلامهما عَلَيْهِ، وخلعا محمدا ودعوا للمأمون، وغدا طاهر يوم الخميس على المدينة الشرقية وأرباضها والكرخ وأسواقها، وهدم قنطرتي الصراة العتيقة والحديثة، واشتد عندهما القتال، وباشر طاهر القتال بنفسه، فهزم أصحاب محمد ودخل قسرا، وأمر مناديه فنادى: الأمان لمن لزم منزله. ووضع بقصر الوضاح وسوق الكرخ والأطراف قوادا وجندا، وقصدوا مدينة أبي جعفر فأحاط بها وبقصر زبيدة وقصر الخلد ورمى، فخرج محمد بأمه وولده مما كان يصل إليه من حجارة المنجنيق إلى مدينة أبي جعفر، وتفرق عنه عامة أصحابه وخصيانه [2] وجواريه إلى السكك والطرق لا يلوي أحد منهم على أحد، وتفرق الغوغاء والسفلة، وأمر ببسطه ومجالسه أن تحرق فأحرقت [3] .
وفي هذه السنة: قتل محمد بن هارون، وذلك أنه لما تيقن محمد أنه لا عدة له للحصار، وخاف أن يظفر به وبأصحابه صار إليه حاتم بن الصقر، ومحمد بن إبراهيم بن الأغلب الأفريقي وقواده، فقالوا: قد آلت حالك/ وحالنا إلى ما ترى، وقد رأينا رأيا نعرضه عليك فانظر فيه، فإنا نرجو أن يكون صوابا. قال: ما هو؟ قالوا: قد تفرق عنك النَّاسَ، وأحاط بك عدوك من كل جانب، وقد بقي من خيلك معك ألف فرس، فنرى أن تختار من قد عرفناه بمحبتك من الأبناء مع ألف رجل، ونخرج ليلا من هذه الأبواب حتى نلحق بالجزيرة والشام، فتفرض [الفروض] [1] وتجبي الخراج، وتصير في مملكة واسعة، ويسارع إليك الناس. فَقَالَ: نعم ما رأيتم. واعتزم على ذَلِكَ.
فخرج الخبر إلى طاهر، فكتب إلى سليمان بن أبي جعفر، وإلى محمد بن عيسى بن نهيك، وإلى السندي بن شاهك: والله لئن لم تردوه عن هذا الرأي لا تركت لكم ضيعة إلا قبضتها، ولا يكون لي همة إلا أنفسكم. فدخلوا على محمد فقالوا: قد بلغنا الذي عزمت عليه، ولسنا نأمن الذين تخرج معهم أن يأخذوك أسيرا ويأخذوا رأسك، فيتقربوا بك.
فأضرب عما كان عزم عليه، ومال إلى طلب الأمان، فلما اشتد الحصار عليه فارقه سليمان بن أبي جعفر، وإبراهيم بن المهدي، ومحمد بن عيسى بن نهيك، ولحقوا جميعا بعسكر المأمون، وقَالَ له السندي: بادر بنا إلى هرثمة، واخرج ليلا، فغضب طاهر، وأراد أن يخرج إليه. فقيل له يخرج إلى هرثمة لأنه يأنس به، ويدفع إليك الخاتم والقضيب والبردة. فقيل لطاهر: هذا مكر منه، وإن الخاتم والقضيب والبردة تحمل معه إلى هرثمة/.
فاغتاظ وكمن حول القصر كمينا بالسلاح، وذلك ليلة الأحد لخمس مضين من المحرم سنة ثمان وأربعين ومائة، وذلك لخمس وعشرين من أيلول.
فلما أراد الخروج استسقى ماء، فلم يوجد له، فدعا بولديه فضمهما إليه وقبلهما وقَالَ: استودعكما الله. وجعل يمسح دموعه، ولبس ثياب الخلافة، وركب يريد هرثمة، وبين يديه شمعة. فلما انتهى إلى دار الحرس قال لخادمه: اسقني من جباب الحرس.
فناوله كوزا، فعافه لزهوكته [1] ، فلم يشرب منه، فلما أن سار في الحراقة [2] خرج طاهر وأصحابه فرموا الحراقة بالسهام والحجارة فانكبت الحراقة، فغرق محمد ومن كان فيها، فشق محمد ثيابه وسبح حتى عبر، فصار إلى بستان موسى، فعرفه محمد بن حميد الطاهري، فصاح بأصحابه، فنزلوا فأخذوه، فبادر محمد الماء، فأخذوا بساقيه، ثم حمل على برذون وألقي عليه إزار من أزر [3] الجند غير مفتول، وحمل إلى منزل إبراهيم بن جعفر البلخي، وكان بباب الكوفة، وأردف رجل خلفه ليلا يسفط كما يفعل بالأسير [4] .
وقيل إنه عرض على الذين أخذوه مائة حبة، كل حبة قيمتها مائة ألف، فأبوا أن يتركوه، وجاء الخبر بذلك إلى طاهر بن الحسين، فدعا مولى له يقال لَهُ: قريش الدنداني، فأمره بقتل محمد، فلما انتصف الليل فتح الدار قوم من العجم، بأيديهم السيوف مسللة، فلما رآهم قام قائما/ وقال: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ 2: 156 [5] ذهبت والله نفسي في سبيل الله، أما من حيلة، أما من مغيث!؟ [6] فلما وصلوا إليه أحجموا عن الإقدام، وجعل بعضهم يقول لبعض: تقدم. فأخذ محمد بيده وسادة وجعل يَقُولُ: ويحكم، إني ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وابن هارون، وأخو المأمون، الله الله في دمي. فدخل عليه رجل يقال له: حميرويه [7]- غلام لقريش الدنداني- فضربه بالسيف ضربة وقعت على مقدم رأسه، وضرب وجهه بالوسادة التي كانت في يده، ودخل جماعة، فنخسه واحد منهم بالسيف في خاصرته، وركبوه فذبحوه ذبحا من قفاه، وأخذوا راسه، فمضوا به إلى طاهر، وتركوا جثته، فنصب طاهر الرأس عَلَى رمح على برج حائط البستان الذي يلي باب الأنبار، وفتح باب الأنبار، وتلى: قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ 3: 26 [1] .
وخرج من أهل بغداد من لا يحصى عدده ينظر إليه، ثم بعث برأسه إلى المأمون مع الرداء والقضيب والبردة، فأمر له بألف ألف دينار، فأدخل ذو الرئاستين الرأس [2] بيده على ترس إلى المأمون، فلما رآه سجد، وأعطى طاهر بعد قتل محمد الناس كلهم الأمان، وهدأ الناس، ودخل طاهر المدينة يوم الجمعة، فصلى بالناس وخطبهم، وحض على الطاعة ولزوم الجماعة، وانصرف إلى معسكره. [3] وفي هذه السنة: وثب الجند بعد مقتل محمد بخمسة أيام بطاهر، وشهروا السلاح، ونادوا: يا منصور. / فهرب منهم طاهر، وتغيب أياما حتى أصلح أمرهم.
وكان السبب أنه لم يكن عنده مال، فضاق به الأمر فهرب، وانتهب بعض متاعه، ومضى إلى عقرقوف [4] ، وتهيأ لقتالهم بمن معه من القواد، فأتوه واعتذروا، وأحالوا على السفهاء والأحداث، وسألوه الصفح عَنْهُمْ، فأمر لهم برزق أربعة أشهر، وكان قد أمر بحفظ أبواب المدينة، وباب القصر على أم جعفر، وموسى، وعبد الله ابني محمد، ثم أمر بتحويل زبيدة وموسى وعبد الله معها من قصر أبي جعفر إلى الخلد، فحوّلوا ليلة الجمعة لاثنتي عشرة ليلة بقيت من ربيع الأول، ثم أمر بحمل موسى وعبد الله إلى عمهما. [5] وفي هذه السنة: ورد كتاب المأمون بعد قتل محمد على طاهر وهرثمة بخلع القاسم بْن هارون، فأظهرا ذَلِكَ، ووجها كتبهما به، وقرئ الكتاب بخلعه يوم الجمعة لليلتين بقيتا من شهر ربيع الأول.
وفي هذه السنة بويع للمأمون البيعة العامة.





مصادر و المراجع :

١- المنتظم في تاريخ الأمم والملوك

المؤلف: جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي (المتوفى: 597هـ)

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید