المنشورات

العهد الّذي كتبه المأمون بخطّه لعلي ابن موسى الرّضا [عليهما السلام]

بسم الله الرحمن الرحيم. هذا كتاب كتبه عبد الله بن هارون الرشيد أمير المؤمنين بيده لعلي بن موسى بن جعفر ولي عهده.
أما بعد: فإن الله اصطفى الإسلام دينا، واصطفى له عباده رسلا دالين عَلَيْهِ، وهادين إِلَيْهِ، يبشر أولهم بآخرهم، ويصدق تاليهم ماضيهم، حتى انتهت نبوة اللَّهُ تَعَالَى إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم على فترة من الرسل، ودروس من العلم، وانقطاع من الوحي، واقتراب من الساعة، فختم الله به النبيين، وجعله شاهدا لهم، ومهيمنا عليهم، وأنزل عليه كتابه العزيز الذي لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ من حَكِيمٍ حَمِيدٍ 41: 42 [2] بما أحل وحرم، ووعد وأوعد، وحذر وأنذر، ليكون له الحجة البالغة على خلقه، لِيَهْلِكَ من 8: 42
هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ، وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ، وَإِنَّ الله لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ 8: 42. [1] فبلغ عن الله رسالته، ودعا إلى سبيله بما أمره به من الحكمة والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هي أحسن، ثم الجهاد والغلظة حتى قبضه الله إليه، واختار له ما عنده صلَّى اللَّه عليّه وسلم، فلما انقضت النبوة، وختم الله بمحمد الوحي والرسالة، جعل قوام الدين ونظام أمر المسلمين بالخلافة، وإتمامها وعزها، والقيام بحق الله فيها بالطاعة التي بها [2] تقام فرائض الله وحدوده/ وشرائع الإسلام وسننه، ويجاهد بها عدوه، فعلى خلفاء الله طاعته فيما استخلفهم، واسترعاهم من أمر دينه وعباده، وعلى المسلمين طاعة خلفائهم ومعاونتهم على إقامة حق الله وعدله، وأمن السبل، وحقن الدماء، وإصلاح ذات البين، وجمع الألفة، وفي خلاف ذلك اضطراب أمر المسلمين، واختلاف ملتهم، وقهر دينهم، واستعلاء عدوهم، وتفرق الكلمة، وخسران الدنيا والآخرة، فحق على من استخلفه في أرضه، وائتمنه على خلقه أن يجهد للَّه نفسه، ويؤثر على ما فيه رضى الله وطاعته، ويعمل لما الله واقفه عَلَيْهِ [3] ، وسائله عنه، ويحكم بالحق، ويعمل بالعدل فيما حمله الله وقلده، فإن الله عز وجل يقول لنبيه داود عليه السلام: يَا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ 38: 26 [4] وقال تعالى: فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ 15: 92- 93 [5] .
وبلغنا أن عمر بن الخطاب قَالَ: لو ضاعت سخلة بشاطئ الفرات لتخوفت أن يسألني اللَّه عنها، وأيم الله إن المسئول عن خاصة نفسه على عمله فيما بين الله وبينه ليعرض أمر كبير على خطر عظيم، فكيف بالمسئول عن رعاية الأمة، وباللَّه الثقة، وإليه المفزع والرغبة في التوفيق والعصمة والتسديد والهداية إلى ما فيه ثبوت الحجة، والفوز من الله، والرضوان والرحمة، وأنظر الأئمة لنفسه وأنصحهم للَّه في دينه وعباده، وخلافته في أرضه من عمل بطاعته ودينه وسنة نبيه عليه السلام في/ [مدة] [6] أيامه وبعدها،فأجهد رأيه ونظره فيمن يوليه عهده، ويختاره لإمارة المسلمين ورعايتهم بعده، وينصبه علما لهم [1] ، ومفزعا في جمع ألفتهم، ولم شعثهم، وحقن دمائهم، والأمن بإذن الله من فرقتهم، وفساد ذات بينهم، واختلافهم، ورفع نزغ الشيطان وكيده عَنْهُمْ، وإن الله عز وجل جعل العهد بعد الخلافة من تمام أمر الإسلام وكماله وعزه وصلاح أهله، وأنهم خلفاؤه من توكيده لمن يختارونه لهم من بعدهم ما عظمت به النعمة، وسلمت فيه العاقبة، وينقض [2] الله بذلك الشقاق [3] والعداوة، والسعي في الفرقة، والتربص للفتنة، ولم يزل أمير المؤمنين مذ أفضت إليه الخلافة، فاختبر بشاعة مذاقها، وثقل محملها، وشدة مئونتها، وما يجب على من تقلدها من ارتباط طاعة الله ومراقبته فيما حمله فيها وأنصب بدنه، وأسهر عينه، وأطال فكره فيما فيه عز الدين، وقمع المشركين، وصلاح الأمة، ونشر العدل، وإقامة الكتاب والسنة، ومنع ذلك من الخفض، والدعة، ومهنأ العيش، علما بما الله سائله عنه، ومحبته أن يلقى الله مناصحا في دينه وعباده، ومختارا لولاية عهده ورعاية الأمة من بعده أفضل ما يقدر عليه في دينه وورعه، وأرجاهم للقيام بأمر الله وحقه، مناجيا للَّه [4] بالاستخارة في ذَلِكَ، ومسألته [5] إلهامه ما فيه رضاه/ وطاعته في آناء ليله ونهاره، معملا في طلبه، والتماسه [6] في أهل بيته من ولد عبد الله بن العباس وعلي بن أبي طالب، فكره ونظره، مقتصرا فيمن علم حاله، ومذهبه منهم على الحق علما بالغا في المسألة فيمن خفي عليه أمره، وجهده وطاقته، حتى استقضى أمورهم معرفة، وابتلى أخبارهم مشاهدة، وكشف ما عندهم مساءلة، فكانت خيرته بعد استخارته للَّه، وإجهاد نفسه في قضاء حقه في عباده من البيتين جميعا:
علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، لما رأى من فضله البارع، وعلمه الناصع، وورعه الظاهر، وزهده الخالص، وتخلية من الدنيا،ومسلمته من الناس، فقد استبان له ما لم تزل الأخبار عليه متواطئة، والألسن متفقة، والكلمة فيه جامعة، وما لم يزل يعرفه [به] [1] من الفضل، يافعا وناشئا، وحدثا ومكتهلا، فعقد له العهد والولاية من بعده، واثقا بخيرة الله في ذلك، إذ علم الله من فعله إيثارا لَهُ وللدين، ونظرا للمسلمين، وطلبا للسلامة، وثبات الحجة، والنجاة في اليوم الّذي يقوم الناس فيه لرب العالمين، ودعا أمير المؤمنين ولده وأهل بيته وخاصته وقواده وجنده، فبايعوه مسارعين مسرورين عالمين بإيثار أمير المؤمنين طاعة الله على الهوى في ولده وغيرهم/ ممن هو أشبك رحما، وأقرب قرابة، وسماه الرضي، إذ كان رضا عند أمير المؤمنين، فبايعوه معشر بيت أمير المؤمنين، ومن بالمدينة المحروسة من قواده وجنده وعامة المسلمين لأمير المؤمنين والرضي من بعده على اسم الله وبركته وحسن قضائه لدينه وعباده، بيعة مبسوطة إليها أيديكم، منشرحة لها صدروكم، عالمين ما أراد أمير المؤمنين بها، وأثر طاعة الله، والنظر لنفسه ولكم فيها، شاكرين للَّه على ما ألهم أمير المؤمنين من قضاء حقه في رعايتكم، وحرصه على رشدكم وصلاحكم، راجين عائدة الله في [2] جمع ألفتكم، وحقن دمائكم، ولم شعثكم، وسد ثغوركم، وقوة دينكم، وقمع عدوكم، واستقامة أموركم، فسارعوا إلى طاعة الله وطاعة أمير المؤمنين، فإنه الأمر إن سارعتم إليه، وحمدتم الله عليه، عرفتم الحظ فيه إن شاء الله، وكتب بيده لسبع خلون من شهر رمضان المعظم قدره سنة إحدى ومائتين.
وكتب الرضي [عليه السلام] [3] كلمات منها أنه كتب عند قوله: اختار من البيتين جميعا علي بن موسى بن جعفر، كتب تحته: وصلتك رحم وجزيت خيرا.
وكتب تحت مدحه إياه بقوله: وورعه وزهده: أثنى الله عليك فأجمل، / وأجزل لك الثواب فأكمل.
وكتب تحت قوله: فعقد له العهد بعده: بل جعلت فداك وكتب تحت قوله: وسماه الرضي: رضي الله عنك وأرضاك وأحسن في الدارين جزاك.





مصادر و المراجع :

١- المنتظم في تاريخ الأمم والملوك

المؤلف: جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي (المتوفى: 597هـ)

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید