المنشورات

شجاع أم المتوكل

قَالَ ابْن عرفة: كانت من سروات النساء [11] سخاء، وكرمَا.
أَخْبَرَنَا محمد بْن ناصر الحافظ قَالَ أَخْبَرَنَا محفوظ بْن أحمد الفقيه قال: أَخْبَرَنَا أَبُو عَلي مُحَمَّد بْن الحسين الجازري قال حدثنا المعافى بن زكريا حدثنا محمد بن عمر بن علي [12] الكاتب قَالَ: حدثني حفص بْن محمد الكاتب قَالَ: حدثني أحمد بن الخصيب قبل وزارته قَالَ: كنت كاتبا للسيدة شجاع أم المتوكل، فإني ذات يوم قاعد فِي مجلسي فِي ديواني إذ خرج إلي خادم ومعه كيس، فَقَالَ لي: يَا أحمد، إن السيدة أم أَمِير الْمُؤْمِنِينَ تقرئك السلام، وتقول لك: هَذِهِ ألف دينار من طيب مَالي، خذها وادفعها إِلَى قوم [مستحقين] [1] تكتب لي أنسابهم وأسمَاءهم ومنازلهم، وكلمَا [2] جاءنا من هَذِهِ الناحية شيء صرفناه إليهم، فأخذت الكيس وصرت إِلَى منزلي، ووجهت خلف من أثق به، فعرفتهم مَا أمرت به، وسألتهم أن يسموا لي من يعرفون من أهل الستور [3] والحاجة، فأسموا لي جمَاعة، ففرقت فيهم ثلاث مَائة دينار، وجاء الليل، وبقية المَال بين يدي، لا أبقيت مستحقا، وأنا أفكر فِي سامراء وبعد أقطارها وتكافؤ [4] أهلها ليس بِهَا مستحق، فمضى من الليل ساعة، وبين يدي بعض حرمي، وغلقت الدروب، وطاف العسس، وأنا مفكر فِي أمر الدنانير إذ سمعت باب الدرب يدق، وسمعت البواب يكلم رجلا من ورائه، فقلت لبعض من بين يدي: اعرف الخبر، فعاد إلي وقال لي: بالباب فلان ابْن فلان العلوي يسأل [5] الإذن عليك. فقلت: مره بالدخول، وقلت لمن بين يدي من الحرم:
كونوا وراء هَذَا [6] الستر، فمَا قصدنا هَذَا الرجل فِي هَذَا الوقت إلا لحاجة، فلمَا دخل سلم وجلس، وقال لي: طرقني فِي هَذَا الوقت طارق لرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ به اتصال، والله ما عندنا ولا أعددنا مَا يعد الناس [7] ، فلم يكن فِي جواري من أفزع إليه غيرك قَالَ:
فدفعت إليه من الدنانير دينارا، فشكر وانصرف.
قَالَ: فخرجت ربة المنزل فقالت: يَا هَذَا/، تدفع إليك السيدة ألف دينار لتدفعها إِلَى مستحق، فترى من أحق من ابْن بنت رَسُول اللَّهِ صَلى اللهُ عَلَيه وَسَلَّمَ مَعَ مَا شكاه إليك؟ قلت لها:
إيش السبيل؟ قالت: تدفع الكيس لَهُ. فقلت: يَا غلام رده. فرده فحدثته بالحديث، ودفعت الكيس [إليه] [8] فأخذه وشكر وانصرف، فلمَا ولى عني جاءني إبليس فَقَالَ: المتوكل وانحرافه عن أهل البيت يدفع إليك ألف دينار حَتَّى تدفعها إِلَى مستحقها، وتكتب أسمَاءهم وأنسابهم ومنازلهم، فبأي شيء تحتج عليه [9] وقد [10] دفعت إلى علوي سبعمَائة دينار؟ وقلت لربة المنزل: أوقعتيني فيمَا أكره، فإمَا سبعمَائة دينار، وإمَا زوال [1] النعمة، وعرفتها مَا خطر بقلبي، فقالت: اتكل عَلَى جدهم فقلت: دعي هَذَا عنك، فقالت: تتكل عَلَى جدهم [2] ، فمَا زالت تردد هَذَا القول حَتَّى سكت، وقمت إِلَى فراشي، فمَا استثقلت نوما، إلا وصوت بالباب، فقلت لبعض من يقرب مني: من عَلَى الباب، فمضى وعاد وقال: رسول السيدة يأمرك بالركوب [إليها] [3] الساعة فخرجت إِلَى صحن الدار، والليل بحاله، والنجوم بحالها، وجاء ثان، وثالث، فأدخلتهم وقلت: فِي الليل؟! فقالوا: لا بد من ذلك [4] ، فركبت فلم أصل [إلى] [5] الجوسق إلا وأنا فِي موكب من الرسل، فدخلت الدار، فقبض الخادم عَلَى يدي، فأدخلني [إِلَى] [6] الموضع الَّذِي كنت أصل [إليه] [7] ، فوقفني وخرج خادم خاص من داخل، فأخذ بيدي وقال [لي] : [8] يَا أحمد، إنك [9] تكلم السيدة أم أَمِير الْمُؤْمِنِينَ فقف [10] حيث توقف ولا تتكلم حَتَّى تسأل، فأدخلني فِي دار لطيفة فيها بيوت عَلَيْهَا ستور مسبلة وشمعة [11] وسط الدار، فوقفني عَلَى باب منها ووقفت لا أتكلم، / فصاح بي صائح: يَا أحمد، قلت: لبيك يَا أم أَمِير الْمُؤْمِنِينَ. فقالت: حساب ألف دينار، بل حساب سبعمَائة دينار وبكت فقلت فِي نفسي: بلية العلوي أخذ المَال ومضى، ففتح دكاكين المعاملين [12] وغيرهم، فاشترى حوائجه، وتحدث، وكتب به أصحاب الأخبار، وقد أمر المتوكل [13] بقتلي وهذه تبكي رحمة لي، ثم أمسكت عن الكلام، وعادت فقالت: يَا أحمد حساب ألف دينار، بل حساب سبعمَائة دينار، ثم بكت. فعلت ذلك ثلاث مرات، ثم أمسكت وسألتني عن الحساب فصدقتها، فلمَا بلغت إِلَى ذكر العلوي بكت، وقالت: يَا أحمد جزاك اللَّه خيرا وجزى من فِي منزلك خيرا، تدري مَا كَانَ خبري الليلة؟ فقلت: لا، قالت: كنت نائمة فِي فراشي، فرأيت النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يقول لي: جزاك الله خيرا، وجزى أحمد بْن الخصيب خيرا [وجزى] [1] من فِي منزله خيرا فقد فرجتم فِي هَذِهِ الليلة عن ثلاثة من ولدي، مَا كَانَ لهم شيء، خذ هَذَا الحلي مَعَ هَذِهِ الثياب، وخذ [2] هَذِهِ الدنانير فادفعها إِلَى العلوي، وقل لَهُ: نحن نصرف إليك كل مَا جاءنا من هَذِهِ الناحية، وخذ هَذَا الحلي، وهذه الثياب، وهذا المَال فادفعه إِلَى زوجتك وقل: يَا مباركة، جزاك الله خيرا فهذه دلالتك، وهذا خذه أنت [يَا أحمد لك] [3] ودفعت إلي مَالا وثيابا [4] وخرجت، فحمل ذلك بين يدي، فركبت [5] منصرفا إِلَى منزلي، وَكَانَ طريقي عَلَى باب العلوي. فقلت: أبدأ به إذ كَانَ الله تعالى رزقنا هَذَا عَلَى يديه/، فدققت الباب، فقيل [لي] : [6] من هَذَا؟ فقلت: أحمد بْن الخصيب، فخرج إلي، فَقَالَ لي [7] : يَا أحمد، هات مَا معك. فقلت: [بأبي أنت وأمي] [8] ، ومَا يدريك مَا معي؟
فَقَالَ لي [9] : انصرفت من عندك بمَا أخذته منك، ولم يكن عندنا شيء، فعدت إِلَى بِنْت عمي فعرفتها، ودفعت إليها المَال، ففرحت وقالت: مَا أريد أن تشتري لنا شيئا ولا آكل أَنَا شيئا، ولكن قم فصل أنت، وادع حَتَّى أؤمن عَلَى دعائك، فقمت وصليت ودعوت وأمنت عَلَى دعائي، ووضعت رأسي ونمت، فرأيت جدي عَلَيْهِ السلام فِي النوم وهو يقول لي: قد شكرتهم على ما كَانَ منهم إليك وهم باروك بشيء آخر فاقبله. قَالَ: فدفعت إليه مَا كَانَ معي وانصرفت إِلَى منزلي، فإذا ربة البيت قلقة قائمة تصلي وتدعو، فعرفت أني قد جئت معافى، فخرجت إليّ فسألتني [10] عن خبري، فحدثتها الحديث عَلَى وجهه. فقالت: ألم أقل لك: اتكل عَلَى جدهم، فكيف رَأَيْت مَا فعل؟ فدفعت إليها مَا كَانَ لها فأخذته.

[قَالَ المصنف: قد ذكرنا فِي سنة ست وثلاثين أن أم المتوكل حجت فشيعها المتوكل إِلَى النجف، وفرقت مَالا كثيرا، وكانت امرأة وافرة السمَاح، شديدة الرغبة فِي فعل الخير] [1] .
توفيت شجاع بالجعفرية [2] لست خلون من ربيع الآخر من هَذِهِ السنة، وصلى عَلَيْهَا المنتصر، ودفنت عند الجامع، وخلفت من العين خمسة آلاف ألف دينار وخمسين ألف دينار، ومن الجوهر مَا [3] قيمته ألف ألف دينار.
أَخْبَرَنَا [أبو منصور] القزاز قال [أخبرنا أبو بكر بْن ثابت] [4] الخطيب، أَخْبَرَنَا باي بْن جعفر [5] ، أَخْبَرَنَا أَحْمَد بْن مُحَمَّد بْن عمران، أَخْبَرَنَا محمد بْن يحيى قَالَ:
حدثني عبد الله بْن المعتز [حَدَّثَنِي الحسن بْن عليل العنزي] [6] قَالَ: حدثني بعض أصحابنا عن جعفر بْن عبد الواحد الهاشمي قَالَ: دخلت عَلَى المتوكل لمَا توفيت/ أمه، فعزيته، فَقَالَ: يَا جعفر، ربمَا قلت البيت الواحد فإذا جاوزته خلطت وقد قلت [بيتًا] [7] :
تذكرت لمَا فرق الدهر بيننا ... فعزيت نفسي بالنبي محمد
فأجازه بعض من حضر المجلس.
وقلت لها: إن المنايا سبيلنا ... فمن لم يمت فِي يومه مَات فِي غد [8]





مصادر و المراجع :

١- المنتظم في تاريخ الأمم والملوك

المؤلف: جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي (المتوفى: 597هـ)

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید