المنشورات

حبيب بْن أوس بْن الحارث بْن قيس، أبو تمَام الطائي الشاعر

ولد سنة تسعين ومَائة، شامي الأصل، كَانَ بمصر فِي حداثته يسقي المَاء فِي المسجد [8] الجامع، ثُمّ جالس الأدباء، وأخذ عنهم، وَكَانَ فطنا، وكان يحب الشعر،فلم يزل يعانيه حتى قَالَ الشعر فأجاد، وبلغ المعتصم خبره، فحمله إليه وَهُوَ بسامراء، فمدحه فأجازه وقدمه عَلَى الشعراء، وقدم بغداد وجالس بِهَا الأدباء، وَكَانَ ظريفا، حسن الأخلاق، كريم النفس، فأقر لَهُ الشعراء بالتقدم.
أَخْبَرَنَا [أبو منصور] عَبْد الرَّحْمَنِ بْن محمد قَالَ: [أَخْبَرَنَا أبو بكر] عَلِيِّ بْنِ ثَابِتٍ [1] ، أَخْبَرَنَا أَحْمَد بْن عمر بن روح النهرواني قال أخبرنا المعافى بن زكريا، حَدَّثَنَا محمد بْن محمود الخزاعي، حَدَّثَنَا علي بْن الجهم قَالَ: كَانَ الشعراء يجتمعون كل جمعة فِي القبة المعروفة بهم من جامع المدينة، فيتناشدون الشعر، ويعرض كل واحد منهم عَلَى صاحبه [2] مَا أحدث من القول بعد مفارقتهم فِي الجمعة [3] التي قبلها، فبينا [4] أنا فِي جمعة من تلك الجمع، ودعبل، وأبو الشيص. وابن أبي فنن [5] ، والناس يستمعون إنشاد بعضنا بعضا، أبصرت شابا فِي أخريات الناس، جالسا فِي زي [6] الأعراب وهيئتهم، فلمَا قطعنا الإنشاد قَالَ لنا: قد سمعت إنشادكم منذ اليوم/ 60/ أفاسمعوا إنشادي، قلنا: هات، فأنشدنا:
فحواك عين عَلَى نجواك يَا مذل [7] ... حتام لا يتقضى قولك الخطل
وإن أسمع من نشكو إليه جوى [8] ... من كَانَ أحسن شيء عنده العذل
مَا أقبلت أوجه اللذات سافرة ... مذ أدبرت باللوى أيامنا الأول
إن شئت أن لا ترى صبر اليقين بِهَا [9] ... فانظر عَلَى أي حال أصبح الطلل
كأنمَا جاد مغناه فغيره ... دموعنا يوم بانوا وهي تنهمل
ولو ترانا وإياهم وموقفنا ... فِي موقف اليأس لاستهلالنا زجل
[من حرقة أطلقتها فرقة أسرت ... قلبا ومن غزل فِي نحره عذل]
ثم مر [1] فيها حَتَّى انتهى إِلَى قوله فِي مدح المعتصم:
تغاير الشعر فيه إذ سهرت لَهُ ... حَتَّى ظننت قوافيه ستقتتل
ثم مر فيها إِلَى آخرها. قلنا لَهُ [2] : زدنا. فأنشدنا:
ومن ألم بِهَا فَقَالَ سلام ... كم حل عقدة صبره الإلمام
60/ ب حَتَّى أتى عَلَى آخرها وَهُوَ يمدح المأمون، فاستزدناه [3] فأنشدنا/ قصيدته التي أولها:
قدك اتئد أربيت [4] فِي الغلواء ... كم تعذلون وأنتم سجرائي [5]
حَتَّى انتهى إِلَى آخرها، فقلنا لَهُ [6] : لمن هَذَا الشعر؟ فَقَالَ: لمن أنشدكموه، قلنا: ومن تكون؟ قال: أنا أبو تمَام حبيب بْن أوس الطائي، فَقَالَ لَهُ أبو الشيص: تزعم أن هَذَا الشعر لك تقول:
تغاير الشعر فيه إذ سهرت لَهُ ... حَتَّى ظننت قوافيه ستقتتل
قَالَ: نعم، لأني سهرت فِي مدح ملك، ولم أسهر فِي مدح سوقة، فقربناه حَتَّى صار معنا [فِي موضعنا] [7] ، ولم نزل نتهاداه بيننا وجعلناه كأحدنا، واشتد إعجابنا به لدمَاثته [8] وظرفه وكرمه، وحسن طبعه، وجودة شعره، وَكَانَ ذلك اليوم أول يوم عرفناه فيه، ثم ترافعت [9] حاله حتى كان من أمره ما كان [10] .
أَخْبَرَنَا [أَبُو مَنْصُورٍ] الْقَزَّازُ، أَخْبَرَنَا [أَبُو بَكْرٍ] [1] أحمد بن علي بن ثابت، أخبرني علي بن أيوب القمي، أخبرنا محمد بن عمران [2] الكاتب قَالَ: أخبرني الصولي قَالَ:
حدثني الحسين بْن إسحاق قَالَ: قلت للبحتري: الناس يزعمون أنك أشعر من أبي تمَام، فَقَالَ: والله مَا ينفعني هَذَا القول ولا يضير أبا تمَام، والله مَا أكلت الخبز إلا به، ولوددت أن الأمر كمَا قالوا، ولكني والله تابع لَهُ، لائذ به، أجد نسيمي يركد [3] عند [هوائه] [4] ، وأرضى تنخفض عن سمَائه [5] .
ومن شعر أبي تمَام المستحسن:
يَا طالبا مسعاتهم لينالها ... هيهات منك غبار ذاك الموكب
يعطي عطاء المحسن الخضل الندى ... عفوا ويعتذر اعتذار المذنب
/ سجر يطم عَلَى العفاة وإن تهج ... ريح السّؤال بمدحه يغلولب 61/ أ
أولى المديح بأن يكون مهذبا ... مَا كَانَ منه فِي أغر مهذب
غربت خلائقه وأغرب شاعر ... فيه وأحسن مغرب فِي مغرب
[لمَا كرمت نطقت فيك بمنطق ... حق فلم أنم ولم الحزب] [6]
وله:
فسواء أجابني غير داع ... ودعائي بالقاع غير مهيب
رب خفض تحت الشرى وعناء ... من عناء ونصرة من شحوب
لست أدلي بحرمة لي مزيدا ... فِي وداد منكم ولا فِي نصيب
غير أن العليل ليس بمذموم ... عَلَى شرح حاله للطبيب
لو رأينا التثويب خطة عجزها ... مَا شفعنا الأذان بالتثويب [7]
وله:
ستصبح العيس بي والليل عند فتى ... كثير ذكر الرضا فِي ساعة الغضب
صدفت عنه فلم تصدف مودته ... عني وعاوده ظني فلم يخب
كالغيث إن جئته وافاك ريقه ... وإن تحملت عنه كَانَ فِي الطلب
كأنمَا هُوَ فِي أخلاقه أبدا ... وإن ثوى وحده فِي عسكر لجب
[وله فِي أخرى: [1]
وكأن قسا فِي عكاظ يخطب ... وكأن ليلى الأخيلية تندب
وكثير عزة يوم بين ينسب ... وابن المقفع فِي اليتيمة سهب
وله أيضا:
أأيامنا مَا كنت إلا مواهبا ... وكنت بإسعاف الحبيب حبابئا
سيغرب تجديد لعهدك فِي الهوى ... فمَا كنت فِي الأيام إلا غرائبا
كواعب زادت فِي ليال قصيرة ... تخيلن لي من حسنهن كواعبا
سلبن غطاء الحسن عن حر أوجه ... تظل للب السالبيها سوالبا
وجوه لو أن الأرض فيها كواكب ... توقد للساري لكن كواكبا
سلي هل عمرت النفر وَهُوَ سباسب ... وغادرت ربعي من ركابي سباسبا
وغربت حَتَّى لم أجد ذكر مشرق ... وشرقت حَتَّى قد نسيت المغاربا
خطوب إذا لاقيتهن رددنني ... جريحا كأني قد لقيت الكتائبا
وقد يكهن السيف المسمى منية ... وقد يرجع المرء المظفر خائبا
وآفة ذا أن لا يصادف مضربا ... وآفة ذا أن لا يصادف ضاربا
وملآن من ضغن كواه توقلي ... إِلَى الهمة العليا سنامَا وغاربا
شهدت جسيمَات العلى وَهُوَ غائب ... ولو كَانَ أيضا شاهدا كَانَ غائبا
وكنت آمرا ألقى الزمَان مسالمَا ... تعاليت لا ألقاه إلا محاربا
ثوى مَاله نهب المعالي فأوجبت ... عَلَيْهِ زكاة الجود مَا ليس واجبا
وتحسن فِي عينيه إن جئت زائرا ... ويزداد حسنا كلمَا جئت طالبا
خدين العلى أبقى لَهُ البذل والتقى ... عواقب من عرف كفته العواقبا

تطول استشارات التجارب رايه ... إذا مَا ذوو الرأي استشاروا التجاربا
وله أيضا:
إذا أمه العافون ألفوا حياضه ... ملاء وألفوا ربعه غير محدب
أخو عرفات بذله بذل محسن ... إلينا ولكن عذره عذر مذنب
وله أيضا:
بين البين فقدها قل مَا ... تعرف قعدا للشمس حَتَّى تعبا
كل داء يرجى الدواء لَهُ ... إلا القطيعين مسته وشيا
وله:
إذا المرء لم يستخلص الحزم نفسه ... فذروته للحادثات وغاربه
أعاذلتي مَا أخشن الليل مركبا ... وأخشن منه فِي الملمَات راكبه
ذريني وأهوال الزمَان أنالها ... فأهواله العظمى تلتها رغائبه
ألم تعلمي أن الزمَاع عَلَى السرى ... أخو النجح عند النائبات وصاحبه] [1]
/ وله: 61/ ب
وإذا أراد الله نشر فضيلة ... طويت أتاح لها لسان حسود
لولا اشتعال النار فيمَا جاورت ... مَا كَانَ يعرف طيب عرف العود
وله:
وطول مقام المرء فِي الحي مخلق ... لديباجتيه فاغترب تتجدد
فإني رأيت الشمس زيدت محبة ... إِلَى الناس إذ ليست عليهم بسرمد
[محاسن أصناف المغنين جمة ... ومَا قصبات السبق إلا لمعبد
وله:
وأنجدتم من بعد اتهام داركم ... فيا دمع أنجدني عَلَى ساكني نجد
لعمري قد أخلقتم جدة البكا ... علي وجددتم به خلق الوجد
كريم متى أمدحه أمدحه والورى ... معي ومتى مَا لمته لمته وحدي] [2]
وأيضا لَهُ:
نقل فؤادك حيث شئت من الهوى ... مَا الحب إلا للحبيب الأول
كم منزل فِي الأرض يألفه الفتى ... وحنينه أبدا لأول منزل [1]
وله أيضا:
هُوَ البحر من أي النواحي أتيته ... فلجته المعروف والجود ساحله
تعود بسط الكف حَتَّى لو أنه ... ثناها لقبض لم تطعه أنامله
ولو لم يكن فِي كفه غير نفسه ... لجاد بِهَا فليتق الله سائله
[وله:
إذا آمل رجاه قرطس في المنى ... بأسهمه حتى لؤمل آمله
وله:
إذا أحسن الأقوام أن يتطاولوا ... بلا منة أحسنت أن تتطولا
تعظمت عن ذاك التعظم بينهم ... وأوصاك قل القدر أن لا تنبلا] [2]
وله:
أنت فِي حل فزدني سقمَا ... أفن صبري واجعل الدمع دمَا
ليس منا من شكا علته ... من شكى ظلم حبيب ظلمَا
[وله أيضا:
ذاك السؤال شجى فِي الخلق مقبوض ... من دونه شرق من خلفه حوض
مروءة ذهبت أثمَارها شبه ... وهمية جوهر أثمَارها عرض
وله أيضا:
أرى ألفات قد كتبن عَلَى رأسي ... بأقلام شيب فِي مفارق قرطاس
فإن تسأليني من يخط حروفها ... فكف الليالي تستمد بأنفاسي
جرت فِي قلوب الغانيات لهبتني ... قشعريرة من يعدلن دانياس
وقد كنت أجري من حشاهن مرة ... مجاري جاري المَاء فِي غصن الآس
فإن أمس من وصل الكواعب أيسا ... فاخرا مَال العباد إِلَى اليأس] [1]
وله:
ليس الغبي بسيد فِي قومه ... لكن سيد قومه المتغابي
أَخْبَرَنَا [أبو منصور] قَالَ: [أَخْبَرَنَا أبو بكر] [2] الخطيب قَالَ: أخبرنا الأزهري قال:
أخبرنا أحمد بن إبراهيم، أَخْبَرَنَا إبراهيم بْن عرفة قَالَ: سنة ثمَان وعشرين فيها مات أبو تمام [الطائي] [3] . وقيل: سنة إحدى وثلاثين. وقيل سنة اثنتين [4] وثلاثين [5] .





مصادر و المراجع :

١- المنتظم في تاريخ الأمم والملوك

المؤلف: جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي (المتوفى: 597هـ)

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید