المنشورات

الفضل بن الربيع بن يونس بن محمد بن أبي فروة، واسم أبي فروة: كيسان، وكنية الفضل: أبو الْعَبَّاس

وكان حاجب [2] الرشيد والأمين. وكان أبو العباس أبوه حاجب [3] المنصور والمهدي. وأسند الحديث عَن حميد الطويل، ولما أفضت الخلافة إلى الأمين قدم الفضل عليه من خراسان بالأموال/ والقضيب والخاتم، وكان في صحبة الرشيد إلى أن مات الرشيد [4] بطوس، فأكرمه الأمين وقربه وألقى إليه [5] أن دبر الأمور، وعول عليه في المهمات، وفوض إليه ما وراء بابه، فكان هو الَّذِي يولي ويعزل وتخلى الأمين مستريحا، واحتجب عن الناس فقال أبو نواس:
لعمرك ما غاب الأمين محمد ... عن الأمر يعنيه إذا شهد الفضل
ولولا مواريث الخلافة أنها ... له دونه ما كان بينهما فضل [6]
وإن كانت الأخبار فيها تباين ... فقولهما قول وفعلهما فعل
أرى الفضل للدنيا وللدين جامعا ... كما السهم فيه الفوق والريش والنصل [7]
فلما خلع الأمين، وجاء المأمون إلى بغداد لمحاربته هرب الفضل بن الربيع، فلما قتل الأمين نفى الفضل وطاهر بن الحسين ببغداد فثنى عنانه معه وقَالَ: إن هذا العنان ما ثني إلا لخليفة، فقال له طاهر: صدقت، فسل ما شئت فَقَالَ: تكلم لي أمير المؤمنين فكلمه، فصفح عنه.
وله في هربه قصة طريفة.
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي طَاهِرٍ، أَخْبَرَنَا أَبُو القاسم علي بن المحسن التنوخي، عن أَبِيهِ قَالَ: حدثني علي بن هشام الكاتب قَالَ: حدثنا علي بن مقلة قَالَ: حدثني أبو عيسى بْن سعيد الديناري، عن أبي أيوب سليمان بن وهب، عن ابن طالوت كاتب ابن وهب [1] قَالَ: سَمِعْتُ الفضل بن الربيع يَقُولُ: لما استترت عن المأمون أخفيت نفسي عن عيالي وولدي، وكنت أستقل وحدي، فلما قرب المأمون من بغداد زاد حذري وخوفي على نفسي فشددت في الاحتياط والتواري وأفضيت إلى منزل بزاز كنت أعرفه بباب الطاق، وشدد المأمون في/ طلبي، فلم يعرف لي خبرا، فتذكرني يوما واغتاظ وجد بإسحاق بن إبراهيم في طلبي وأغلظ له، فخرج إسحاق من حضرته، فجد بأصحاب الشرط حتى أوقع ببعضهم المكاره، ونادى في الجانبين بأن من جاء بي فله عشرة آلاف درهم وأقطاع بثلاثة آلاف دينار كل سنة، وأن من وجدت عنده بعد النداء ضرب خمسمائة سوط، وهدمت داره، وأخذ ماله، وحبس طول عمره، فما شعرت إلا بصاحب الدار قد دخل علي فأخبرني بخبر النداء، وقال: والله ما أقدر بعد هذا على سترك ولا آمن زوجتي ولا جاريتي ولا غلامي، تشره نفوسهم إلى المال فيدلون عليك فأهلك بهلاكك، فإن صفح الخليفة [عنك] [2] لم آمن أن تتهمني [أنت] [3] أني دللت عليك، فيكون ذلك أقبح، وليس الرأي لي ولك إلا أن تخرج عني. فورد علي أعظم مورد وقلت: إذا جاء الليل خرجت عنك فَقَالَ: ومن يطيق الصبر على هذا إلى الليل، فإن وجدت عندي قبل الليل فكيف يكون حالي؟ وهذا وقت حار، وقد طال عهد الناس بك، فتنكر واخرج فقلت: وكيف أتنكر؟ قَالَ: تأخذ أكثر لحيتك، وتغطي رأسك، وتلبس قميصا ضيقا. ففعلت ذلك، وخرجت في أول أوقات العصر وأنا ميت جزعا، فمشيت في الشارع حتى بلغت الجسر فوجدته خاليا فتوسطته، فإذا بفارس من الجند الذين كانوا يتناوبون في داري أيام وزارتي قد قرب مني وعرفني فَقَال: طلبة أمير المؤمنين والله وعدل إلي ليقبض علي، فمن حلاوة النفس دفعته ودابته، فوقع في بعض سفن البحر، وأسرع الناس لتخليصه وظنوا أنه/ قد زلق لنفسه فزدت أنا المشي من غير عدو لئلا ينكر حالي، إلى أن عبرت الجسر، ودخلت درب سليمان، فوجدت امرأة على باب دار مفتوح، فقلت لها: يا امْرَأَة، أنا خائف من القتل فأجيريني واحفظي دمي. قالت: ادخل فأومأت إلى غرفة فصعدتها. فلما كان بعد ساعة إذا بالباب قد دق، فدخل زوجها فتأملته، فإذا هو صاحبي على الجسر، وهو مشدود الرأس يتأوه من شجة لحقته، فسألته المرأة عن خبره، فأخبرها بالقصة وقال لها: قد زمنت دابتي، وقد نفذت بها تباع للحم، وقد فاتني الفتى وجعل يشتمني وهو لا يعلم أني في الدار، فأقبلت [1] المرأة ترقق به حتى [يهدأ] [2] قالت: أَحْمَد الله الذي حفظك ولم تكن سببا [3] لسفك دمه. فلما اختلط الظلام صعدت المرأة إلي فقالت: أظنك صاحب القصة مع هذا الرجل فقلت: نعم فقالت: قد سمعت ما عنده فاتق الله عز وجل في نفسك. واخرج فدعوت لها وخرجت، فوجدت الحراس قد أغلقوا الدروب [4] . فتحيرت، ثم رأيت رجلا يفتح بابا بمفتاح رومي. فقلت: هذا غريب [ليس عنده أحد] [5] ، فدنوت منه، فقلت: استرني سترك اللَّه قَالَ: ادخل فأقمت [عنده] [6] ليلتي، فخرج من الغد وعاد ومعه حمالان: على رأس أحدهما حصير، ومخدة، وجرار، وكيزان، وغضائر جدد، وقدر جديدة، وعلى الآخر:
خبز، وفاكهة، ولحم، وثلج. فدخل فترك ذاك عندي وأغلق الباب، فنزلت وعدلته وقلت لَهُ: لم تكلفت هذا؟ فقال: أنا رجل مزين [7] ، وأخاف أن تستقذرني، وقد أفردت هذا لك، فاطبخ وأطعمني في غضارة أجيء بها من عندي، فأقمت عنده ثلاث ليال، وقلت له في الرابعة: الضيافة ثلاث، وقد أحسنت، وأريد الخروج/ فَقَالَ: لا تفعل، فإني وحيد ولست ممن يطرق بيته أحد ولا تحذر أن يفشو [لك] خبر [8] من عندي أبدًا، فأقم [9] إلى أن يفرج الله عنك. فأبيت، وخرجت فمشيت حتى بلغت باب التين أريد عجوزا من موالينا، فدققت عليها الباب، فخرجت فلما رأتني بكت وحمدت الله تعالى على سلامتي، وأدخلتني الدار ثم بكرت وسعت بي، فما شعرت إلا بإسحاق بخيله ورجله قد أحاط بالدار، فأخرجني حتى وقفني بين يدي المأمون حافيا حاسرا، فلما بصرني المأمون سجد طويلا ثم رفع رأسه. فَقَالَ: يا فضل، تدري لم سجدت؟ فقلت:
شكرا للَّه إذ أظفرك الله بعدو [1] دولتك والمغري بينك وبين أخيك. فَقَالَ: ما أردت هذا، ولكني سجدت شكرا للَّه تعالى على أن أظفرني بك وألهمني [من] [2] العفو عنك، حدثني بخبرك. فشرحته من أوله إلى آخره فأمر بإحضار المرأة مولاتنا، وكانت في الدار تنتظر الجائزة فقال لها: ما حملك على ما فعلت مع إنعامه [3] وإنعام أهله عليك؟ قالت:
رغبت في المال قال: فهل لك من ولد أو زوج أو أخ؟ قالت: لا فأمر بضربها مائتي سوط، وأن تخلد الحبس، ثم قال لإسحاق: أحضر الساعة الجندي وامرأته والمزين فأحضروا، فسأل الجندي عن السبب الذي حمله على فعله، فقال: الرغبة في المال.
فَقَالَ: أنت أولى [4] أن تكون حجاما ليس يحسن أن يكون مثلك [5] من أوليائنا وأمر بأن يسلموه [6] إلى المربين في الدار [7] ويوكل به من يسومه تعلم الحجامة، وأمر باستخدام زوجته في قهرمة دور حرمه. وقَالَ: هذه امرأة عاقلة دينة، وأمر بتسليم دار/ الجندي وقماشه [8] إلى المزين، وأن يجعل رزقه لَهُ، ويجعل [9] جنديا مكانه. وأطلقني إلى داري فرجعت آمنا مطمئنا [وفي رواية أخرى: أن المأمون أمر لتلك المرأة التي أمرته أن يخرج مخافة شر زوجها بثلاثين ألف درهم، فقالت: لست آخذ على فعل فعلته له جزاء إلا منه. وردت المال. وتوفي الفضل في ذي القعدة من هذه السنة] [10] .





مصادر و المراجع :

١- المنتظم في تاريخ الأمم والملوك

المؤلف: جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي (المتوفى: 597هـ)

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید