المنشورات

طرف من سيرة المهتدي [وأحواله]

أَخْبَرَنَا عَبْد الرَّحْمَنِ بن مُحَمَّد [قَالَ:] أخبرنا أبو بكر [أحمد بن علي بن ثابت] [10] الخطيب قال: أخبرنا أحمد بن عمر بن روح [11] النهرواني [قال:] أخبرنا المعافى بن زكريا قال: حدثني بعض الشيوخ- ممن شاهد جماعة من العلماء وخالط كثيرا من الرؤساء- أن هاشم بن القاسم الهاشمي قَالَ: كنت جالسا [12] بحضرة المهتدي عشية من العشايا، فلما كادت الشمس تغرب وثبت [13] لأنصرف، وذلك في شهر رمضان، فقال لي: اجلس. فجلست فأذن المؤذن، وأقام [فتقدم] [14] وصلى المهتدي بنا [15] ، ثم ركع وركعنا. ودعى بالطعام، فأحضر طبق خلاف [1] عليه رغيف من الخبز النقي، وفيه آنية في بعضها [2] ملح، وفي بعضها خل، وفي بعضها زيت، فدعاني إلى الأكل فابتدأت [3] آكل معذرا ظانا أنه سيؤتى بطعام له نيقة، وفيه سعة. فنظر إلي وَقَالَ: ألم تكن صائما؟
قلت: بلى. قَالَ: أفلست عازما على صوم غد؟ قلت: كيف لا وهو شهر رمضان؟ فقال:
كل واستوف غداءك، فليس ها هنا من الطعام غير ما ترى. فعجبت من قوله، ثم قلت [والله لأخاطبنه في هذا المعنى، فقلت:] [4] ولم يا أمير المؤمنين، وقد أسبغ الله نعمته، وبسط قدرته [5] ورزقه؟ فقال: [إن] [6] الأمر لعلى ما وصفت والحمد للَّه، ولكني فكرت في [7] أنه كان في بني أمية عمر بن عبد العزيز، وكان من التقلل والتقشف على ما بلغك، فغرت على بني هاشم أن لا يكون في خلفائهم مثله، فأخذت نفسي بما رأيت [8] .
أَخْبَرَنَا عَبْد الرَّحْمَنِ [بن محمد قال:] أخبرنا أَحْمَد بْن عَلي [قَالَ:] أَخْبَرَنَا عُبَيْد اللَّهِ بن أبي الفتح [قَالَ:] [9] أَخْبَرَنَا أَحْمَد بن إبراهيم البزاز، حَدَّثَنَا إبراهيم بن مُحَمَّد بن عرفة، وذكر المهتدي فقال: حدثني بعض الهاشميين أنه وجد له سفط فيه جبة صوف، وكساء، وبرنس كان يلبسه بالليل ويصلي فيه، ويقول: أما يستحي [10] بنو العباس أن لا يكون فيهم مثل عمر بن عبد العزيز [11] ؟
أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بن أَحْمَد أنه [12] كان قد اطّرح الملاهي، [وحرّم] [13] الغناء والشرب، وحسم أصحاب السلطان عن الظلم، وكان شديد الإشراف على أمر الدواوين والخراج، فحبس نفسه في الحسبانات لا يخل [1] بالجلوس يوم الاثنين والخميس [والكتاب بين يديه] [2] .
[أَخْبَرَنَا عَبْد الرحمن قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال:] [3] أخبرنا عبد العزيز بن علي أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بن أَحْمَد [4] المفيد [5] ، حَدَّثَنَا أبو بشر الدولابي قَالَ:
أخبرني أبو موسى العباسي قَالَ: لم يزل المهتدي صائما منذ جلس للخلافة إلى أن قتل [6] .
أَخْبَرَنَا عَبْد الرَّحْمَنِ [قال:] أخبرنا أحمد بن عَلِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي الفتح [قَالَ:] أخبرني علي بن الحسن الجراحي [قَالَ:] حَدَّثَنَا مُحَمَّد بن أَحْمَد القراريطي قَالَ: قَالَ لي عمي عبد الله بن إبراهيم الإسكافي قَالَ: حضرت مجلس المهتدي باللَّه، وقد جلس للمظالم، فاستعداه رجل على ابن له، فأمر بإحضاره، فأحضر [7] وأقامه إلى جنب الرجل، فسأله عما ادعاه عليه فأقر بِهِ، فأمره بالخروج إليه من حقه، فكتب له بذلك كتابا، فلما فرغ قَالَ له الرجل: والله يا أمير المؤمنين ما أنت إلا كما قَالَ الشاعر:
حكمتموه فقضى بينكم ... أبلج مثل القمر الزاهر
لا يقبل الرشوة في حكمه ... ولا يبالي غبن الخاسر
فقال له المهتدي: أما أنت أيها الرجل فجزاك الله خيرا [8] ، وأما أنا فما جلست هذا المجلس حتى قرأت في المصحف وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ 21: 47 نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ 21: 47 [1] فما رأيت باكيا أكثر من بكائه ذلك اليوم [2]
وفي هذه السنة: في سلخ رجب كان ببغداد شغب، ووثبت العامة بسليمان [3] بن عَبْد اللَّهِ بن طاهر صاحب الشرطة، وكان [4] السبب في ذلك [5] أن المهتدي كتب إلى [صاحب الشرطة] [6] سليمان أن يأخذ البيعة له ببغداد، فأحضر أبا أَحْمَد بن المتوكل فهجم العامة وهتفوا باسم أبي أَحْمَد، ودعوا إلى بيعته، وكانت فتنة قتل فيها قوم ثم سكنوا [7] .
وللنصف [8] من شوال [هذه السنة] : [9] ظهر في نواحي البصرة رجل زعم أنه علي بن مُحَمَّد بن أَحْمَد بْن على بن عيسى بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وكان يقول إن جده لأمه خرج مع زيد بن علي على هشام بن عبد الملك، وكان من أهل ورزنين، وكان عبادا يتكلم في علم النجوم، فربما كتب العوذ، فخرج في نفر [10] من الزنج، فأخذه مُحَمَّد بن أبي عون، فحبسه ثم أطلقه، فخرج في قراب [11] البصرة في مكان يُقَالُ له: برنجل، وجمع الزنج الذين كانوا يكتسحون السباخ فاستغواهم، ثم عبر دجلة ونزل الديناري، وكان هذا الرجل متصلا بقوم من أصحاب السلطان يمدحهم ويستميحهم بشعره، ثم خرج من سامراء سنة تسع وأربعين ومائتين إلى البحرين، وادعى أنه من ولد [1] علي بن أبي طالب، ودعا الناس إلى طاعته فتبعه جماعة، وأباه جماعة، فوقع بينهم قتال على ذلك، فانتقل عنهم إلى الإحساء فضوى [2] إلى حي من بني تميم وصحبه جماعة من أهل البحرين، ثم كان [3] ينتقل في البادية من حي إلى حي، ولم يزل أمره يقوى إلى سنة سبعين، وكان يقول: أوتيت آيات من آيات القرآن [4] إمامتي [5] منها، لقيت سورًا من القرآن لا أحفظها، فجرى بها لساني في ساعة واحدة، منها: سبحان، والكهف، وص [6] ، وألقيت نفسي على فراشي فجعلت أفكر [7] في الموضع الذي أقصد له، وأقيم فيه إذ نبت [8] بي البادية فأظلتني سحابة فبرقت ورعدت [9] ، وقيل لي: اقصد للبصرة فمضى إليها فقدمها في سنة أربع وخمسين [10] .
ونزل في بني ضبيعة، فاتبعه جماعة منهم علي بن أبان المهلبي، ووافق ذلك فتنة البصرة بالبلالية والسعدية، فرجا أن يتبعه منهم أحد فلم يتبعه، فهرب، وطلبه مُحَمَّد بن رجاء عامل السلطان بها، فلم يقدر عليه، فأتى بغداد فأقام بها، فاستمال [11] جماعة، فلما عزل مُحَمَّد بْن رجاء عن البصرة وثب رءوس [12] الفتنة من البلالية والسعدية، ففتحوا الحبوس [13] ، وأطلقوا من كان فيها فبلغه ذلك، فخرج إلى البصرة في رمضان سنة خمس وخمسين وأخذ حريرة [14] وكتب عليها: إِنَّ الله اشْتَرى من الْمُؤْمِنِينَ 9: 111 أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ 9: 111 [1] وكتب [اسمه و] [2] اسم أبيه وعلقها على [رأس] [3] مردي [4] ، وخرج [5] في السحر من ليلة السبت لليلتين بقيتا من شهر رمضان، فلقيه غلمان، فأمر بأخذهم، وكانوا خمسين غلاما، ثم صار إلى مكان آخر فأخذ منه خمس مائة غلام، ثم [صار] [6] إلى موضع آخر فأخذ منه مائة وخمسين غلاما، وجمع من الغلمان خلقا كثيرا، وقام فيهم خطيبا فمناهم ووعدهم أن يقودهم ويرأسهم ويملكهم، وَلَا يدع من الإحسان شيئا [7] إلا فعله لهم [8] ثم دعا مواليهم فقال: قد أردت ضرب أعناقكم لما كنتم تأتون إلى [9] هؤلاء الغلمان الذين استضعفتموهم وقهرتموهم وحملتوهم [10] ما لا يطيقون، فكلمني أصحابي فيكم [فرأيت إطلاقكم] [11] فقالوا: إن هؤلاء الغلمان أباق، فهم يتهربون منك، فخذ منا مالا وأطلقهم لنا. فأمر بهم فبطح كل قوم مولاهم، وضرب كل واحد خمسين سوطا وأحلفهم بطلاق نسائهم أن لا يعلموا أحدا بموضعه، وأطلقهم [12] .
ثم خرج حتى عبر دجيلا، واجتمع إليه السودان، فلما حضر [13] العيد ركز المردي الذي عليه لواؤه [14] وصلى بهم، وخطب للعيد، وذكر ما كانوا فيه من الشقاء، وأن الله سبحانه استنقذهم من ذلك، وأنه يريد أن يرفع أقدارهم ويملكهم العبيد والأموال والمنازل، ويبلغ بهم أعلى الأمر، ثم حلف لهم على ذلك، وكانوا جمعا كبيرا، وليس لهم إلا [1] ثلاثة أسياف وأهدي له فرس فلم يجد له سرجا ولا لجاما، فركبه بحبل وسنفه بليف [2] .
وما زال ينتقل من مكان إلى مكان ويأخذ ما يقدر عليه، وينتهب السلاح وغيره حتى صار لَهُ قوة، وخاف الموالي منه أن يردهم إلى مواليهم، فحلف لهم ويوثق من نفسه، وَقَالَ: ليحط بي منكم جماعة، فإن أحسوا مني غدرا فليقتلوني [3] . وأعلمهم أنه لم يخرج لعرض الدنيا بل غضبا للَّه عز وجل، ولما رأى من فساد الدين [4] .
وجاءه يهودي فسجد له وزعم أنه يجد صفته في التوراة.
ومر على قرية [5] فخالفوه، فانتهب منها مالا عظيما، وجوهرا كثيرا، وغلمانا ونسوة، وذلك أول سبي سباه، وما زال يعيث وينتهب فجاءه رجل [6] من أهل البصرة فسأله عن البلالية والسعدية، فقال: إنما جئت إليك برسالتهم يسألونك شروطا، فإن أعطيتهم إياها سمعوا لك وأطاعوا. فأعطاهم ما سألوا، وكان يحارب فله وعليه، إلى أن اجتمع عليه خلق [7] كثير من أهل البصرة، فقال اللَّهمّ إن هذه ساعة النصرة [8] فأعني.
فزعموا [9] أنه رأى طيورا بيضاء فأظلتهم [10] .
وكان سبب هزيمة أعدائه وقتلهم [1] ، فقوي عدو الله، ودخل رعبه في قلوب أهل البصرة، وكتبوا إلى السلطان يخبرونه خبره، فوجه جعلان التركي، ونزل الخبيث سبخة وأمر [2] أصحابه باتخاذ الأكواخ وبثهم في القرى يغيرون [3] .
وحج بالناس في هذه السنة علي بن الحسن بن إسماعيل بْن العباس بْن مُحَمَّد [4] .







مصادر و المراجع :

١- المنتظم في تاريخ الأمم والملوك

المؤلف: جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي (المتوفى: 597هـ)

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید