المنشورات

ورود الخبر في ربيع الآخر أن المعتضد وصل إلى آمد

فأناخ بجنده عليها، وحاصرها، ونصب المجانيق [عليها] [1] واقتتلوا، فبعث رئيسها يطلب الأمان فأمنه، فخرج إليه [فخلع عَلَيْهِ] [2] ، ووصل رسول من هارون بن خمارويه إلى المعتضد وهو بآمد يخبره أنه قد بذل أنه أن سلمت إليه أعمال [3] قنسرين والعواصم حمل إلى بيت المال في كل سنة أربعمائة ألف دينار [وخمسين ألف دينار] [4] وأنه يسأل أن يجدد له ولاية مصر والشام، فأجيب إلى ذلك، فأقام المعتضد بآمد بقية جمادى الأولى وعشرين يوما من جمادى الآخرة، ثم ارتحل عنها، وأمر بهدم سورها، فهدم بعضه ولم يقدر على هدم الباقي.
فقال ابن المعتز يهنئه بفتح آمد:
اسلم أمير المؤمنين ودم ... في غبطة وليهنك النصر [5]
فلرب حادثة نهضت لها ... متقدما فتأخر الدهر
ليث فرائسه الليوث [1] فما ... يبيض من دمها له ظفر
وحكى أبو بكر الصولي [2] : انه كان مع المعتضد أعرابي فصيح يُقَالُ له شعلة بن شهاب اليشكري، وكان يأنس به، فأرسله إلى مُحَمَّد بن عيسى بن شيخ ليرغبه في الطاعة ويحذره العصيان، قَالَ: فصرت إليه فخاطبته فلم يجبني، فوجهت إلى عمته فصرت إليها، فقالت: يا أبا [شهاب] [3] كيف خلفت أمير المؤمنين؟ فقلت: خلفته أمارا [4] بالمعروف فعالا للخير.
فقالت: أهل ذلك ومستحقه، وكيف لا يكون كذلك وهو ظل [5] الله [تعالى] [6] الممدود [7] على بلاده، [وخليفته المؤتمن على عباده] ، فكيف رأيت صاحبنا؟ قلت:
رأيت/ غلاما حدثا معجبا قد استحوذ عليه السفهاء واستبد [8] بآرائهم يزخرفون له 147/ ب الكذب، فقالت: هل لك أن ترجع إليه بكتابي قبل لقاء أمير المؤمنين؟ قلت: أفعل.
فكتبت إليه كتابا لطيفا أجزلت فيه الموعظة، وكتبت في آخره:
اقبل نصيحة أم قلبها وجل [9] ... خوفا [عليك] [10] وإشفاقا وقل سددا
واستعمل الفكر في قولي فانك إن ... فكرت ألفيت في قولي لك الرشدا
ولا تثق برجال في قلوبهم ... ضغائن تبعث الشنآن والحسدا
مثل النعاج خمولا في بيوتهم ... حتى إذا آمنوا ألفيتهم أسدا
وداو داءك والأدواء ممكنة ... وإذ طبيبك قد ألقى عَلَيْكَ يدا [1]
وأعط الخليفة ما يرضيه منك ولا ... تمنعه مالا ولا أهلا ولا ولدا
واردد أخا يشكر ردا يكون له ... ردا من السوء لا تشمت به أحدا
قَالَ: فأخذت الكتاب وصرت إليه، فلما نظر فيه رمى به إلى، ثم قَالَ: يا أخا بني يشكر [2] ، ما بآراء النساء تتم الدول [3] ، ولا بعقولهن يساس الملك، ارجع إلى صاحبك.
فرجعت إلى المعتضد فأخبرته الخبر، فأخذ الكتاب فقرأه فأعجبه شعرها وعقلها، ثم قَالَ: إني لأرجو أن اشفعها في كثير من القوم.
فلما كان من فتح آمد ما كان أرسل إلى المعتضد فقال: هل عندك علم من تلك المرأة؟ قلت: لا! قَالَ: فامض مع هذا الخادم فانك ستجدها في جملة نسائها، فمضيت فلما بصرت بي من بعد أسفرت عن وجهها، وجعلت تقول:
148/
أريب الزمان وصرفه ... وعناده كشف القناعا/
واذل بعد العز منا ... الصعب والبطل الشجاعا
ولكم نصحت فما أطعت ... وكم حرصت بأن أطاعا
فأبى بنا المقدور [4] إلا ... أن نقسم أو نباعا
يا ليت شعري هل نرى ... من بعد فرقتنا [5] اجتماعا
ثم بكت حتى علا صوتها، وضربت بيدها على الأخرى، وقالت: إنا للَّه وإنا إليه راجعون، كأني والله كنت أرى ما أنا فيه [6] ، فقلت لها إن أمير المؤمنين وجه بي إليك وما ذاك إلا لجميل رأيه فيك، قالت: فهل لك أن توصل لي رقعة إليه؟ [قلت: نعم] [1] ، فدفعت إلى رقعة فيها [مكتوب] [2] :
قل للخليفة والإمام المرتضى ... وابن الخلائف من قريش الأبطح
علم الهدى ومناره وسراجه ... مفتاح كل عظيمة لم تفتح
بك اصلح الله البلاد وأهلها ... بعد الفساد وطال ما لم تصلح
فتزحزحت بك هضبة العرب التي ... لولاك بعد الله لم تتزحزح [3]
أعطاك ربك ما تحب فأعطه ... ما قد يحب وجد بعفوك [4] واصفح
يا بهجة الدنيا وبدر ملوكها ... هب ظالمي ومفسدي لمصلح
قَالَ: فصرت بها إلى المعتضد، فلما قرأها ضحك، وَقَالَ: لقد نصحت لو قبل منها، وأمر أن يحمل إليها خمسون ألف درهم، وخمسون تختا من الثياب، وأمر أن يحمل مثل ذلك إلى ابن عيسى.
ووردت الأخبار يوم الخميس لثمان بقين من جمادى الآخرة هدية عمرو بن الليث من نيسابور، وكان مبلغ المال الّذي وجه [به] [5] أربعة آلاف ألف درهم، وعشرين من الدواب، بسروج ولجم محلاة، ومائة وخمسين [6] دابة بجلال مشهورة [7] ، وكسوة حسنة، وطيبا [8] وبزاة [وطرف] [9] .
وفى هذه السنة: عبر إسماعيل/ بن أَحْمَد نهر بلخ، يريد عمرو بن الليث الصفار، 148/ ب فظفر به، وذلك أن أهل بلخ ملوه وضجروا [منه و] [10] من نزول أصحابه في منازلهم،ومد يده إلى أموالهم، وكان أصحاب عمرو قد خرجوا يوما من بلخ فحمل عليهم أصحاب إسماعيل [فانهزموا] [1] فانهزم عمرو، فأخذ وجيء به إلى إسماعيل، فقام إليه، وقبل [بين] [2] عينيه، وَقَالَ: عزيز على يا أخي ما نالك، وغسل وجهه وخلع عليه وحلف له انه [3] لا يؤذيه ولا يسلمه، فجاءه كتاب المعتضد بأن يسلم عمرو بن الليث، فسلمه.
وكان عمرو يقول: لو أردت أن اعمل جسرا من ذهب على نهر بلخ لفعلت، وكان يحمل فرشه، ومطبخه [4] على ستمائة جمل، فآل به الأمر إلى القيد والذل.
وفى هذه السنة ظهر رجل من القرامطة يكنى أبا سعيد، فاجتمع إليه جماعة منهم ومن الأعراب، وكثر أصحابه [وذلك] [5] في جمادى الآخرة، وقوى أمره، فقتل من حوله من أهل القرى، ثم صار إلى موضع يُقَالُ له: القطيف، بينه وبين البصرة مراحل، وقيل:
انه يريد البصرة، فكتب أَحْمَد بن مُحَمَّد الواثقي، وكان يتقلد معادن البصرة وكور دجلة إلى السلطان [بما] [6] قد عزم عليه القرامطة، فكتب إليه في عمل سور على البصرة فقدرت النفقة [عليه] [7] أربعة عشر ألف دينار، فبنى، وغلب أبو سعيد على هجر وأمن أهلها.
ومن الحوادث العجيبة فيها [8] .
ما أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدِ الْقَزَّازِ، قَالَ: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت، 149/ أقال: / أخبرني مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ يَعْقُوبَ، قَالَ: حَدَّثَنَا محمد بْن نعيم الضبي، قَالَ:
سمعت أبا عَبْد اللَّهِ مُحَمَّد بن أَحْمَد بن موسى القاضي، يقول: حضرت مجلس موسى بن إسحاق القاضي بالري سنة ست وثمانين ومائتين [1] ، فتقدمت امرأة فادعى وليها على زوجها خمسمائة دينار مهرا، فأنكر، فقال القاضي: شهودك، قَالَ: قد أحضرتهم، فاستدعى بعض الشهود أن ينظر إلى المرأة ليشير إليها في شهادته، فقام الشاهد وَقَالَ للمرأة. قومى! فقال الزوج: تفعلون ماذا؟ قَالَ [الوكيل] : ينظرون إلى امرأتك وهى مسفرة لتصح عندهم [2] معرفتها، فقال الزوج: فإني أشهد القاضي أن لها علي هذا المهر الّذي تدعيه ولا يسفر عن وجهها، فأخبرت المرأة بما كان من زوجها، فقالت: فاني أشهد القاضي أني قد وهبت له [3] هذا المهر، وأبرأته منه في الدنيا والآخرة! فقال القاضي: يكتب هذا في مكارم الأخلاق. [4]






مصادر و المراجع :

١- المنتظم في تاريخ الأمم والملوك

المؤلف: جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي (المتوفى: 597هـ)

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید