المنشورات

إسماعيل بن القاسم بن سويد بن كيسان، أبو إسحاق العنزي المعروف بأبي العتاهية الشاعر

ولد سنة ثلاثين ومائة، أصله من عين التمر، ومنشؤه الكوفة، ثم سكن بغداد، وكان يقول في الغزل والمديح والهجاء، ثم تنسك وصار قوله في الوعظ والزهد. وأبو العتاهية لقب.
قال أبو زكريا يحيى بن علي الزبيري: العتاهية من التعته وهو التحسن والتزين، قال: وقد كان يتحسن في زمن شبابه، ومن أسباب ذَلِكَ:
ما أخبرنا به [أَبُو] منصور القزاز [9] قَالَ أَخْبَرَنَا الخطيب قَالَ: أخبرني علي بن أيوب القمي قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن عمران المرزباني قَالَ: أخبرنا محمد بن يحيى قَالَ: حدثني محمد بن موسى البربري قَالَ: أخبرني أبو عبد الله محمد بن علي الهاشمي، عَن أبي شعيب أحمد بن يزيد قَالَ: قلت لأبي العتاهية، حدثني بقصتك مع عتبة، فقال [لي] [1] : أحدثك إنا قدمنا من الكوفة ثلاثة فتيان شبابا أدباء، ليس لنا ببغداد من نقصده، فنزلنا غرفة بالقرب من الجسر، وكنا نبكر فنجلس في المسجد الذي بباب الجسر في كل غداة، فمرت بنا يوما امرأة راكبة معها خدم سود، فقلنا: من هذه؟ قالوا:
خالصة، فقال أحدنا: قد عشقت [خالصة] [2] وعمل فيها شعرا. فأعناه عليه، ثم لم نلبث أن مرت أخرى راكبة معها خدم بيض، فقلنا: من هذه؟ قالوا: عتبة، فقلت: قد عشقت عتبة [3] فلم نزل كذلك في كل يوم إلى أن التأمت لنا أشعار كثيرة فدفع صاحبي بشعره إلى خالصة، ودفعت أنا شعري إلى عتبة، وألححنا إلحاحا شديدا/ فمرة تقبل أشعارنا، ومرة نطرد، إلى أن جدوا في طردنا فجلست عتبة يوما في أصحاب الجوهر، ومضيت فلبست ثياب راهب، ودفعت ثيابي إلى إنسان كان معي، وسألت عن رجل كبير من أهل السوق، فدللت على شيخ صائغ، فجئت إليه فقلت: إني رغبت في الإسلام على يد هذه [4] المرأة، فقام معي وجمع جماعة من أهل السوق وجاءها، فَقَالَ: إن الله ساق لك أجرا، هذا راهب قد رغب في الإسلام على يديك، قالت: هاتوه، فدنوت منها، فَقُلْتُ، أَشْهَدُ أَنَّ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وأن محمدا عبده ورسوله وقطعت الزنار، ودنوت فقبلت يدها، فلما فعلت ذلك رفعت البرنس فعرفتني، فقالت: نحوه لعنه الله، فقالوا:
لا تلعنيه فقد أسلم، فقالت: إنما فعلت لقذره، فعرضوا علي كسوة، فقلت: ليس بي [5] حاجة [هذه] [6] وإنما أردت أن أتشرف بولائها والحمد للَّه الذي منّ علي بحضوركم.
وجلست فجعلوا يعلمونني [7] الحمد، وصليت معهم العصر، وأنا في ذَلِكَ بين يديها أنظر إليها لا تقدر لي على حيلة، فلما انصرفت لقيت خالصة فشكت إليها فقالت: ليس يخلو هذان من أن يكونا عاشقين أو مستأكلين، فصح عزمهما على امتحاننا بمال على أن ندع التعرض [1] لهما، فإن قبلنا المال فنحن مستأكلان، وإن لم نقبله فنحن عاشقان، فلما كَانَ الغد مرت خالصة، فعرض لها [2] صاحبها، فقال له الخدم: اتبعنا فتبعهم، ثم مرت عتبة فقال لي الخدم: اتبعنا فتبعتهم، فمضت بي إلى منزل خليط بزاز، فلما جلست، دعت بي، فقالت [لي] [3] : يا هذا، إنك شاب وأرى لك [4] أدبا/ وأنا حرمة خليفة [وقد تأنيتك] [5] فإن أنت كففت وإلا أنهيت أمرك [6] إلى أمير المؤمنين، ثم لم آمن عليك، قُلْتُ: فافعلي بأبي أنت وأمي [فإنك] [7] إن سفكت دمي أرحتني، فأسألك باللَّه إلا فعلت [8] ذلك، إذ لم يكن لي فيك نصيب، فأما الحبس والحياة ولا أراك، فأنت في حرج من ذلك، فقالت: لا تفعل يا هذا وابق على نفسك، وخذ هذه الخمس مائة دينار واخرج من هذا البلد. فلما سمعت ذكر المال وليت هاربا، فقالت: ردوه، فلم تزل تزدني فقلت: جعلت فداك، ما أصنع بعرض [من] الدنيا و [أنا] [9] لا أراك، وإنك لتبطئين يوما واحدا عن الركوب فتضيق بي الأرض بما رحبت. وهي تأبى إلا ذكر المال، حتى جعلت [لي] [10] ألف دينار، فأبيت وجاذبتها مجاذبة شديدة، وقلت: لو أعطيتيني جميع ما يحويه الخليفة ما كانت لي فيه حاجة، وأنا لا أراك [وأقنع بالفقد] [11] بعد أن أجد السبيل إلى رؤيتك. وخرجت فجئت الغرفة التي كنا ننزلها، فإذا صاحبي مورم الأذنين، وقد امتحن بمثل ما امتحنت، فلما مد يده إلى المال صفعوه، وحلفت خالصة لئن رأته بعد ذلك اليوم لتودعنه الحبس، فاستشارني في المقام، فقلت: اخرج وإياك أن تقدر عليك [1] ، ثم التقتا فأخبرت كل واحدة صاحبتها الخبر، وأحمدتني عتبة [2] ، وصح عندها أني محب محق [3] ، فلما كان بعد أيام دعتني عتبة وقالت: بحياتي عليك إن كنت تعزها إلا أخذت [4] ما يعطيك الخادم، فأصلح به شأنك فقد غمني سوء حالك، فامتنعت، فقالت: ليس هذا مما تظن، ولكني [5] لا أحب أن أراك في هذا الزي، فقلت: / لو أمكنني أن تريني في زي المهدي لفعلت ذاك، فأقسمت عليّ، فأخذت الصرّة، فإذا فيها ثلاثمائة دينار فاكتسيت كسوة حسنة [6] ، واشتريت حمارا [7] .
أخبرنا القزاز قال: أخبرنا أحمد بن علي قال: أخبرنا أبو الطيب طاهر بن عبد الله قَالَ: أَخْبَرَنَا الْمُعَافَى بْنُ زَكَرِيَّا قَالَ: أَخْبَرَنَا أحمد بن إبراهيم قال: حدثني علي بن محمد بن أبي عمرو البكري قال: حدثني علي بن عثمان قال: حدثني أشجع [8] السلمي قال: أذن لنا المهدي وللشعراء في الدخول عليه، فدخلنا، فأمرنا بالجلوس، فاتفق أن جلس إلى جنبي بشار، فسمع حسًا، فقال: يا أشجع، من هذا؟ فقلت: أبو العتاهية، فقال لي: أتراه ينشد في هذا المحفل؟ فقلت: أحسبه سيفعل، فأمره المهدي أن ينشد، فأنشده:
ألا ما لسيدتي ما لها
قال: فنخسني بمرفقه، ثم قال لي [9] : ويحك، رأيت أجسر [10] من هذا ينشد مثل هذا الشعر في مثل هذا الموضع حتى بلغ إلى قوله:
أتته [11] الخلافة منقادة ... إليه تجرر أذيالها
فلم تك تصلح إلا له ... ولم يك يصلح إلا لها
ولو رامها أحد غيره ... لزلزلت الأرض زلزالها
ولو لم تطعه بنات النفوس ... [1] لما قبل الله أعمالها
فقال بشار: [انظر] [2] ويحك يا أشجع، انظر هل طار الخليفة عن فراشه [3] ، قال: لا والله [4] ما انصرف أحد من ذلك المجلس بجائزة غير أبي العتاهية [5] .
أخبرنا عبد الرحمن [بن محمد] [6] قال أخبرنا أحمد بن علي/ قال: أنبأنا أبو يعلى أَحْمَد بن عبد الواحد الوكيل قال: أنبأنا إسماعيل بن سعيد المعدل قال: أخبرنا الحسين بن القاسم الكوكبي قال: قال لي أبو عبد الله محمد بن القاسم الكوكبي [7] قال: أخبرني العتبي قال: رأيت مروان بن أبي حفصة واقفا بباب الجسر، كئيبا حزينا آسفا ينكت بسوطه [8] في معرفة دابته، فقيل له: يا أبا السمط، ما الذي نراه بك؟ قال: أخبركم بالعجب، مدحت أمير المؤمنين فوصفت له ناقتي من خطامها إلى خفيها و [وصفت] [9] الفيافي من اليمامة إلى بابه أرضا أرضا، ورملة رملة، حتى [إذا] [10] أشفيت منه على غنى النفس والدهر جاء ابن بياعة العجاجير [11]- يعني أبا العتاهية- فأنشده بيتين فضعضع بهما شعري، وسواه بي في الجائزة، فقيل له: وما البيتان؟ فأنشد:
إن المطايا تشتكيك لأنها ... قطعت إليك سباسبا ورمالا
فإذا رحلن بنا رحلن بخفة ... وإذا رجعن بنا رجعن ثقالا [1]
أَخْبَرَنَا إسماعيل بْن أحمد قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو محمد أحمد بن علي بن أبي عثمان قال: أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ بْنُ الصَّلْتِ قَالَ: حَدَّثَنَا أبو الحسن بن المنادي قال: أنشدني أبو بكر يوسف بن يعقوب لأبي العتاهية:
كم يكون الشتاء ثم المصيف ... وربيع يمضي ويأتي خريف
وانتقال من الحرور إلى الظل ... وسيف الردى عليك منيف
يا قليل البقاء في هذه الدار ... إلى كم يغرك التسويف/
عجبا لامرئ يذل لذي دنيا ... [2] ويكفيه كل يوم رغيف
أخبرنا عبد الوهاب [3] وأخبرنا ابن ناصر قالا: أنبأنا ابن عبد الجبار قال: أخبرنا الحسين بن النصيبي قال: حدثنا إسماعيل بن سويد قال: حدثنا أبو بكر بن الأنباري قال:
حدثنا أَبُو بكر بْن خلف [4] قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بكر الأموي قال: قال الرشيد لأبي العتاهية:
الناس يزعمون أنك زنديق، قال: يا سيدي، كيف أكون زنديقا، وأنا الذي أقول:
أيا عجبا كيف يعصى الإله ... أم كيف يجحده الجاحد
وللَّه في كل تحريكة ... وفي كل تسكينة شاهد
وَفِي كُل شَيْء لَهُ آية ... تَدُل عَلَى أنه واحد
أَخْبَرَنَا [عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدِ] [5] الْقَزَّازِ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو حنيفة المؤدب قال: حدثنا المعافى بْن زكريا قَالَ: حَدَّثَنَا الحسين بْن القاسم الكوكبي قال: حدثنا عسل بن ذكوان قال: أخبرنا دماذ، بن [ذكوان عن] [6] حماد بن شقيق قال:
قال أبو سلمة الغنوي [1] : قلت لأبي العتاهية: ما الذي صرفك عن قول الغزل إلى قول الزهد؟ قال: إذا والله أخبرك، إني لما قلت:
الله بيني وبين مولاتي ... أهدت لي الصد والملامات [2]
منحتها مهجتي وخالصتي ... فكان هجرانها مكافاتي
هيمني حبها وصيرني ... أحدوثة في جميع جاراتي
رأيت في المنام في تلك الليلة كأن آتيا أتاني فقال: ما أصبت [3] أحدا تدخله بينك وبين عتبة يحكم لك عليها بالمعصية إلا الله تعالى. فانتبهت مذعورا وتبت إلى الله تعالى من ساعتي من قول الغزل [4] /.
أخبرنا القزاز قال: أخبرنا أحمد بن علي قال: أخبرنا محمد بن أحمد بن رزق قَالَ: أَخْبَرَنَا عثمان [بْن أحمد] [5] قَالَ: أَخْبَرَنَا محمد بن أحمد [6] بن البراء قال:
أنشدني أحمد بن علي بن مرزوق لأبي العتاهية وهو يكيد بنفسه:
يا نفس قد مثلت حالي ... هذه لك منذ حين
وشككت أني ناصح ... لك فاستملت على الظنون
فتأملي ضعف الحراك ... وكله بعد السكون
وتيقني أن الذي ... بك من علامات المنون [7]
توفي أبو العتاهية في جمادى الآخرة من هذه السنة ببغداد. وقيل: في سنة ثلاث عشرة، وقبره على نهر عيسى قبالة قنطرة [8] الزياتين.
أخبرنا أبو منصور [1] القزاز قال: أخبرنا أبو بكر [2] بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: حدثني عبد العزيز بْن علي الوراق قال: سمعت عبد الله بن أحمد [بن علي] المقرئ [3] يقول:
سمعت [محمد بن] مخلد العطار يقول: سمعنا [إسحاق بن] [4] إبراهيم البغوي يقول:
قرأت على قبر أبي العتاهية:
أدن حتى تسمعي ... اسمعي ثم عي وعي
أنا رهن بمضجعي ... فاحذري مثل مصرعي
عشت تسعين [5] حجة ... ثم فارقت مجمعي
ليس زاد سوى التقى ... فخذي منه أو دعي.






مصادر و المراجع :

١- المنتظم في تاريخ الأمم والملوك

المؤلف: جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي (المتوفى: 597هـ)

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید