المنشورات

أَحْمَد بن طولون

وطولون تركي، انفذه نوح بن أسد عامل بخارى إلى المأمون سنة مائتين، وتوفي سنة أربعين ومائتين، وولد له [4] أَحْمَد ببغداد سنة عشرين ومائتين، ونشأ بعيد الهمة، وكان يستقل عقول الأتراك وأديانهم، ويقول: إن حرمة الدين عندهم منهوكة [5] وكانوا يهابونه، ويتقوون به على الأموال، وتمكنت له المحبة في قلوب الناس، ونشأ على الخير والصلاح، وحفظ القرآن، وطلب الحديث، فلقى الشيوخ وسمع منهم، ثم سأل الوزير عبيد الله بن يحيى بن خاقان أن يوقع له برزقه على الثغر ليكون في جهاد متصل وثواب دائم، ففعل، وكانت ولايته ما بين رحبة [مالك] [6] بن طوق إلى المغرب،وكانت أمه بسر من رأى، فبلغه انها تبكيه [1] لبعده، فرجع إليها فخرج على الرفقة الذين صحبهم أعراب، فقاتلهم أشد قتال، ونصر عليهم، وخلص من أيديهم أموالا قد حملت إلى المستعين، فحسن مكانه عنده، وبعث إليه المستعين/ سرا ألف دينار، وَقَالَ للرسول: عرفه [2] محبتي له، وإيثاري [3] لاصطناعه غير أني [4] أخاف أن أظهر له ما في قلبي فيقتله الأتراك.
ثم استدام الإنعام عليه، ووهب له جارية اسمها: مياس، فولدت له ابنه خمارويه في محرم سنة خمسين ومائتين، ولما تنكر الأتراك للمستعين وخلعوه وولوا المعتز احدروه إلى واسط وفالوا: من تختار أن يكون في صحبتك؟ فقال: أَحْمَد بن طولون.
فبعثوه معه، فأحسن صحبته، ثم خاف غلمان المتوكل من كيد المستعين، فكتبوا إلى أَحْمَد بن طولون أن [أقتله فان] [5] قتلته وليناك واسطا.
فكتب إليهم: والله لا رآني الله قتلت خليفة بايعت [6] له أبدا. فأنفذوا إليه سعيدا الحاجب، فلما رآه المستعين قَالَ: قد جاء جزار بني العباس، فتسلمه، وضرب خيمة على بعد، فأدخله [7] إليها، ثم خرج والقاها على ما فيها ورحل. فلما بعد [8] نظروا، فإذا هو قد حمل رأس المستعين معه، فغسل أَحْمَد بن طولون الجثة وكفنها وواراها، وعاد إلى سرمن رأى، فزاد محله عند الأتراك، ووصفوه بحسن المذهب، فولوه مصر نيابة عن أميرها في سنة أربع وخمسين، فقال حين دخلها: غاية ما وعدت بِهِ [9] في قتل المستعين ولاية واسط، فتركت ذلك لاجل الله تعالى فعوضني الله ولاية مصر والشام.
ثم قتل والى مصر في أيام المهتدي، فصار مستبدا بنفسه في أيام المعتمد، وركب يوما إلى الصيد فلما طعن في البرية غاضت [1] يد دابة بعض أصحابه في وسط الرمل، فكشف المكان فرآى مطلبا واسعا، فأمر أن يعمل فيه، فوجد فيه من المال ما قيمته ألف ألف دينار، فأنفق معظم ذلك في البر والصدقة وبناء الجامع [2] ، وَقَالَ له وكيله يوما: ربما امتدت/ إلى الكف المطوقة، والمعصم فيه السوار، والكف [3] الناعم، أفامنع هذه الطبقة [4] ؟ فقال له: ويحك، هؤلاء المستورون الذين يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف، احذر أن ترديدا أمتدت إليك.
وحسن له بعض التجار التجارة، فدفع إليه خمسين ألف دينار، فرآى فيما يرى النائم كأنه يمشمش عظما، فدعى المعبر فقص عليه ما رأى، فقال: قد سمت عمة الأمير إلى مكسب لا يشبه خطره. فاستدعى صاحب صدقاته، وَقَالَ له: امض إلى التاجر، وخذ [منه] [5] الخمسين ألف دينار، وتصدق بها.
ولما اشتد مرضه في علة الموت فخرج المسلمون بالمصاحف، واليهود بالتوراة، والنصارى بالأناجيل، والمعلمون بالصبيان، وكثر الدعاء في الصحراء والمساجد، فلما أحسن بالموت رفع يده وَقَالَ: يا رب، ارحم من جهل مقدار نفسه وابطره حكمك عنه [6] . ثم تشهد وقضى في ذي القعدة من هذه السنة، وقيل: في التي قبلها.
وكان عمره خمسين سنة، وخلف ثلاثة وثلاثين ولدا منهم سبعة عشر ذكرا، وترك عشرة آلاف ألف دينار، وكان له من المماليك سبعة آلاف، ومن الخيل على مربطه سبعة آلاف فرس، ومن الجمال والبغال ستة آلاف رأس، ومن المراكب [7] الخاصة ثلاثمائة، ومن المراكب الحربية مائة مركب، ومن الغلمان أربعة وعشرون ألفا، وكان خراج مصر في أيامه أربعة آلاف ألف دينار [1] وثلاثمائة ألف دينار، [وأنفق على المصالح أموالا كثيرة منها على الجامع مائة وعشرين ألف دينار] [2] وكان يتصدق في كل شهر [3] بثلاثة آلاف دينار شاذة سوى الراتب، وكان راتب مطبخه في كل يوم ألف دينار، وكان يجري على أهل المساجد كل شهر ألف دينار، وعلى فقراء الثغر كذلك، وحمل إلى بغداد في أيامه [4] ما فرق على الصالحين والعلماء ألفي ألف دينار [5] ومائتي ألف دينار. / ورآه بعض المتزهدين في المنام بحال حسنة، فقال له: ما ينبغي لمن سكن الدنيا أن يحتقر حسنة فيدعها، ولا سيئة فيأتيها، عدل بي عن النار إلى الجنة بتثبتي على متظلم عيي اللسان، شديد التهيب، فسمعت منه وصبرت عليه حتى قامت حجته، وتقدمت بإنصافه، وما في الآخرة على رؤساء الدنيا أشد من الحجاب الملتمسي الإنصاف.
ورآه آخر في المنام فقال له: إنما البلاء من ظلم من لا ناصر له.
أَخْبَرَنَا [عَبْد الرحمن بن محمد] القزاز، أخبرنا [أبو بكر بن ثابت] الخطيب أَخْبَرَنَا الحسين بن مُحَمَّد بن المؤدب، أَخْبَرَنَا إبراهيم بن عَبْد اللَّهِ المالكي، حَدَّثَنَا مُحَمَّد بن علي بن سيف قَالَ: سمعت الحسين بن أَحْمَد النديم قَالَ: سمعت مُحَمَّد بن علي المادرائي قَالَ: كنت اجتاز بتربة أَحْمَد بن طولون، فأرى شيخا يقرئ عند قبره ملازما للقبر، ثم أني لم أره مدة، ثم رأيته بعد ذلك، فقلت له: ألست الذي كنت أراك عند قبر ابن طولون تقرأ عليه؟ قَالَ: بلى. قد [6] كان والينا في هذا البلد، وكان له علينا بعض العدل، وإن [7] لم يكن الكل، فأحببت أن أصله بالقرآن. قلت له: [8] فلم انقطعت عنه [1] ؟ قال لي [2] : رأيته في النوم، وهو يقول لي: أحب أن لا تقرأ عندي، فكأني أقول له: لأي سبب؟ فقال: ما يمر بي آية إلا قرعت بها وقيل لي: أما سمعت هذه؟!.





مصادر و المراجع :

١- المنتظم في تاريخ الأمم والملوك

المؤلف: جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي (المتوفى: 597هـ)

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید