المنشورات

القاسم بْن عيسى بْن إدريس بْن معقل، أبو دلف/ العجلي أمير الكرج

كَانَ سمحا جوادا، وبطلا شجاعا، وأديبا شاعرا.
أَخْبَرَنَا [أبو منصور بْن عَبْد الرَّحْمَنِ] القزاز، أَخْبَرَنَا [أبو بكر] [7] الخطيب، أَخْبَرَنَا الأزهري، أَخْبَرَنَا أحمد بْن إبراهيم بْن الحسن، حَدَّثَنَا أحمد بْن مروان المكي، حَدَّثَنَا المبرد، حَدَّثَنَا أَبُو عَبْد الرَّحْمَنِ الثوري قَالَ: استهدى المعتصم من أبي دلف كلبا أبيض [كان عنده] [8] فجعل في عنقه قلادة كيمخت أقصر [9] ، وكتب عليها:
أوصيك خيرا به فإن لَهُ ... خلائقا لا أزال أحمدها [1]
يدل ضيفي علي فِي ظلم الليل ... إذا النار نام موقدها
قَالَ الأزهري: وفي كتابي عن سهل الديباجي، حَدَّثَنَا أحمد بْن محمد بْن الفضل الأهوازي قَالَ: أنشد بكر بْن النطاح أبا دلف:
مثال أبي دلف أمة ... وخلق أبي دلف عسكر
وإن المنايا إلى الدار عين ... بعيني أبي دلف تنظر
[قَالَ] [2] : فأمر لَهُ بعشرة آلاف درهم، فمضى فاشترى بِهَا بستانا بنهر الأبلة، ثم عاد من قابل فأنشده:
[بك] [3] ابتعت فِي نهر الأبلة جنة ... عَلَيْهَا قصير بالرخام مشيد
إِلَى لزقها [4] أخت لها يعرضونها ... وعندك مَال للهبات [5] عتيد
فَقَالَ أبو دلف: بكم الأخرى؟ قَالَ: بعشرة آلاف فَقَالَ: ادفعوها إليه، ثم قال له:
لا تجيني قابل، فتقول بلزقها [6] أخرى، فإنك تعلم أن [7] لزق أخرى إِلَى أخرى اتصل [8] إِلَى مَا لا نهاية لَهُ [9] .
/ أَخْبَرَنَا [أبو منصور] عَبْد الرحمن بن محمد قال: [أخبرنا أبو بكر] [10] بن ثابت، 47/ ب أخبرنا الحسن بن محمد الخلال، حَدَّثَنَا أحمد بْن إبراهيم البزار، أَخْبَرَنَا أحمد بْن مروان المَالكي، حَدَّثَنَا الْحَسَن بْن علي الربعي، حَدَّثَنَا أبي قَالَ: سمعت العتابي [11] يقول: اجتمعنا عَلَى باب أبي دلف جمَاعة، فكان يعدنا بأمواله من الكرج وغيرها، فأتته الأموال، فبسطها على الأنطاع، وجلسنا حوله، ثم اتكأ عَلَى قائم سيفه وأنشأ يقول:
ألا أيها الزوار لا يد عندكم ... أياديكم عندي أجل وأكبر
فإن كنتم أفردتموني بالرجاء [12] ... فشكري لكم من شكركم لي أكثر
كفاني من مَالي دلاص وسابح ... وأبيض من صافي الحديد مغفر
ثم أمر بنهب تلك الأموال، فأخذ كل واحد منا [1] عَلَى قدر قوته [2] .
أَخْبَرَنَا أبو منصور القزاز قَالَ: أَخْبَرَنَا أبو بَكْر [أَحْمَد بْن عَلِي] [3] بْن ثَابِتٍ، أَخْبَرَنَا أحمد بن عمر بن روح، أخبرنا المعافى بْن زكريا، حَدَّثَنَا الحسين بْن القاسم الكوكبي، حَدَّثَنَا أبو الْفَضْل الربعي، عن أبيه قَالَ: قَالَ المأمون يومَا- وَهُوَ مقطب- لأبي دلف:
أنت الذي يقول فيك الشاعر:
إنمَا الدنيا أبو دلف ... بين باديه [4] ومحتضره
فإذا ولى أبو دلف ... ولت الدنيا على أثره
فَقَالَ: يَا أَمِير الْمُؤْمِنِينَ، شهادة زور، وقول غرور، وملق معتف [5] ، وطالب عرف، وأصدق منه قول [6] ابْن أخت لي حيث يقول:
دعيني أجوب الأرض ألتمس الغنى ... فلا الكرج الدنيا ولا الناس قاسم
إذا كانت الأرزاق فِي كف قاسم ... فلا كانت الدنيا ولا كَانَ قاسم
48/ أ/ فضحك المأمون وسكن غضبه [7] .
توفي أبو دلف ببغداد في هذه السنة [8] .
أَخْبَرَنَا [أبو منصور] القزاز قال: أخبرنا [أبو بكر] [9] أحمد بن علي، أَخْبَرَنَا الحسن بْن أبي طَالِب، حَدَّثَنَا يوسف بْن عمر القواس، حَدَّثَنَا الحسين بْن إسمَاعيل، حَدَّثَنَا عبد الله بْن أبي سعد، حَدَّثَنَا محمد بْن سلمة البلخي، حَدَّثَنَا محمد بن علي القوهستاني حَدَّثَنَا دلف بْن أبي دلف قَالَ: رأيت كأن آتيا أتاني بعد موت أبي دلف فَقَالَ:
أجب الأمير، فقمت معه، فأدخلني دارا وحشة، وعرة سود الحيطان مقلعة السقوف والأبواب، ثم أصعدني درجا فيها، ثم أدخلني غرفة فإذا فِي حيطانها أثر النيران، وإذا فِي أرضها أثر الرمَاد، وإذا أبي عريان واضع رأسه بين ركبتيه، فَقَالَ لي كالمستفهم:
دلف؟ قلت: نعم، أصلح اللَّه الأمير. فأنشأ يقول:
أبلغن أهلنا ولا تخف عنهم ... مَا لقينا فِي البرزخ الخناق
قد سئلنا عن كل مَا قد فعلنا ... فارحموا وحشتي ومَا قد ألاقي
أفهمت؟ قلت: نعم، فأنشأ يقول:
فلو كنا [1] إذا متنا تركنا ... لكان الموت راحة كل حي
ولكنا إذا متنا بعثنا ... ونسأل بعد ذا عن كل شيء
انصرف، قَالَ: فانتبهت [2] .
أَخْبَرَنَا [أبو منصور] القزاز قَالَ أَخْبَرَنَا [أبو بكر] الخطيب أَخْبَرَنَا [أبو يعلي أَحْمَد بْن] [3] عبد الواحد الوكيل، أَخْبَرَنَا محمد بْن جعفر التميمي، أَخْبَرَنَا الصولي قَالَ: تذاكرنا يومَا عند المبرد الحظوظ وأرزاق الناس من حيث [4] لا يحتسبون، فَقَالَ:
هَذَا يقع كثيرا فمنه قول ابْن أَبِي فنن فِي أبيات عملها المعنى أراده: / 48/ ب
مَا لي ومَا لك قد كلفتني شططا ... حمل السلاح وقول الدارعين قف
أمن رجال المنايا خلتني رجلا ... أمسى وأصبح مشتاقا إِلَى التلف
تمشي المنون إِلَى غيري فأكرهها ... فكيف أمشي [5] إليها بارز الكتف
أم هل حسبت سواد الليل شجعني ... أو أن قلبي فِي جنبي أبي دلف
فبلغ هَذَا الشعر أبا دلف فوجه إليه أربعة آلاف درهم جاءته على غفلة [6] .

بلغني عن الفضل بْن محمد بْن أبي محمد اليزيدي وَكَانَ من العلمَاء الأدباء الفضلاء [1] ، قَالَ: كَانَ لرجل حجازي جارية مغنية شاعرة، وَكَانَ مشغوفا بِهَا، فأملق فِي بلده، فسافر بِهَا طلبا للرزق، فقصد [2] بغداد فسمع به جمَاعة من أهلها فقصدوه للمعاشرة، فلم يحظ منهم بطائل، ورآهم يلاحظون الجارية ويولعون بِهَا، فقطعهم عنه [3] ، فاشتدت فاقته [4] ، فقصد أبا دلف العجلي بالكرج، فمدحه ولم يك شعره بالطائل [5] بحيث يقتضي كثرة الجائزة، فاضطر إِلَى بيع الجارية، فابتاعها منه أبو دلف بثلاثة آلاف دينار، وكساه ووصله وحمله، فانصرف وَهُوَ باك حزين، فوصل إِلَى بغداد، وَكَانَ يحضر عندي دائمَا ويشكو شوقه إِلَى الجارية شكوى تؤلمني [6] ، فانصرف من عندي يومَا، ثم بعث إلي برقعة يقول فيها: إنه وصل إِلَى منزله فوجد الجارية وقد أهداها لَهُ أبو دلف، فتطلعت نفسي إِلَى معرفة الحال، فمضيت إليه فوجدت الجارية 49/ أجالسة، وامرأة كهلة وخادمَا، فسألتها عن أمرها [7] ، فقالت: إني لمَا فارقت/ مولاي عظم استيحاشي وحزني، حَتَّى امتنعت من الطعام والنوم، فاستدعاني أبو دلف، وطيّب نفسي بكل وعد جميل، وسامني الغنى، فكنت إذا هممت بإجابته خنقتني العبرة، فلم أستطع الكلام، وفعل ذلك دفعات، وأنا عَلَى حالي، فجفاني وبقيت [8] فِي حجرة أفردت لي، لا أرى [9] إلا خادمَا [ربمَا] [10] كَانَ برسم حفظي، وجارية وكلت بخدمتي، وكنت قلت أبياتا وعلقتها فِي رقعة، أنظر فيها وقت خلوتي، [وهي:] [11]
لو يعلم القاسم العجلي مَا فعلا ... لعاد معتذرا أو مطرقا خجلا
مَاذا دعاه إِلَى هجر المروة فِي ... تفريق إلفين كانا فِي الهوى مثلا
فإن مولاي أصمته الخطوب بمَا ... لو مر بالطفل عاد الطفل مكتهلا
فباعني بيع مضطر وصيره ... فرط الندامة بعد البين مختبلا
وبت [12] عادمة للصبر باكية ... كأنني مدنف قد شارف الأجلا
بين الضرائر أدعى بالغريبة إن ... هفوت لم ألق [1] لي فِي الناس محتملا
فمَا تبدلت إلفا بعد فرقته ... ولا تعوض مني غادر بدلا
فاتفق أنه اجتاز بباب الحجرة، فدخل لينظر هل خف مَا أجده، فجلس يعاتبني، ويرفق بي ويومئ فِي كلامه إِلَى تهديدي، فوجدني على حالتي الأولى، ولا حظ الرقعة، فأخذها فتأملها وقَالَ: الآن يئست [2] منك، وإن رددتك عَلَى مولاك [3] فمن يرد المَال علي؟ قلت: قانصه يرده عليك أو مَا [4] بقي منه وَهُوَ الأكثر بلا شك والله [5] عز وجل/ يخلف عليك باقيه. فأطرق ساعة ثم قَالَ: بل اللَّه عز وجل يخلف [6] 49/ ب علي الأصل، وقد رددتك عَلَى مولاك، ووهبت لك مَا بقي عنده من ثمنك لحسن عهدك ورعايتك حق الصحبة، ومَا أفارق موضعي إلا وأنت عَلَى الطريق فاستتري مني [7] ، فلست الآن فِي ملكي. فدخلت بيتا فِي الحجرة، فاستدعى كرسيا فجلس [عَلَيْهِ] [8] ، وأحضر هَذِهِ العجوز وهي قهرمَانة داره، وهذا الخادم، وأوصاهمَا بحفظي حَتَّى يسلمَاني إِلَى صاحبي، وأزاح العلة فِي جميع مَا احتجت إليه من النفقة والكسوة والكراع، وحمل [9] معي جميع مَا كَانَ جعله فِي داره من الأثاث والفرش، ومَا فارق الكرسي إلا وقد [10] خرجنا من بين يديه. فقلت: يَا مولاي، قد حضرني بيتان أسألك أن تأذن لي فِي إنشادهمَا. فأذن لي، فقلت:
لم يخلق الله خلقا صيغ من كرم ... إلا أمير الندى المكنى أبا دلف
رثى لمحزونة بالبين مدنفة ... فردها طالبا أجرا عَلَى دنف
فدمعت عيناه وقال: أحسنت، وأمر لي بخلعة ومَائة [11] دينار، فحمل ذلك إلي وسرت قَالَ اليزيدي: فعجبت من ذلك، وكانت ليلة نوبتي فِي السمر عند المأمون، فقلت لَهُ: يَا أمير الْمُؤْمِنِين، عندي حديث مستطرف نادر [12] ، فقال: هات يا فضل.
فأعدت عَلَيْهِ الحديث [1] عن آخره، فاستحسنه وعجب منه وقال: ما قصرت الجارية في 50/ أحفظ عهد من رباها، ومَا قصر [2] القاسم فِي فعله، ونحتاج أن/ نقوي عزمه فِي مثل هَذَا الفعل الجميل الذي هُوَ معدود فِي مفاخر أيامنا، فإذا أصبحت فاغد إِلَى أحمد بن أبي طاهر، وقل له احتسب للقاسم العجلي بثلاثة آلاف دينار من معاملاته وأنفذ لَهُ درزا يقبض المَال [3] لذلك، واكتب أَنْت إليه وعرفه [4] انتهاء الحال إلينا وإحمَادنا لمَا اعتمد ليزداد حرصا عَلَى انتهاز الفرص فِي مثل هَذِهِ المكرمة، فبادرت لمَا أمر به [5] وتنجزت الدرز بالمَال وجعلته درج كتابي [6] ، وسلمته إِلَى صاحب الحرس لينفده عَلَى البريد، فلم تمض [إلا] [7] أيام حَتَّى عاد جوابه يشكرني، وَيَقُولُ: أمَا ثمن الجارية فوصل، واغتبطت بنعمة أَمِير الْمُؤْمِنِينَ فِي تعويضي إلا أنه مَال أخرجته من فضل إحسانه، ومَا أحب ارتجاعه، لكني قبلته طاعة وحملت إليك منه ألفا لقضاء حقك [8] ، وتقدمت بتفريق الباقي منه عَلَى من بهذه الديار من بني هاشم، وأعلمتهم أن كتاب [9] أَمِير الْمُؤْمِنِينَ ورد بأنه انتهى إليه اختلال أحوالهم، فأمر بتعهدهم بذلك، فأكثروا الشكر والدعاء.
قَالَ اليزيدي: فأنهيت ذلك إِلَى أَمِير الْمُؤْمِنِينَ، فتهلل وجهه وقال: إنه ليسرني أن يكون مِمَّنِ [10] اتسع حظه من خير أيامي جمَاعة منهم [11] القاسم بْن عيسى.






مصادر و المراجع :

١- المنتظم في تاريخ الأمم والملوك

المؤلف: جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي (المتوفى: 597هـ)

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید