المنشورات

في أول المحرّم بعد ما تفرق الحاج من مكة جلس حسين بن حسن الأفطس خلف المقام على نمرقة مثنية

وأمر بالكعبة فجردت من الثياب حتى بقيت حجارة مجردة، ثم كساها ثوبين من قز، كان أبو السرايا وجههما معه [1] عليهما مكتوب: مما أمر به الأصفر بن الأصفر أبو السرايا داعية آل محمد، لكسوة بيت الله الحرام، وأن يطرح عنه كسوة الظلمة من ولد العباس ليطهره من كسوتهم، وكتب في سنة تسع وتسعين ومائة.
ثم أمر حسين بالكسوة التي كانت على الكعبة فقسمت بين أصحابه العلويين وأتباعهم، وعمد إلى ما في خزانة الكعبة من مال فأخذه، ولم يسمع بأحد عنده وديعة لأحد من ولد العباس وأتباعهم إلا هجم عليه في داره، فإن وجد من ذلك شيئا أخذه، وإذا لم يجد شيئا حبسه وعذبه حتى يفتدي نفسه [2] .
وهرب كثير من الناس، فهدم دورهم، وجعلوا يحكون الذهب الرقيق الّذي في رءوس أساطين المسجد الحرام، فيخرج من الأسطوانة بعد التعب الشديد [3] قدر مثقال، وقلعوا شباك زمزم فبيع بالثمن [4] .
ومن الحوادث/ في هذه السنة: هرب أبي السرايا من الكوفة، ودخول هرثمة إليها، وكانت هزيمته بمن معه من الطالبيين ليلة الأحد لأربع عشرة بقيت من المحرم سنة مائتين حتى أتوا القادسية، ودخل منصور بن المهدي وهرثمة الكوفة صبيحة تِلْكَ الليلة، وأمنوا أهلها، ولم يعرضوا لأحد منهم، فأقاموا بها يومهم إلى العصر، ثم رجعوا إلى معسكرهم، وخلفوا بها رجلا منهم يقال لَهُ: غسان بن [أبي] [1] الفرج.
ثم إن أبا السرايا خرج من القادسية هو ومن معه، حتى أتوا ناحية واسط، وكان بواسط علي بن أبي سعيد وأصحابه، وكانت البصرة بيد العلويين بعد، فجاء أبو السرايا حتى عبر دجلة أسفل واسط، فوجد مالا كان قد حمل من الأهواز، فأخذه، ثم مضى إلى السوس، فنزل بمن معه، فأقام أربعة أيام، وخرق على أصحابه مالا. فلما كان في اليوم الرابع أتاهم الحَسَن بن علي الباذغيسي، فأرسل إليهم: اذهبوا حيث شئتم، فلا حاجة لي في قتالكم، وإذا خرجتم من عملي فلست أتبعكم. فأبى أبو السرايا إلا قتاله، فقاتلهم فهزمهم الحسن، واستباح عسكرهم وهرب أبو السرايا، فلحق، فأتي به الحسن بن سهل فضرب عنقه يوم الخميس لعشر خلون من ربيع الأول، وطيف برأسه في المعسكر، وبعث بجسده إلى بغداد، فصلب بصفين على الجسرين، فكان من زمن خروجه إلى وقت مقتله عشرة أشهر، والذي كان/ بالبصرة من الطالبيين زيد بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن أبي طَالِب الّذي يقال له: زيد النار- وإنما قيل له ذَلِكَ لكثرة ما حرق من دور بني العباس وأتباعهم بالبصرة- فتوجّه إليه علي بن سعيد فأخذه أسيرا فحبسه، وقيل: إنه طلب منه الأمان فأمنه [2] .
وفي هذه السنة: خرج إبراهيم بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي باليمن، وذلك أنه كَانَ بمكة، فلما بلغه خبر أبي السرايا والطالبيين بالعراق خرج باليمن في جماعة من أهل بيته، ووالي اليمن [3] المقيم بها من قبل المأمون إسحاق بن موسى العلوي وقربه من صنعاء، وخرج منصرفا عن اليمن بعسكره وخلى اليمن لإبراهيم بن موسى، وكره قتاله، وذهب نحو مكة، فلما أراد دخولها منعه من بها من العلويين، وكان [يقال] : [1] لإبراهيم بن مُوسَى الجزار [2] لكثرة من قتل باليمن من الناس وسبى، وأخذ من الأموال [3] .
وفي هذه السنة: وجه بعض ولد عقيل بن أبي طالب من اليمن في جند كثيف ليحج بالناس، فحورب العقيلي وهزم، ولم يقدر على دخول مكة، ومرت به قافلة من الحاج والتجار، وفيها كسوة الكعبة وطيبها، فانتهب ذلك، وكان على الموسم أبو إسحاق بن الرشيد، فبعث إليه من قتل من أصحابه وهرب الباقون. [4] وفيها: بويع لمحمد بن جعفر بن محمد بن علي بن حسين بن علي بن أبي طَالِب، وذلك أن حسين بن حسن الذي حكينا عنه ما فعل بمكة عن أمر أبي السرايا لما تغير الناس لَهُ لسوء سيرته/، وبلغه أن أبا السرايا قد قتل، وأنه قد طرد من كان بالكوفة والبصرة وكور العراق [5] من الطالبيين، ورجعت الولاية بها لولد العباس، اجتمعوا إلى محمد بن جعفر بْن محمد بن علي- وكان شيخا محببا في الناس، حسن السيرة، يروي العلم والناس يكتبون عَنْه، ويظهر زهدا وسمتا- فقالوا لَهُ: قد نعلم حالك في الناس، فأبرز شخصك نبايع لك بالخلافة، فإنك إن فعلت ذلك لم يختلف عليك اثنان، فأبى عليهم، فلم يزل ابنه به وحسين بن حسن الأفطس، حتى غلباه على رأيه، فأجابهم، فأقاموه بعد صلاة الجمعة لثلاث خلون من ربيع الآخر، فبايعوه بالخلافة، وحشروا إليه الناس من أهل مكة والمجاورين، فبايعوه طوعا وكرها، فأقام كذلك أشهرا، وليس له من الأمر سوى الاسم.
ثم أقبل إسحاق بن موسى بن عيسى العباسي من اليمن، فاجتمع العلويون [6] إلى محمد بْن جعفر، فقالوا لَهُ: هذا إسحاق بن موسى قد أقبل في الخيل والرحل، وقد رأينا أن نخندق على مكَّةَ ونحاربه. فقاتلوه أياما، ثم كره إسحاق القتال فرجع، ثمّ ردّ عليهم،وكانت الهزيمة على محمد بن جعفر وأصحابه، فطلب محمد الأمان حتى يخرج من مكة فأمنوه.
ودخل إسحاق في جمادى الآخرة، وتفرق الطالبيون كل قوم في ناحية، ومضى محمد بن جعفر بجمع الجموع، وجاء إلى والي المدينة فخاصمه، فهزم محمد، وفقئت عينه، وقتل من أصحابه خلق كثير.
ثم رده قوم من الولاة إلى مكة، وضمنوا له الأمان، فرقا المنبر بمكة وقال: إنه بلغني أن المأمون مات، فدعاني الناس إلى أن يبايعوا لي، وقد صح/ عندي أنه حي، وأنا استغفر الله مما دعوتكم إليه من البيعة، وقد خلعت نفسي من البيعة. فخرج به عيسى بن يزيد إلى الحسن بن سهل، فبعث بن الحسن إلى المأمون [1] .
وفي هذه السنة: خالف علي بن أبي سعيد الحسن بن سهل، فبعث المأمون بسراج الخادم وقَالَ لَهُ: إن وضع يده في يد الحسن أو يشخص إلينا، وإلا فأضرب عنقه.
فشخص إلى المأمون [2] .
وفيها: خرج هرثمة إلى المأمون، وكان قد أتته كتب المأمون أن يلي الشام والحجاز. فأبى، وقَالَ: لا أرجع حتى ألقى أمير المؤمنين، إدلالا منه، لما كان يعرف من نصيحته لَهُ ولآبائه، وأراد أن يلقى المأمون فيعرفه ما يدبر عليه الفضل بن سهل، وما يكتم عنه من الأخبار، وأن لا يدع المأمون حتى يرده إلى بغداد دار الخلافة وملك بني العباس، فعلم الفضل ما يريد، فقال للمأمون إن هرثمة قد أنغل عليك العباد والبلاد، وظاهر عليك عدوك، وعادى وليك، ودس أبا السرايا، ولو شاء هرثمة لم يفعل أبو السرايا ما فعل، وقد كتب إليه أمير المؤمنين عدة كتب: أن يمضي إلى الشام والحجاز، فأبى وقد جاء إلى أمير المؤمنين غاضبا، وأبطأ هرثمة في السير، فلما قدم ضرب الطبل لكي يعلم المأمون بقدومه، فَقَالَ المأمون: ما هذا؟ فقالوا: هرثمة [قد] [3] أقبل يبرق ويرعد، وظن هرثمة أن قوله المقبول، فلما دخل قال له المأمون: مالأت أهل الكوفة والعلويين،وداهنت ودسست إلى أبي السرايا حتى خرج وعمل ما عمل، وقد كان رجلا من أصحابك، ولو أردت أن تأخذه لأخذته/ فذهب هرثمة ليعتذر، فلم يسمع منه، وأمر به فوجئ على أنفه، وديس في بطنه، وسحب على وجهه من بين يديه، وقد تقدم الفضل بن سهل إلى الأعوان بالغلظة عليه والتشديد، حتى حبس، فمكث في الحبس أياما، ثم دس إليه من قتله، وقالوا مات. [1] .
وفيها: وقع شغب ببغداد بين الجند والحسن بن سهل، وذلك أن الحسن بعث إلى علي بن هشام وهو والي بغداد من قبله: أن امطل الجند أرزاقهم، ومنهم ولا تعطهم.
وكان الجند قد قالوا: لا نرضى حتى تطرد الحسن بن سهل وعماله عن بغداد.
فطردوهم، وصيروا إسحاق بْن المهدي خليفة للمأمون ببغداد، وجاء علي بن هشام فقاتل الجند أياما على قنطرة الصراة والأرحاء، ثم وعدهم أن يعطيهم رزق ستة أشهر إذا أدركت الغلة، فسألوه أن يعجل لكل رجل منهم خمسين درهما لينفقوها في رمضان، ففعل، فبينا هم كذلك خرج عليهم زيد بن موسى بن جعفر الذي كان بالبصرة، المعروف بزيد النار، وذلك أنه كان محبوسا عند علي بن أبي سعيد، فأفلت من الحبس.
وخرج بناحية الأنبار، ومعه أخو أبي السرايا في ذي القعدة سنة مائتين، فبعثوا إِلَيْهِ، فأخذ وأتوا به علي بن هشام، فلم يلبث إلا جمعة حتى هرب [2] .
وفيها: أحصي ولد العباس فبلغوا ثلاثة وثلاثين ألفا ما بين ذكر وأنثى. [3] وفيها: قتلت الروم ملكها أليون [4] ، وكان قد ملك عليهم سبع سنين/ وستة أشهر، وملكوا عليهم ميخائيل مرة ثانية [5] .
وفيها: قتل المأمون يحيى بن عامر بن إسماعيل، وذلك أن يحيى أغلظ له، فقال لَهُ: أمير الكافرين، فقتل بين يديه في ذي القعدة [6] .

وحج بالناس في هذه السنة أبو إسحاق ابن الرشيد [1] .





مصادر و المراجع :

١- المنتظم في تاريخ الأمم والملوك

المؤلف: جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي (المتوفى: 597هـ)

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید