المنشورات

جعفر المتوكل [عَلَى الله]

كَانَ السبب فِي قتله: أنه أمر بإنشاء كتب بقبض ضياع وصيف بأصبهان والجبل وإقطاعها الفتح بْن خاقان، فكتب الكتب بذلك، وصارت إِلَى الخاتم، عَلَى أن تنفذ يوم الخميس لخمس خلون من شوال، فبلغ ذلك وصيفا، وَكَانَ المتوكل أراد أن يصلي بالناس آخر جمعة بقيت من رمضان، فاجتمع الناس واحتشدوا، وخرج بنو هاشم من بغداد لرفع القصص وتكليمه [5] إذا ركب، فَلَمَّا أراد الركوب قَالَ لَهُ عبيد الله بْن يحيى والفتح [6] بْن خاقان: يَا أَمِير الْمُؤْمِنِينَ، قد اجتمع الناس [7] وكثروا، فبعض متظلم، وبعض طالب حاجة، فإن رأيت أن تأمر بعض ولاة العهد بالصلاة، فعلت، فأمر المنتصر، فلمَا نهض المنتصر ليركب قالا: يَا أمير المؤمنين، قد رأينا أن تأمر المعتز باللَّه لتشرفه بذلك، فقد اجتمع أهل بيته.
فأمر المعتز فركب، وأقام المنتصر فِي منزله [1] ، فلمَا فرغ المعتز من خطبته قام إليه/ عبيد الله بْن يحيى والفتح بْن خاقان فقبلا يديه ورجليه، ثم رجع فِي الموكب فدخل عَلَى أبيه، فَقَالَ داود بْن محمد الطوسي: قد والله رأيت الأمين والمأمون والمعتصم والواثق، فما رأيت رجلا عَلَى المنبر [2] أحسن قوامَا [وبديهة] [3] من المعتز باللَّه.
وخرج المتوكل يوم الفطر وقد ضرب لَهُ المصاف [4] نحو من أربعة أميال، وترجل الناس بين يديه، فصلى ورجع [5] ، فأخذ حفنة من تراب، فوضعها [6] عَلَى رأسه، فقيل له في ذلك، فقال: إنّي رأيت [كثرة] [7] هَذَا الجمع فأحببت أن أتواضع للَّه عز وجل [8] .
وأهدت إليه [9] أم ولده ثوبا فقطعه نصفين ورده [10] إليها، وقال: أذكرتني به، فو الله إن نفسي تحدثني أني لا ألبسه، ولا أحب أن يلبسه أحد بعدي، ولذلك شققته، ثم جعل [11] يقول لندمائه: أنا والله مفارقكم عن قليل، وكثر عبثه بابنه المنتصر تارة يشتمه، وتارة يتهدده بالقتل، والتفت إِلَى الفتح فَقَالَ: برئت من الله [12] ومن قرابتي من رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ لم تلطمه- يعني المنتصر- فقام إليه [13] الفتح، فلطمه [14] لطمتين وقال [15] :
اشهدوا أني قد خلعته. فانصرف على غضب، فواعد الأتراك على قتل المتوكل إذا ثمل، فمَا كانت إلا ساعة حَتَّى دخل الأتراك عَلَيْهِ [1] فقتلوه وقتلوا معه الفتح بْن خاقان [2] .
وذلك ليلة الأربعاء، وقيل: ليلة الخميس بعد العتمة بساعة، لأربع ليال [3] خلون من شوال [4] ، وكانت خلافته أربع عشرة سنة وعشرة أشهر وثلاثة أيام، وَهُوَ ابْن أربعين سنة [5] .
وقد حكى إبراهيم بْن عرفة أن جارية من جواري المتوكل قالت: أصابه هم [6] ، وعرض/ لَهُ فكر، فجلس وحده ثم قَالَ: جئيني ببرنية فيها غالية، فجئته بِهَا، فجعل يبندقها ويرمي بِهَا [7] ، ثم جلس [يقرأ القرآن عَلَى] [8] الشراب، فمَا شعر إلا وقد دخل عَلَيْهِ جمَاعة من القواد يتقدمهم غلام [9] ابنه المنتصر الذي يسمى باغر [10] ، فدنا منه، فضربه، وتتابع القواد بالضرب، وألقى الفتح بْن خاقان نفسه عَلَيْهِ فقتل معه، وَكَانَ باغر [قد] [11] قَالَ للقواد: إني أتقدمكم، فإن خفتم عَلَى أنفسكم فقعوا [12] علي فاقتلوني وقولوا: دخل مكانا لم يكن لَهُ [13] دخوله.
وذكر ابْن عرفة أنه حضر مغنيا فغناه، [فَقَالَ لَهُ أحمد بْن أبي العلاء] [14] :
يَا عاذلي من الملام دعاني ... أن البلية فوق مَا تصفان
[زعمت بثينة أن رحلتنا غدا ... لا مرحبا بغد فقد أبكاني] [15]
فتطير المتوكل من هَذَا وقال: ويحك كيف وقع لك أن تغني بمثل هَذَا [1] ، فذهب ليغنيه بغيره، فأعاده، فقالوا [2] : اصرفوا [3] المهين، ثم عاد فدعا المغني فغنى الصوت، واغتم المتوكل وَكَانَ [قد] [4] وصف لَهُ سيف لم ير مثله فابتاعه فاختار باغر فوهبه [5] لَهُ، فيقال: إنه قتله به.
[أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدِ الْقَزَّازِ قَالَ: أخبرنا أحمد بن علي الخطيب الحافظ قَالَ: حَدَّثَنَا عبيد الله بْن عمر الواعظ قَالَ: حدثني أبي، حَدَّثَنَا محمد بن عبد الواحد قال: أخبرني أبو أيوب جعفر بْن أبي عثمَان] [6] الطيالسي قَالَ: أخبرني بعض الزمَازمة الذي يحفظون زمزم قَالَ: غارت زمزم ليلة من الليالي فأرخناها، فجاءنا [7] الخبر أنها الليلة التي قتل فيها المتوكل [8] .
[أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدِ الْقَزَّازِ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ ثَابِتٍ الْخَطِيبُ الحافظ قال: أَخْبَرَنَا الأزهري قَالَ: أَخْبَرَنَا عبيد الله بْن محمد العكبري، حَدَّثَنَا أبو الفضل محمد بْن أحمد النيسابوري قَالَ: حَدَّثَنَا سعيد بْن عثمَان الحناط قَالَ:
حَدَّثَنَا] [9] علي بْن إسمَاعيل قَالَ: رأيت جعفر المتوكل فِي النوم وَهُوَ فِي النور جالس قلت: المتوكل؟ فَقَالَ: المتوكل قلت: مَا فعل الله بك؟ قَالَ: غفر لي. قلت: بمَاذا؟
قَالَ: بقليل من السنة أحييتها [10] .
أَخْبَرَنَا أبو منصور القزاز قال أخبرنا أحمد بن علي الخطيب قال أخبرنا محمد بن أحمد بْن رزق قَالَ أَخْبَرَنَا محمد بْن يوسف بْن حمدان الهمذاني قَالَ: [حَدَّثَنَا أبو علي الحسن بْن يزيد الدقاق قَالَ: حَدَّثَنَا عبد العزيز بْن محمد الحارثي، حَدَّثَنَا عمر بْن عبد الله الأسدي قَالَ: سمعت أبا عبد الله أحمد بْن العلاء] [1] قَالَ: قَالَ لي عمرو بْن شيبان الحلبي: / رأيت فِي الليلة التي قتل فيها المتوكل فِي النوم [2] حين أخذت مضجعي، كأن آتيا أتاني فَقَالَ لي:
يَا نائم الليل [3] فِي أقطار جثمَاني ... أفض [4] دموعك يَا عمرو بْن شيبان
أمَا ترى الفتية الأرجاس مَا فعلت ... بالهاشمي وبالفتح بْن خاقان
وافى إِلَى الله مظلومَا فضج لَهُ ... أهل السموات من مثنى ووحدان
وسوف تأتيكم أخرى مسومة ... توقعوها لها شأن من الشان
فابكوا عَلَى جعفر وابكوا [5] خليفتكم ... فقد بكاه جميع الإنس والجان
قَالَ: فأصبحت وإذا الناس يقولون [6] إن جعفرا قد قتل في هذه الليلة.
قال أبو عبد الله: ثم رأيت المتوكل بعدها [7] بأشهر [8] كأنه بين يدي الله تعالى [9] ، فقلت له [10] : ما فعل بك ربك؟ قَالَ: غفر لي. قلت: بمَاذا؟ قَالَ: بقليل من السنة تمسكت بِهَا. قلت: فمَا تصنع ها هنا؟ قَالَ: أنتظر ابني محمدا أخاصمه إِلَى الله الحليم [11] ، العظيم، الكريم [12] .
[أَخْبَرَنَا محمد بْن ناصر الحافظ] [1] أَخْبَرَنَا ناصر بْنُ الْمُبَارَكِ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ قَالَ:
أَخْبَرَنَا الجوهري قال: أخبرنا ابن حيوية قال: أخبرنا محمد بْن خلف قَالَ: أخبرني أبو العباس المروزي قَالَ: أخبرني بعض أهل الأدب أنه كَانَ للمتوكل جارية يقال لها محبوبة، وكانت من الجمَال [2] والإحسان عَلَى غاية [3] ، ومن الغناء [4] عَلَى غاية، وَكَانَ المتوكل يجد بِهَا [5] وجدا شديدا، وكانت لَهُ عَلَى مثل ذلك، فلمَا كَانَ من المتوكل مَا كَانَ ففرق الجواري إِلَى القواد، فصارت محبوبة إِلَى وصيف، وَكَانَ لباسها البياض الحسن [6] ، وكانت تذكره فتشهق وتنتحب، فجلس وصيف يوما للشراب وجلس الجواري اللائي كن للمتوكل فِي الحلي والحلل، وجاءت محبوبة فِي معجر أبيض فَقَالَ وصيف/: غنين فمَا بقيت واحدة منهن إلا غنت وطربت وضحكت [إِلَى أن] [7] أومَا إِلَى محبوبة بالغناء، فقالت: إن رأى الأمير أن يعفيني، فأبى، فقلن لها الجواري: لو كَانَ فِي الحزن فرج لحزنا معك، وجيء بعود، فوضع فِي حجرها فسوته وأنشأت تقول:
أي عيش يطيب لي لا أرى فيه جعفرا ... ملك [8] قد رأته عيني جريحا معفرا
كل من كَانَ سالمَا وسقيمَا [9] فقد برا ... غير محبوبة التي لو ترى الموت يشترا
لاشترته [10] بمَا حوته جميعا لتقبرا.
فاشتد ذلك عَلَى وصيف، فأمر بإخراجها، فصارت إِلَى قبيحة، فلمَا كَانَ بعد هنية سأل عنها وصيف فقيل لَهُ [11] : صارت إِلَى قبيحة، فبعث إليها فقالت [12] : تمسحت ومضت، فو الله مَا أدري إلام صارت [13] .






مصادر و المراجع :

١- المنتظم في تاريخ الأمم والملوك

المؤلف: جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي (المتوفى: 597هـ)

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید