المنشورات

محمد بْن عبد الملك بْن أبان بْن أبي حمزة، أبو يعقوب ويعرف بابن الزيات

أصله من جبل، وَكَانَ أبوه تاجرا من تجار الكرخ المياسير، وَكَانَ يحثه عَلَى التجارة فيأبى إِلَّا الكتابة وطلبها، ثم شخص إِلَى الحسن بْن سهل، فمدحه بقصيدة، فأعطاه عشرة آلاف درهم، ثُمّ اتصل بالمعتصم فرفع من قدره ووسمه بالوزارة، ثم استوزره الواثق [5] ، وكان أديبا فاضلا عالما بالنحو واللغة وله شعر مليح.
وقد وصف بلاغته البحتري، فأخبرنا أبو منصور الْقَزَّازُ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ الْحَافِظُ، أَخْبَرَنَا أبو الحسن محمد بْن محمد بْن المظفر الدقاق، أَخْبَرَنَا محمد بْن عمران المرزباني، حَدَّثَنِي أبو الحسن علي بن هارون قال: أخبرني أبي قال: من بارع مديح البحتري قوله يصف بلاغة محمد بْن عبد الملك الزيات:
فِي نظام من البلاغة مَا شك ... امرؤ أنه نظام فريد
ومعان لو فصلتها القوافي ... لهجت شعر جرول ولبيد
حزن مستعمل الكلام اختيارا ... وتجنبن ظلمة التعقيد
86/ ب/ وركبن اللفظ القريب فأدركن ... به غاية المراد البعيد
ونرى الخلق مجمعين عَلَى فضلك ... من بين سيد ومسود
عرف العالمون فضلك بالعلم ... وقال الجهال بالتقليد
صارم العزم حاضر الحزم ساري ... الفكر ثبت المقام صلب العود
دق فهمَا وجل علمَا فأرضى الله ... فينا والواثق بن الرشيد
لا يميل الهوى به حيث يمضي ... الأمر بين المقل والممدود
سؤدد يصطفي ونيل يتوخى ... وثناء يحيى ومَال تؤدي
قد تلقيت كل يوم جديد ... يَا أبا جعفر بمجد جديد
وإذا استطرقت سيادة قوم ... بنت بالسؤدد الطريف التليد [1]
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بن علي الحافظ قال: أخبرني أبو القاسم الأزهري، أَخْبَرَنَا عثمَان بْن عمرو المقرئ، حَدَّثَنَا جعفر بْن محمد الخواص، حدثني أحمد بْن مُحَمَّد الطوسي، حدثني محمد بْن علي الربيعي قَالَ: سمعت صالح بْن سليمَان العبدي يقول: كَانَ مُحَمَّد بْن عبد الملك الزيات يتعشق جارية من جواري القيان، فبيعت من رجل من أهل خراسان، فأخرجها، قَالَ: فذهل عقل محمد بْن عبد الملك حَتَّى خشي عَلَيْهِ، فَقَالَ:
يَا طول ساعات [2] ليل العاشق الدنف ... وطول رعيته للنجم فِي السدف
مَاذا تواري ثيابي من أخي حرق ... كأنمَا الجسم منه دفه الألف
مَا قَالَ يَا أسفي يعقوب من كمد ... إلا لطول الذي لاقى من الأسف
/ من سره أن يرى ميت الهوى دنفا ... فليستدل على الزيات وليقف [3] 87/ أ
قَالَ المصنف: اتفقت أسباب لهلاك [ابْن] [4] الزيات، فمنها: أن الواثق كَانَ قد استوزره وفوض الأمور إليه [5] وَكَانَ الواثق قد غضب عَلَى أخيه جعفر المتوكل فِي بعض الأمور، فوكل به عمر بْن فرج الرخجي، ومحمد بْن العلاء [6] الخادم يحفظانه ويكتبان بأخباره فِي كل وقت، فصار جَعْفَر إِلَى محمد بْن عبد الملك يسأله أن يكلم أخاه الواثق ليرضى عنه، فلمَا دخل عَلَيْهِ مكث واقفا بين يديه مليا لا يكلمه، ثم أشار إليه أن اقعد فقعد، فلمَا فرغ من نظره فِي الكتب، التفت إليه كالمتهدد لَهُ، فَقَالَ لَهُ: مَا جاء بك؟
قَالَ: جئت أسأل [1] أَمِير الْمُؤْمِنِينَ الرضا عني، فَقَالَ لمن حوله: انظروا إِلَى هَذَا، يغضب أخاه، ويسألني أن أسترضيه! اذهب فإنك إذا صلحت رضي عنك، فقام جعفر كئيبا لمَا لقيه به، فخرج، فأتى عمر بْن فرج يسأله أن يختم لَهُ صكه ليقبض [2] أرزاقه، فلقيه عمر بالخيبة، وأخذ الصك، فرمى به إِلَى صحن المسجد.
وَكَانَ أحمد بْن أبي خالد حاضرا، فقام لينصرف، فانصرف معه جعفر، فَقَالَ لَهُ:
رأيت مَا صنع بي عُمَر؟ فَقَالَ [لَهُ] [3] : جعلت فداك! أنا [4] زمَام عَلَيْهِ، وليس يختم صكي بأرزاقي إلا بعد الرفق والطلب، فابعث إلي وكيلك، فبعث إليه جعفر وكيله فدفع إليه عشرين ألف درهم، وقال: أنفق هَذِهِ حَتَّى يهيئ الله أمرك، ثم صار جعفر من فوره إِلَى أحمد بْن أبي دؤاد، فدخل عَلَيْهِ، فقام أحمد واستقبله عَلَى باب البيت [وقبله] [5] والتزمه، وقال: مَا حاجتك، جعلت فداك؟! قَالَ: جئت لتسترضي أَمِير الْمُؤْمِنِينَ عني، 87/ ب فَقَالَ: أفعل وكرامة، فكلمه فوعده، فلمَا كَانَ/ يوم الحلبة [6] أعاد الكلام عَلَيْهِ، وقال فيه: بحق المعتصم يَا أَمِير الْمُؤْمِنِينَ إلا رضيت عنه! فرضي عنه وكساه.
وَكَانَ محمد بْن عبد الملك قد كتب إِلَى الواثق: أتاني جعفر بْن المعتصم يسألني أن أسأل أَمِير الْمُؤْمِنِينَ الرضا عنه فِي زي المخنثين لَهُ شعر [قفا] [7] . فكتب إليه الواثق:
ابعث إليه وأحضره، ومر من يجز شعره، واضرب به وجهه، ففعل ذلك.
ثم لمَا ثقل الواثق أشار ابْن عبد الملك بابن الواثق، ثم كَانَ بين ابْن الزيات وأحمد بْن أبي دؤاد عداوة شديدة، فلمَا ولي المتوكل أغراه [8] به ابن أبي دؤاد مع الأحقاد القديمة فتقدم إِلَى إيتاخ بالقبض عَلَيْهِ، فأرسل إليه إيتاخ، فلمَا دخل عَلَيْهِ أخذ سيفه وقلنسوته ودراعته [1] ، فدفعها إِلَى غلمَانه، وقال: انصرفوا.
وبعث إِلَى داره، فأخذ جميع مَا فيها من متاع وجوار وغلمَان ودواب، وأمر أحمد بْن أبي خَالِد بقبض ضياعه وضياع أهل بيته، فكان الذي أخذ منه قيمته تسعون ألف دينار.
ثم قيد، فامتنع [2] عن الطعام وكثر بكاؤه، ثم سوهر، ومنع من النوم بمسلة ينخس بِهَا، ثم أمر بتنور من حديد فيه مسامير إِلَى داخله، فأدخل فيه، وَهُوَ الذي كَانَ صنعه ليعذب به من يطالب بأمر.
فجعل [3] يقول لنفسه: يَا محمد بْن عبد الملك، لم تقنعك النعمة والدواب الفارهة والدار النظيفة، وأنت فِي عافية حَتَّى طلبت الوزارة، ذق مَا عملت بنفسك! وَكَانَ لا يزيد عَلَى التشهد/ وذكر الله تعالى [4] . 88/ أوقد روينا أنه كَانَ يقول: الرحمة خور فِي [5] الطبيعة مَا رحمت شيئا قط. فلمَا وضع فِي التنور قَالَ: ارحموني، قالوا لَهُ: وهل رحمت شيئا قط [6] ؟.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بن علي، أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن عبد الواحد بْن محمد، أَخْبَرَنَا محمد بْن عبد الرحيم المَازني، حَدَّثَنَا الحسين بْن القاسم الكوكبي قال: سمعت القاسم بن ثابت الكاتب يقول: حدثني أبي قَالَ: قَالَ لي أحمد الأحول: لمَا قبض عَلَى محمد بن عبد الملك، تلطفت فِي أن وصلت إليه، فرأيته فِي حديد ثقيل [7] ، فقلت: يعز علي مَا أرى، فَقَالَ:
سل ديار الحي مَا غيرها ... وعفاها ومحا منظرها 
وهي الدنيا إذا مَا انقلبت ... صيرت معروفها منكرها
إنمَا الدنيا كظل زائل ... نحمد الله كذا قدرها [1]
أَخْبَرَنَا عَبْد الرَّحْمَنِ بْن محمد، أخبرنا أبو بكر [أحمد بن علي] [2] بن ثابت، أخبرني الحسن [3] بْن أَبِي بكر، أخبرني أبي، أَخْبَرَنَا أبو الطيب محمد بْن الحسين اللخمي، حدثني أبي قَالَ: حدثني بعض أصحابه [4] قَالَ: لمَا حمل ابْن الزيات فِي التنور الذي مَات فيه، كتب هَذِهِ الأبيات بفحمة:
من لَهُ عهد بنوم ... يرشد الصب إليه
رحم الله رحيمَا ... دل عيني عَلَيْهِ
سهرت عيني ونامت ... عين من هنت عليه [5]
88/ ب/ قَالَ المصنف: ومَات فِي التنور، وقيل: إنه أخرج فضرب فمَات تحت الضرب، والأول أثبت.
ولمَا مَات طرح عَلَى باب، فغسل عَلَيْهِ، وحفر لَهُ، ولم يعمق، فذكر أن الكلاب نبشته، فأكلت لحمه.





مصادر و المراجع :

١- المنتظم في تاريخ الأمم والملوك

المؤلف: جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي (المتوفى: 597هـ)

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید