المنشورات

خالد بن يزيد، أبو الهيثم التميمي

خراساني الأصل، كان أحد كتاب الجيش ببغداد، وله شعر مدون [2] ، وعاش دهرا طويلا واختلط في آخر عمره، فقيل: إن السوداء غلبت عليه، وقيل: بل كان يهوى جارية لبعض الملوك، ولم يقدر عليها، فسمع يوما منشدا ينشد:
من كان ذا شجن بالشام يطلبه ... ففي سوى الشام أمسى الأهل والشجن
فبكى حتى سقط على وجهه، ثم أفاق مختلطا، واتصل ذلك بِهِ [3] حتى وسوس، وكان قبل ذلك ينادم على بن هشام [4] ، وسبب ذلك أنه أنشده يوما:
يا تارك الجسم بلا قلب ... إن كنت أهواك فما ذنبي
يا مفردا بالحسن أفردتني ... منك بطول الهجر والعتب
إن تك عيني أبصرت فتنة ... فهل عَلَى قلبي من ذنب [5]
حسيبك الله لما بي كما ... ألقى [6] في فعلك بي حسبي
فجعله في ندمائه إلى أن قتل. ثم صحب الفضل بن مروان، فذكره للمعتصم وهو بالماحوزة [7] قبل أن تبنى سرمن رأى، فأمر بإحضاره واستنشده فأعجب به. ولما بنيت سامرا قَالَ خالد:
عزم السرور على المقام ... بسر من رأى للإمام
[بلد المسرة والفتوح ... المستنيرات العظام] [8]
وتراه أشبه منزل ... في الأرض بالبلد الحرام
فاللَّه يعمره بمن [1] ... أضحى به عز الأنام
فاستحسنها الفضل، وأوصلها إلى المعتصم قبل أن يقال في سرمن رأى شيء [2] فأمر لخالد بخمسة آلاف درهم. ودخل على إبراهيم بن المهدي فأنشده:
عاتبت قلبي في هواك ... فلم أجده يقبل
فأطعت داعية إليك ... ولم أطع من يعذل [3]
لا والذي جعل الوجوه ... لحسن وجهك تمثل
لا قلت إن الصبر عنك ... من التصابي أجمل
فأعطاه ثلاثمائة وخمسين دينارا.
قَالَ خالد: وَقَالَ لي علي بن الجهم هب لي بيتك:
ليت ما اصبح من رقة ... خديك بقلبك
فقلت: يا جاهل، هل رأيت أحدا يهب ولده.
أخبرنا أبو منصور القزاز، أخبرنا أحمد بن علي أَنْبَأَنَا علي [4] بن طلحة المقرئ، أَخْبَرَنَا أَحْمَد بْن مُحَمَّد بن عمران، حَدَّثَنَا صالح بن مُحَمَّد، حَدَّثَنَا القعنبي قَالَ: مر خالد الكاتب يوما بصبيان فجعلوا يرجمونه ويقولون: يا خالد، يا بارد. فقال لهم:
ويلكم أنا بارد وأنا الذي أقول:
سيدي أنت لم أقل سيدي أنت ... لخلق سواك والصب عبد
خذ فؤادي فقد أتاك بود ... وهو بكر ما افتضه قط وجد
كبد رطبة يفتتها الوجد ... وخد فيه من الدمع خد
أخبرنا القزاز، أَخْبَرَنَا أَحْمَد بن علي، أَخْبَرَنَا القاضي أبو حامد الكلواذاني فيما أذن أن نرويه عنه] [1] قَالَ: [أَخْبَرَنَا] أبو عمر الزاهد، أَخْبَرَنَا ثعلب قَالَ: ما أحد من الشعراء تكلم في الليل إلا قارب إلا خالد الكاتب، فإنه أبدع في قوله:
وليل المحب بلا آخر
فإنه لم يجعل لليل [2] آخر.
وأنشدنا:
رقدت ولم ترث للساهر ... وليل المحب بلا آخر
ولم تدر بعد ذهاب الرقاد ... ما فعل الدمع بالناظر
أيا من تعبدني طرفه ... أجرني من طرفك الجائر
وخذ للفؤاد فداك الفؤاد ... من طرفك الفاتن الفاتر
[أخبرنا [3] أبو منصور القزاز، أَخْبَرَنَا أَحْمَد بن علي، أَخْبَرَنَا القاضي أَحْمَد بن مُحَمَّد الدلوي، أَخْبَرَنَا أبو القاسم الحسن بن مُحَمَّد بن حبيب قَالَ: سمعت عَبْد الرَّحْمَنِ بن مظفر الأنباري يقول: سمعت أبا القاسم بن أبي حسنة يقول: سمعت خالد بن يزيد الكاتب يقول: بينا أنا مار بباب الطاق إذا براكب خلفي على بغلة، فلما لحقني نخسني بسوطه وَقَالَ لي: أنت القائل «ليل المحب بلا آخر» قلت: نعم. قَالَ:
للَّه أبوك وصف امرؤ القيس الليل الطويل في ثلاثة أبيات، ووصفه النابغة في ثلاثة أبيات، ووصفه بشار بن برد في ثلاثة أبيات، وبرزت عليهم بشطر كلمة للَّه أبوك. قلت:
بم وصفه امرؤ القيس: فقال: بقوله:
وليل كموج البحر أرخى سدوله ... على بأنواع الهموم ليبتلي
فقلت له لما تمطى بصلبه ... وأردف أعجازا وناء بكلكل
ألا أيها الليل الطويل ألا انجل ... بصبح وما الإصباح منك بأمثل
قلت: وبما وصفه النابغة؟ فقال: بقوله:
كليني لهم يا أميمة ناصب ... وليل أقاسيه بطيء الكواكب
تقاعس حتى قلت ليس بمنقض ... وليس الذي يهدي النجوم بآئب [1]
وصدر أراح الليل عازب همه ... تضاعف فيه الهم من كل جانب
قلت: وبما وصفه بشار؟ فقال: بقوله:
خليلي ما بال الدجى لا تزحزح ... وما بال ضوء الصبح لا يتوضح
أظن الدجى طالت وما طالت الدجى ... ولكن أطال الليل سقم مبرح
أضل النهار المستنير طريقه ... أم الدهر ليل كله ليس يبرح
قلت له: يا مولاي، هل لك في شعر قلته لم أسبق إليه؟
كلما اشتد خضوعي ... بجوى بين ضلوعي
ركضت في حلبتي خدي ... خيل من دموعي
قال: فثنى رجله عن بغلته وَقَالَ: هاكها فاركبها، فأنت أحق بها مني. فلما مضى سألت عنه فقالوا: هو حبيب بن أوس الطائي.
وفي حديث آخر: أنه قيل له: من أين تأخذ قولك «وليل المحب بلا آخر» فقال:
وقفت على باب وعليه سائل مكفوف يقول: الليل والنهار على سواء. فأخذت هذا منه.
أخبرنا أبو منصور القزاز، أخبرنا أحمد بن علي، أخبرنا علي بن أبي علي، حَدَّثَنَا الحسين بْن مُحَمَّد بْن سليمان الكاتب قَالَ: حدثني أبو مُحَمَّد عَبْد اللَّهِ بن مُحَمَّد المعروف بابن السقا قَالَ: حدثني جحظة قَالَ: قَالَ لي خالد الكاتب: أضقت حتى عدمت القوت أياما، فلما كان في بعض الأيام بين المغرب وعشاء الآخرة إذا بابي يدق فقلت: من ذا؟ فقال: من إذا خرجت إليه عرفته. فخرجت فرأيت رجلا راكبا عَلَى حمار، عليه طيلسان أسود، وعلى رأسه قلنسوة طويلة، ومعه خادم، فقال لي: أنت الذي تقول:
أقول للسقم عد إلى بدني ... حبا لشيء يكون من سببك
قال: قلت: نعم. قَالَ: أحب أن تنزل عنه. فقلت: وهل ينزل الرجل عن ولده؟
فتبسم وَقَالَ: يا غلام، أعطه ما معك. فرمى إلى صرة في ديباجة سوداء مختومة، فقلت: إني لا أقبل عطاء من لا أعرفه، فمن أنت؟ قَالَ: أنا إبراهيم بن المهدي.
أَخْبَرَنَا الْقَزَّازُ أَخْبَرَنَا أحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ، أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ أَيُّوبَ الْقُمِّيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بن عمران المرزباني قَالَ: أخبرني محمد بن يَحْيَى قَالَ: حَدَّثَنِي الْحُسَيْنُ بْنُ إِسْحَاقَ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو الْهَيْثَمِ خَالِدُ بْنُ يَزِيدَ الْكَاتِبُ قَالَ: لَمَّا بُويِعَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمَهْدِيِّ بِالْخِلافَةِ طَلَبَنِي، وَقَدْ كَانَ يَعْرِفُنِي، وَكُنْتُ مُتَّصِلا بِبَعْضِ أَسْبَابِهِ، فَأُدْخِلْتُ إِلَيْهِ فَقَالَ لِي:
يَا خَالِدُ، أَنْشِدْنِي مِنْ شِعْرِكَ. فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لَيْسَ شِعْرِي مِنَ الشِّعْرِ الَّذِي قَالَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ من الشعر حكما» . وإنما أمزح وَأَهْزِلُ، وَلَيْسَ مَا يُنْشَدُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ. فَقَالَ: لا أدع هذا يا خالد، فإن جد الأدب وهزله جد، أنشدني.
فأنشدته] [1] .
عش فحبيك سريعا قاتلي ... والضنى إن لم تصلني واصلي
ظفر الشوق بقلب كمد [2] ... فيك والسقم بجسم ناحل
فهما بين اكتئاب وضنى ... تركاني كالقضيب الذابل
وبكى العاذل لِي من رحمة ... وبكائي لبكاء العاذل





مصادر و المراجع :

١- المنتظم في تاريخ الأمم والملوك

المؤلف: جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي (المتوفى: 597هـ)

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید