المنشورات

خلافة المأمون

واسمه: عبد الله بن هارون الرشيد، وكان يكنى أبا العباس في أيام الرشيد، وكان في خلافته تكنى بأبي جعفر تفاؤلا بكنية المنصور والرشيد في طول العمر.
ولد ليلة استخلف الرشيد في ربيع الأول سنة سبعين، وكان أبيض، أقنى، أعين، جميلا، طويل اللحية، قد وخطه/ الشيب، ضيق الجبهة، بخده خال أسود يعلوه صفرة، ساقاه دون سائر جسده صفراوين كأنهما طليا بالزعفران، وأمه أمة اسمها مراجل، ماتت بعد ولادته بقليل، فسلمه الرشيد إلى سعيد الجوهري، وكان من زمن صغره فطنا ذكيا.
أخبرنا أبو منصور القزاز قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بْن علي [بْن ثابت] [2] الخطيب قَالَ: أخبرني الأزهري قَالَ: حَدَّثَنَا إبراهيم بْن مُحَمَّد بْن عرفة قَالَ: قال أبو محمد اليزيدي: كنت أؤدب المأمون وهو في حجر سعيد الجوهري. قَالَ: فأتيته يوما وهو داخل، فوجهت إليه بعض خدمه [3] يعلمه بمكاني، فأبطأ علي، ثم وجهت آخر فأبطأ عليّ، فقلت لسعيد: إن هذا الفتى ربما تشاغل بالبطالة وتأخر. فَقَالَ: أجل، ومع هذا إذا فارقك عزم على خدمه، ولقوا منه أذى شديدا، فقومه بالأدب، فلما خرج أمرت بحمله فضربته سبع درر. قَالَ: فإنه ليدلك عينه من البكاء [1] إذ قِيلَ: هذا جعفر بن يحيى قد أقبل، فأخذ منديلا، فمسح عينيه، وجمع ثيابه، وقام إلى فراشه، فقعد عليه متربعا وقال: ليدخل. فدخل، فقمت إلى المجلس، وخفت أن يشكوني إليه، فألقى منه ما أكره، فأقبل عليه بوجهه وحدثه حتى أضحكه، وضحك إليه، فلما هم بالحركة دعى بدابته، وأمر غلمانه فسعوا بين يديه، ثم سأل عني، فجئت فَقَالَ: خذ علي ما بقي من جزئي، فقلت: أيها الأمير، أطال الله بقاءك، لقد خفت أن تشكوني إلى جعفر بن يحيى، ولو فعلت/ ذلك لتنكر لي. فقال: أتراني يا أبا محمد كنت أطلع الرشيد على هذا، فكيف بجعفر بن يحيى حتى أطلعه إني أحتاج إلى أدب [2] ، أدب يغفر الله لك بعد ظنك، خذ في أمرك، فقد خطر ببالك ما لا تراه أبدا، ولو عدت كل يوم مائة مرة [3] .
وروى الطالقاني قَالَ: قال الرشيد لأبي معاوية الضرير وهشيم: إني أسمع من ابني هذا- يعني المأمون- كلاما لست أدري أمن تلقين القيم عليه هو أم من قريحة؟
فادخلا إليه، فناظراه وأسمعا منه، وأخبراني بما تقفان عليه. فدخلا عليه وهو في أثواب صباه، فقالا له: إن أمير المؤمنين أمرنا بالدخول عليك ومناظرتك، فأي العلوم أحب إليك؟ قال: أمتعها لي. قالا: وما أمتعها لك. قَالَ: أثبتها عن ثقة، وأقربها من أفهام مستمعيها. فقال له هشيم: جئناك لنعلمك فتعلمنا. ثم أخبرا الرشيد فقالا: إن هذا شيء أوله لحقيق أن يرجى آخره، ثم أعتق عنه مائة عبد وأمة، وألزمها خدمته.
وبلغنا أن أم جعفر عاتبت الرشيد على تقريبه المأمون دون ابنها محمد، فدعا خادما بحضرتها، وقال لَهُ: وجه إلى عبد الله ومحمد خادمين حصيفين يقولان لكل واحد منهما عَلَى الخلوة: ما يفعل به إذا أفضت الخلافة إِلَيْهِ؟. فأما محمد فقال للخادم الذي مضى إليه: أقطعك وأوليك وأبلغ لك. وأما المأمون فرمى الخادم بالدواة وقال: يا ابن اللخناء تسلني ما أفعل بك بموت أمير المؤمنين؟ بل نكون جميعا فداء له. فرجع بالخبر/ كل منهما. فقال لأم جعفر: كيف ترين ما أقدم ابنك إلا متابعة لرأيك وتركا للجزع، وقد كان المأمون يعنى بالعلم قبل ولايته كثيرا حتى جعل لنفسه مجلس نظر.
أَخْبَرَنَا ابن ناصر قَالَ أَخْبَرَنَا أَبُو الحسين بْنِ أَيُّوبَ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو عَلِيِّ بْنُ شَاذَانَ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو علي الطوماري قَالَ: أخبرنا أبو الحسين بن الفهم قَالَ: حدثنا يحيى بن أكثم قَالَ: كان المأمون قبل تقلده الخلافة يجلس للنظر، فدخل يهودي حسن الوجه، طيب الرائحة، حسن الثوب، فتكلم فأحسن الكلام، فلما تقوض المجلس دعاه المأمون فقال لَهُ: إسرائيلي؟ قَالَ: نعم. قَالَ: أسلم حتى أفعل لك وأصنع. فَقَالَ:
ديني ودين آبائي فلا تكشفني. فتركه، فلما كان بعد سنة جاءنا وهو مسلم، فتكلم في الفقه [1] ، فأحسن الكلام، فلما تقوض المجلس دعاه المأمون فَقَالَ: ألست صاحبنا؟
قَالَ: نعم. قَالَ: أي شيء دعاك إلى الإسلام، وقد كنت عرضته عليك فأبيت؟ قَالَ:
إني أحسن الخط، فمضيت فكتبت ثلاث نسخ من التوراة، فزدت فيها ونقصت وأدخلتها الكنيسة، فبعتها، فاشتريت. قَالَ: وكتبت ثلاث نسخ من الإنجيل، فزدت فيها ونقصت فأدخلتها إلى البيعة فاشتريت مني. قَالَ: وعمدت إلى القرآن فكتبت ثلاث نسخ فزدت فيها ونقصت، وأدخلتها إلى الوراقين، فكلما تصفحوها قرءوا الزيادة والنقصان ورموا بها، فعلمت أن هذا الكتاب محفوظ، فكان سبب إسلامي.
قال يحيى بن أكثم: فحججت فرأيت سفيان/ بن عيينة فحدثته بهذا الحديث فقال لي: مصداق هذا في كتاب الله عز وجل. قُلْتُ: في أي موضع؟ قَالَ: في قوله عز وجل في التوراة والإنجيل: بِمَا اسْتُحْفِظُوا من كِتابِ الله وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ 5: 44 [2] فجعل حفظه إليهم فضاع. وقال الله عز وجل: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ 15: 9 [3] .
فحفظه الله تعالى علينا فلم يضع.
أخبرنا القزاز [4] قال: أخبرنا أحمد بن علي قال: أخبرنا الحصين بن أبي بَكْر قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بن عبد الله الشافعي قال: حدثنا عمر بن حفص السدوسي قال: حَدَّثَنَا محمد بن يزيد قَالَ: استخلف المأمون في المحرم سنة ثمان وتسعين [ومائة] [1] ، وقد سلّم عليه بالخلافة قبل ذلك ببلاد خراسان نحو سنتين، وخلع أهل خراسان وغيرها محمد بن هارون [2] .
فصل
ولما استوثق الأمر للمأمون ولى الحسن بن سهل كل ما افتتحه طاهر بن الحسين من كور الجبال وفارس والأهواز والكوفة والبصرة والحجاز واليمن، وكتب المأمون إلى طاهر بتسليم جميع ما في يده من الأعمال في البلدان إلى خلفاء الحسن بن سهل، وولاه الموصل والجزيرة والشام والمغرب، فقدم علي بن سعيد الوراق خليفة الحسن بن سهل على خراجها، فدافع طاهر عليا بتسليم الخراج إليه حتى وفى الجند أرزاقهم، ثم سلم إليه العمل.






مصادر و المراجع :

١- المنتظم في تاريخ الأمم والملوك

المؤلف: جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي (المتوفى: 597هـ)

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید