المنشورات

حامد بْن العباس، أَبُو محمد

استوزره المقتدر باللَّه سنة ست وثلاثمائة وكان موسرا له أربعمائة مملوك يحملون السلاح، [لكل واحد منهم مماليك] [6] ، وكان يحجبه ألف وسبعمائة حاجب [7] ، وَكَانَ ينظر بفارس قديما، ودام نظره بواسط، وَكَانَ صهره أَبُو الحسين بْن بسطام إذا سافر كَانَ معه أربعون بختية موقرة أسرة ليجلس عليها، وفيها واحدة موقرة سفافيد المطبخ، وكان معه أربعمائة سجادة للصلاة، فلما قبض على حامد صودر صهره هذا على ثلاثمائة ألف دينار.
وَكَانَ حامد ظاهر المروءة كثير العطاء، فحكى أَبُو بكر الصولي أنه شكا إليه شفيع المقتدري فناء شعيره، فجذب الدواة وكتب له بمائة [1] كر شعير، فَقَالَ له ابن الحواري:
فأنا اكتب له بمائة كر، فنظر إليه نصر الحاجب، فكتب له بمائة كر، وكتب لأم موسى بمائة كر [2] ، ولمؤنس الخادم بمائة كر.
وحكى أَبُو عَلي التنوخي عن بعض الكتاب، قَالَ: حضرت مائدة حامد وعليها عشرون نفسا، وكنت أسمع أنه ينفق عليها كل يوم مائتي دينار، فاستقللت ما رأيت ثم خرجت فرأيت في الدار نيفا وثلاثين مائدة منصوبة، على كل مائدة ثلاثون نفسا، وكل مائدة كالمائدة التي بين يديه، حتى البوارد والحلوى، وَكَانَ لا يستدعي أحدا إلى طعامه بل يقدم الطعام إلى كل قوم في أماكنهم.
أنبأنا مُحَمَّد بْن أبي طاهر، قَالَ: أنبأنا عَلي بْن المحسن التنوخي [إذنا] [3] عن أبيه، قَالَ: حدثني القاضي أَبُو الحسن مُحَمَّد بْن عبد الواحد الهاشمي، قَالَ: كَانَ حامد بْن العباس من أوسع من رأيناه نفسا، وأحسنهم مروءة، وأكثرهم نعمة، وأشدهم سخاء وتفقدا لمروءته، وَكَانَ ينصب في داره كل يوم عدة موائد ولا يخرج من الدار أحد من الجلة والعامة والحاشية وغيرهم إذا حضر الطعام أو يأكل حتى غلمان الناس، فربما نصب في داره في يوم واحد أربعون مائدة. وَكَانَ يجري على كل من يجرى عليه الخبز لحما وكانت جراياته كلها الحواري، فدخل يوما إلى دهليزه فرأى فيه قشر باقلاة، فأحضر وكيله، وَقَالَ: [ويلك] [4] ! يؤكل في داري الباقلاء؟ قَالَ: هذا من فعل البوابين، قَالَ: أو ليست لهم جرايات لحم؟ قَالَ بلى، قَالَ فسلهم عن السبب، فسألهم فقالوا: لا نتهنأ بأكل اللحم دون عيالنا فنحن ننفذه إليهم لنأكله معهم ليلا ونجوع بالغدوات فنأكل الباقلاء، فأمر حامد أن يجرى عليهم جرايات لعيالهم تحمل إلى منازلهم، وإن يأكلوا جراياتهم في الدهليز، ففعل ذلك، فلما كَانَ بعد أيام رأى قشر باقلاة في الدهليز، فاستشاط [غيظا] [5] وَكَانَ حديدا فشتم وكيله وَقَالَ: ألم أضعف الجرايات، فلم في دهليزي قشور الباقلاء؟ فَقَالَ: إن الجرايات لما تضاعفت جعلوا الأولى لعيالاتهم في كل يوم، وصاروا يجمعون الثانية عند القصاب، فإذا خرجوا من النوبة ومضوا نهارا إلى منازلهم في نوبة استراحتهم فيها أخذوا ذلك مجتمعا من القصاب فتوسعوا به، قَالَ:
فلتكن الجرايات بحالها، وليتخذ مائدة في كل [يوم و] [1] ليلة تنصب غدوة قبل نصب موائدنا يطعم عليها هؤلاء [2] ، والله لئن وجدت بعد هذا في دهليزي قشر باقلاة لأضربنك وجميعهم بالمقارع، ففعل ذلك، وَكَانَ ما زاد في نفقة الأموال فيه أمرا عظيما.
قَالَ المحسن: وحدثني هبة الله بْن مُحَمَّد بْن يُوسُف المنجم، قَالَ: حدثني جدي قَالَ: وقفت امرأة لحامد بْن العباس [على الطريق] [3] فشكت إليه الفقر ودفعت إليه قصة كانت معها، فلما جلس وقع لها بمائتي دينار، فأنكر الجهبذ دفع هذا القرار إلى مثلها، فراجعه فَقَالَ حامد: والله ما كَانَ في نفسي أن أهب لها إلا مائتي درهم ولكن الله تعالى أجرى لها على يدي مائتي دينار، فلا أرجع في ذلك، أعطها فدفع إليها، فلما كَانَ بعد أيام دفع إليه رجل قصة يذكر فيها أن امرأتي وأنا كنا فقراء فرفعت قصة إلى الوزير فوهب لها مائتي دينار، فاستطالت عَلي بها وتريد الآن إعناتي لأطلقها فان رأى الوزير أن يوقع لي من يكفها عني فعل، فضحك حامد فوقع له بمائتي دينار، وَقَالَ: قولوا له [يقول لها] [4] : قد صار الآن مالك مثل مالها فهي لا تطالبك بالطلاق، فقبضها [5] ، وانصرف غنيا.
قَالَ المحسن: وحدثني عبد الله بْن أَحْمَد بْن داسة، [قَالَ] [6] : حدثني أَبُو الحسين أَحْمَد بْن الحسين بْن المثنى [7] ، قَالَ لما قدم حامد بْن العباس الأبلة يريد الأهواز وهو وزير خرجت لتلقيه، فرأيت له حراقة ملاحوها خصيان بيض وعلى وسطها شيخ يقرأ القرآن وهي مظللة مسترة فسألت عن ذلك، فقالوا: هذه حراقة الحرم لا يحسن أن يكون ملاحوها فحولة.
قَالَ المحسن: وحدثني أَبُو عبد الله الصيرفي، قَالَ: حدثني أَبُو عبد الله القنوتي [1] ، قَالَ: ركب حامد وهو عامل واسط/ إلى بستان [له] [2] فرأى بطريقه دارا محترقة وشيخا يبكي ويولول، وحوله صبيان ونساء على مثل حاله، فسأل عنه، فقيل:
هذا رجل تاجر احترقت داره وافتقر فوجم ساعة، ثم قَالَ: أين فلان الوكيل؟ فجاء، فقال له: أريد أن أندبك لأمر إن [3] عملته كما أريد فعلت بك وصنعت- وذكر جميلا- وإن تجاوزت فيه رسمي فعلت بك وصنعت- وذكر قبيحا- فَقَالَ: مر بأمرك، فَقَالَ ترى هذا الشيخ قد آلمني قلبي له، وقد تنغصت عَلي نزهتي بسببه، وما تسمح نفسي بالتوجه إلى بستاني إلا بعد أن تضمن لي أنني إذا عدت العشية من النزهة وجدت الشيخ في داره وهي كما كانت مبنية مجصصة [4] نظيفة، وفيها صنوف المتاع والفرش والصفر كما كانت، وتباع له ولعياله كسوة الشتاء والصيف مثل ما كان لهم، فقام الوكيل فتقدم إلى الخازن بأن يطلق ما أريده وإلى صاحب المعونة أن يقف معي ويحضر من أطلبه من الصناع، فتقدم حامد بذلك- وَكَانَ الزمان صيفا- فتقدم بإحضار أصناف الروز جارية، فكانوا ينقضون بيتا [5] ويقيمون فيه من يبنيه، وقيل لصاحب الدار اكتب جميع ما ذهب منك حتى المكنسة والمقدحة، وصليت العصر وقد سقفت الدار، وجصصت، وغلقت الأبواب، ولم يبق غير الطوابيق، فأنفذ الرجل [6] إلى حامد وسأله التوقف في البستان وأن لا يركب منه إلى أن يصلي عشاء الآخرة [7] ، فبيضت الدار [8] ، وكنست وفرشت،ولبس الشيخ وعياله الثياب، ودفعت إليهم الصناديق والخزائن مملوءة بالأمتعة، فاجتاز حامد والناس قد اجتمعوا كأنه يوم عيد يضجون بالدعاء له، فتقدم حامد إلى الجهبذ بخمسة آلاف درهم يدفعها إلى الشيخ يزيدها في بضاعته، وسار حامد إلى داره.
قَالَ المحسن: حدثني أَبُو الحسن بْن المأمون الهاشمي: أنه وجد لحامد في نكبته التي قتل فيها في بئر لمستراح له أربعمائة ألف دينار [عينا] [1] دل عليها لما اشتدت به المطالبة.
وأخبرني غيره أن حامدا كَانَ عمل حجرة وجعل فيها مستراحا، وَكَانَ يتقدم إلى وكيله [2] أن يجيء بالدنانير، فكلما حصل له كيس أخذه ثيابه وقام كأنه يبول، فدخل ذلك المستراح، فألقى الكيس في البئر وخرج [3] من غير أن يصب فيها ماء ولا يبول ويوهم الفراش أنه فعل ذلك، فإذا أخرج قفل المستراح ولم يدخله غيره على رسم مستراحات الملوك، فإذا أراد الدخول فتحه له الخادم المرسوم بالوضوء وذلك الخادم [المرسوم بالوضوء] [4] لا يعلم السر في ذلك، فلما تكامل المال، قَالَ: هذا المستراح فسد فسدوها [5] ، [فسد] [6] وعطل، فلما اشتدت به المطالبة دل عليه فأخرج ما فيه.
ولما عزل المقتدر حامدا قرر مع ابن الفرات أنه لا ينكبه، وَقَالَ: خدمنا بغير رزق، وشرط أن يناظر بمحضر من القضاة والكتاب، وَكَانَ قد وقع بينه وبين مفلح الخادم وجرى بينهما [مخاشنة] [7] ، فَقَالَ حامد: والله لابتاعن مائة أسود أجعلهم قوادا، وأسمي كل واحد منهم مفلحا، فأدى عنه مفلح إلى الخليفة ما لم يقله، وأشار بأن ينفذ إلى ابن الفرات، وَقَالَ: إن لم يكن [8] في قبضه وقفت أموره، فتقدم الخليفة بذلك وأمر ابن الفرات أن يفرد له دارا حسنة، ويفرش له فرشا جميلا، ويحضر ما يختار من الأطعمة، وباع حامد داره التي [كانت له] [1] على الصراة من نازوك باثني عشر ألف دينار، وباع خادما له عليه بثلاثة آلاف دينار، وأقر حامد بألف ألف دينار ومائتي ألف دينار، وأحدر إلى واسط في رمضان هذه السنة فتسلمه مُحَمَّد بْن عبد الله البزوفري [2] ، وَكَانَ ينظر من قبل لحامد، فأراد البزوفري [3] أن يحتاط لنفسه حين مرض حامد، فأحضر قاضي واسط وشهودها يخبرهم أنه مات حتف أنفه، فلما دخل الشهود عليه قال لهم: ان الفرات الكافر الفاجر الرافضي عاهدني وحلف بأيمان البيعة إن أقررت بأموالي صانني عن المكروه، فلما أقررت سلمني إلى ابنه فقدم لي بيضا مسموما فلا صنع للبزوفري [4] في دمي إلى وقتنا هذا، ولكنه كفر إحساني. توفي حامد في رمضان هذه السنة.






مصادر و المراجع :

١- المنتظم في تاريخ الأمم والملوك

المؤلف: جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي (المتوفى: 597هـ)

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید