المنشورات

القرامطة وهم الباطنية و مذاهبهم

فإن مقصودهم الإلحاد، وتعطيل الشرائع، وهم يستدرجون الخلق إلى مذاهبهم بما يقدرون عليه، فيميلون إلى كل قوم بسبب [1] يوافقهم ويميزون من يمكن أن ينخدع [2] ممن لا يمكن، فيوصون دعاتهم فيقولون للداعي: إذا وجدت من تدعوه فاجعل التشيع دينك، ادخل عليه من جهة ظلم الأمة لعلي بْن أبي طَالِب [3] [عليه السلام] ، وقتلهم الحسين، وسبيهم لأهله، والتبري من تيم وعدي وبني أمية وبني العباس، وقل بالرجعة [4] ، وأن عليا يعلم الغيب، فإذا تمكنت منه أوقفته على مثالب علي وولده، وبينت له بطلان ما عليه أهل ملة مُحَمَّد [عليه السلام] وغيره من الرسل [عليهم السلام] ، وإن كان يهوديا فادخل عليه من جهة انتظار المسيح، وأن المسيح هو مُحَمَّد بن إسماعيل بن جعفر، وهو المهدي، واطعن في النصارى والمسلمين، وإن كان نصرانيا فاعكس، [وإن كان صابئيا فتعظيم الكواكب، وإن كان مجوسيا فتعظيم النار والنور] [5] ، وإن وجدت [6] فيلوسوفيا فهم عمدتنا لأنا نتفق وهم على إبطال نواميس الأنبياء [7] وعلى/ قدم العالم، ومن أظهرت له التشيع فاظهر له بغض أبي بكر وعمر، ثم أظهر له العفاف والتقشف وترك الدنيا والإعراض عن الشهوات، ومر بالصدق والأمانة، والأمر بالمعروف، فإذا استقر عنده ذلك فاذكر له زلل [1] أبي بكر وعمر، وإن كان سنيا فاعكس، وإن كان مائلا إلى المجون والخلاعة، فقرر عنده أن العبادة بله، والورع حماقة، وإنما الفطنة في اتباع اللذة، وقضاء الوطر من الدنيا الفانية. وقد يستصحبون [2] من له صوت طيب بالقرآن، فإذا قرأ تكلم داعيهم، ووعظ وقدح في السلاطين، وعلماء الزمان، وجهال العامة، ويقول: الفرج منتظر ببركة آل الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وربما قَالَ: إن للَّه عز وجل في كلماته أسرارا لا يطلع عليها إلا من اجتباه اللَّه [3] .
ومن مذاهبهم أنهم لا يتكلمون مع عالم، بل مع الجهال، ويجتهدون في تزلزل العقائد بإلقاء المتشابه، وكل ما لا يظهر للعقول معناه فيقولون: ما معنى الاغتسال من المني دون البول؟ ولم كانت أبواب الجنة ثمانية، وأبواب النار سبعة؟ وقوله: عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ 74: 30 [4] أترى [5] ضاقت القافية ما نظن [6] هذا إلا لفائدة لا يفهمها كثير من الناس، ويقولون: لم كانت السموات سبعا؟ ثم يشوقون إلى جواب هذه الأشياء، فإن سكت السائل سكتوا، وإن ألح قالوا: عليك بالعهد والميثاق على كتمان هذا السر، فإنه الدر الثمين، فيأخذون عليه العهود والميثاق على كتمان هذا، ويقولون في الأيمان «وكل مالك صدقة وكل امرأة لك طالق ثلاثا إن أخبرت بذلك» ثم يخبرونه ببعض الشيء، ويقولون: هذا لا يعلمه إلا آل رسول الله صَلى اللهُ عَلَيه وَسَلَّمَ. ويقولون: هذا الظاهر له باطن، وفلان يعتقد ما نقول، ولكنه يستره ويذكرون له بعض الأفاضل/، ولكنه ببلد بعيد.
فصل
واعلم أن مذهبهم ظاهره الرفض، وباطنه الكفر، ومفتتحه حصر مدارك العلوم في قول الإمام المعصوم، وعزل العقول أن تكون مدركة للحق، لما يعترضها من الشبهات،والمعصوم يطلع من جهة الله تعالى على جميع أسرار الشرائع، ولا بد في كل زمان من إمام معصوم يرجع إليه. هذا مبدأ دعوتهم.
ثم يبين أن غاية مقصدهم نقض الشرائع، لأن سبيل دعوتهم ليس متعينا في واحد، بل يخاطبون كل فريق بما يوافق رأيه [1] ، لأن غرضهم الاستتباع. وقد ثبت عنهم أنهم يقولون بإلهين قديمين لا أول لوجودهما [2] من حيث الزمان، إلا أن أحدهما علة لوجود الثاني، واسم العلة السابق، واسم المعلول التالي، وأن السابق خلق العالم بواسطة التالي، لا بنفسه، وقد يسمون الأول عقلا، والثاني نفسا، والأول تاما، والثاني ناقصا، والأول لا يوصف بوجود، ولا عدم، ولا موصوف، ولا غير موصوف. فهم يومئون إلى النفي، لأنهم لو قالوا معدوم ما قبل منهم، وقد سموا هذا النفي تنزيها، ومذهبهم في النبوات قريب من مذهب الفلاسفة، وهو أن النبي عبارة عن شخص فاضت عليه من العقل السابق بواسطة الثاني [3] قوة قدسية صافية، وأن جبريل عبارة عن العقل الفائض عليه، لا أنه [4] شخص، وأن القرآن هو تعبير مُحَمَّد عن المعارف التي فاضت عليه من العقل، فسمي كلام الله مجازا، لأنه مركب من جهته، وهذه القوة الفائضة على النبي، لا تفيض عليه في أول أمره، وإنما تتربى كنطفة.
واتفقوا على أنه لا بد في كل عصر/ من [5] أمام معصوم قائم بالحق، يرجع إليه في تأويل الظواهر، وحل الإشكال في القرآن والأخبار، وأنه يساوي النبي في العصمة، ولا يتصور في زمان واحد إمامان، بل يستظهر الإمام بالدعاة، وهم الحجج، ولا بد للإمام من اثني عشر حجة، أربعة منهم لا يفارقونه.
وكلهم أنكر القيامة، وقالوا: هذا النظام وتعاقب الليل والنهار، وتولد الحيوانات لا ينقضي أبدا، وأولوا القيامة بأنها رمز إلى خروج الإمام، ولم يثبتوا الحشر ولا النشر،ولا الجنة ولا النار، ومعنى المعاد عندهم عود كل شيء إلى أصله، قالوا: فجسم الآدمي يبلى، والروح إن صفت بمجانبة الهوى، والمواظبة على العبادات، وغذيت بالعلم سعدت [1] بالعود إلى وطنها الأصلي، وكمالها بموتها، إذ به خلاصها من ضيق الجسد.
وأما النفوس المنكوسة [2] المغموسة في عالم الطبيعة المعرضة عن طلب رشدها من الأئمة [3] المعصومين، فإنها أبدا في النار على معنى أنها تتناسخ في الأبدان الجسمانية، وكلما فارقت جسدا تلقاها آخر، واستدلوا بقوله تعالى: كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها 4: 56 [4] وأكثر مذاهبهم يوافق الثنوية والفلاسفة في الباطن، والروافض في الظاهر، وغرضهم بهذه التأويلات انتزاع المعتقدات الظاهرة، من نفوس الناس [5] ، حتى تبطل الرغبة والرهبة.
ثم إنهم يعتقدون استباحة المحظورات، ورفع الحجر، ولو ذكر لهم هذا لأنكروه، وقالوا: لا بد من الانقياد للشرع على ما يفعله [6] الإمام، فإذا أحاطوا بحقائق الأمور انحلت عنهم القيود والتكاليف العملية [7] / إذ المقصود عندهم [8] من أعمال الجوارح تنبيه القلب، وإنما تكليف الجوارح للخمر [9] الذين لا يراضون إلا بالسياقة.
وغرضهم هدم قوانين الشرع.
قالوا: وكل ما ذكر من التكاليف فرموز إلى باطن، فمعنى الجنابة مبادرة المستجيب [10] بإنشاء سر إليه، قبل أن ينال رتبة الاستحقاق لذلك، ومعنى الغسل تجديد العهد على من فعل ذلك. والزنا: إلقاء نطفة العلم [الباطن] [1] إلى نفس من لم يسبق معه عقد العهد، والاحتلام [2] أن يسبق الإنسان إلى إفشاء السر في غير محله، والصيام: الإمساك عن كشف السر.
والمحرمات عبارة عن ذوى السر [3] ، والبعث عندهم الاهتداء إلى مذاهبهم.
ويقولون لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ 4: 11 [4] الذكر الإمام، والحجة الأنثى.
وقالوا: يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ 7: 53 [5] أي يظهر [6] مُحَمَّد بن إسماعيل.
وفي قوله: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ 5: 3 [7] . قالوا: الميتة الجامد [على الظاهر] [8] الذي لا يلتفت إلى التأويل.
وقالوا: إن الشاء والبقر الّتي تذبح [9] هم الذين حضروا محاربة الأنبياء والأئمة، يترددون في هذه الصور، ويجب على الذابح أن يقول عند الذبح اللَّهمّ إني أبرأ إليك من روحه وبدنه، وأشهد له بالضلالة اللَّهمّ لا تجعلني من المذبوحين.
ولهم من هذا الهذيان ما ينبغي تنزيه الوقت عن ذكره، وإنما علمت [10] هذه الفضائح من أقوام تدينوا بدينهم، ثم بانت لهم قبائحهم فتركوا مذهبهم.
فإن قَالَ قائل مثل هذه الاعتقادات الركيكة، والحديث الفارغ، كيف يخفى على من يتبعهم، ونحن نرى أتباعهم خلقا كثيرا، فالجواب أن أتباعهم أصناف فمنهم قوم ضعفت عقولهم، وقلت بصائرهم وغلبت عليهم البلادة والبله، ولم يعرفوا شيئا من العلوم كأهل السواد/ والأكراد، وجفاة الأعاجم، وسفهاء الأحداث، فلا يستبعد ضلال هؤلاء، فقد كان خلق ينحتون الأصنام، ويعبدونها.
ومن أتباعهم طائفة انقطعت دولة أسلافهم بدولة الإسلام كأبناء الأكاسرة والدهاقين، وأولاد المجوس، فهؤلاء موتورون، قد استكن الحقد في صدروهم، فهو كالداء الدفين، فإذا حركته تخائيل [1] المبطلين اشتعلت نيرانه.
ومن أتباعهم قوم [لهم] [2] تطلع إلى التسلط والاستيلاء، ولكن الزمان لا يساعدهم، فإذا رأوا طريق الظفر بمقاصدهم سارعوا.
ومن أتباعهم قوم جبلوا على حب التميز عن العوام، فزعموا أنهم يطلبون الحقائق، وأن أكثر الخلق كالبهائم، وكل ذلك لحب النادر الغريب.
ومن أتباعهم ملحدة [3] الفلاسفة والثنوية الذين اعتقدوا الشرائع نواميس مؤلفة، والمعجزات مخاريق مزخرفة، فإذا رأوا من يعطيهم [4] شيئا من أغراضهم مالوا إليه.
ومن أتباعهم قوم مالوا إلى عاجل اللذات، ولم يكن [لهم] [5] علم ولا دين، فإذا صادفوا [6] من يرفع عنهم الحجر مالوا إليه. على أن هؤلاء القوم لا يكشفون أمرهم إلا بالتدريج على قدر طمعهم في الشخص.
وإنما مددنا النفس في شرح حالهم، وأن كنا إنما ذكرنا بيتا من قصيدة لعظم ضررهم على الدين، وشياع كلمتهم المسمومة [7] ، وإنما اجتمعت الأسباب التي ذكرناها في وسط أيامهم، وإلا فمعاندوا الشرائع منذ كانت [8] خلق كثير. 
وقد نبغ منهم قوم فأظهروا إمامة مُحَمَّد ابن الحنفية، وقالوا: إن روح مُحَمَّد انتقلت إليه، ثم انتقلت [منه] [1] إلى أبي مسلم صاحب الدعوة، ثم إلى/ المهدي، ثم إلى رجل يعرف بابن القصري [2] ، ثم خمدت نارهم ثم نبغ منهم [3] في أيام المأمون رجل فاحتال، فلم تنفذ حيلته، ثم تناصروا في أيام المعتصم، وكاتبوا الأفشين، وهو رئيس الأعاجم، فمال إليهم، واجتمعوا مع بابك، ثم زاد جمعهم على ثلاثمائة ألف، فقتل المعتصم منهم ستين ألفا، وقتل الأفشين أيضا، ثم ركدت دولتهم، ثم نبغ منهم جماعة وفيهم رجل من ولد بهرام جور، وقصدوا إبطال الإسلام، ورد الدولة الفارسية، وأخذوا يحتالون في تضعيف قلوب المؤمنين، وأظهروا مذهب الإمامية، وبعضهم مذهب الفلاسفة، وجعل لهم رأس يعرف بعبد الله [4] بن ميمون بن عمرو، ويقال: ابن ديصان القداح الأهوازي، وكان مشعبذا [5] ممخرقا، وكان معظم مخرقته بإظهار الزهد والورع، وأن الأرض تطوى له، وكان يبعث خواص أصحابه إلى الأطراف معهم طيور [6] ، ويأمرهم أن يكتبوا إليه الأخبار [7] عن الأباعد، ثم يحدث الناس بذلك، فيقوى شبههم.
وكانوا يقولون: إن المتقدمين منهم يستخلفون عند الموت، وكلهم خلفاء مُحَمَّد بن إسماعيل [بن جعفر] [8] الطالبي، وأن من الدعاة إلى الإمام معدا أبا تميم [9] ، وإسماعيل أَبَاهُ [10] ، وهم المتغلبون على بلاد المغرب، ومن استجاب لهم عرفوه أنه إن عمل ما يرضيهم صار إماما ونبيا [1] ، وأنه يرتقي المبتدئ منهم إلى الدعوة، ثم إلى أن يكون حجة، ثم إلى الإمامة، ثم يلحق مرتبة الرسل، ثم يتحد بالرب فيصير ربا ولا يجوز لأحد أن يحجب امرأته عن إخوانه.







مصادر و المراجع :

١- المنتظم في تاريخ الأمم والملوك

المؤلف: جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي (المتوفى: 597هـ)

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید