المنشورات

عَلي بْن عيسى قدم وقد جعل وزيرا

فخرج الناس لتلقيه في أول صفر، فمنهم من لقيه بالأنبار، ومنهم من لقيه [1] دونها، فلما وصل دخل إلى المقتدر باللَّه فخاطبه بأجمل خطاب، وانصرف إلى منزله، فبعث إليه المقتدر بكسوة فاخرة وفرش وعشرين ألف دينار، وخلع عليه في غداة غد لسبع خلون من صفر، فلما خلع عليه أنشد:
ما الناس إلا مع الدنيا وصاحبها/ ... فكيف ما انقلبت يوما به انقلبوا
يعظمون أخا الدنيا فإن وثبت ... يوما عليه بما لا يشتهي وثبوا
وفى يوم الأحد لثمان خلون من ربيع الأول: انقض كوكب عظيم له ضوء شديد على ساعتين بقيتا من النهار.
وفى يوم الخميس لأربع خلون من ربيع الآخر: خلع على مؤنس للخروج إلى الثغر [2] ، لأن الكتاب ورد من عامل الثغور بأن الروم دخلوا سميساط [3] ، وأخذوا جميع ما فيها، ونصبوا فيها خيمة الملك [1] ، وضربوا في المسجد الجامع بها في أوقات صلواتهم الناقوس [2] .
ثم قرئت الكتب على المنابر في يوم الجمعة لإحدى عشرة ليلة بقيت من ربيع الآخر: أن المسلمين عقبوا على الروم فقتلوا منهم مقتلة عظيمة وغنموا غنائم كثيرة.
وفى يوم الخميس لإحدى عشرة ليلة خلت من ربيع الآخر: ظهر ببغداد أن خادما من خواص خدم المقتدر باللَّه حكى لمؤنس المظفر أن المقتدر تقدم إلى خواص خدمه بحفر زبية في الدار [3] المعروفة بدار الشجرة من دار السلطان، حتى إذا حضر مؤنس للوداع عند عزمه على الخروج إلى الثغر حجب الناس وأدخل مؤنس وحده، فإذا اجتاز على تلك الزبية وهي مغطاة وقع فيها فنزل الخدم وخنقوه، ويظهر أنه وقع في سرداب فمات، فتأخر مؤنس عن المضي إلى دار السلطان لهذا السبب، وركب إليه القواد والغلمان والرجالة وأصحابه بالسلاح، وخلت دار السلطان من الجيش، وَقَالَ له: أَبُو الهيجاء عبد الله بْن حمدان بحضرة الناس نقاتل بين يديك أيها الأستاذ حتى تنبت لك لحية. فوجه إليه المقتدر بنسيم الشرابي ومعه رقعة بخطه إليه يحلف له فيها على بطلان ما بلغه، ويعرفه أنه قد عمل على المصير إليه في الليلة المقبلة ليحلف له مشافهة على بطلان ما حكي له، فصرف مؤنس إليه جميع من صار إليه من الجيش، وأجاب عن الرقعة بما يصلح، وبأنه لا ذنب له في حضور من حضر داره لأنه لم يدعهم، واقتصر على خواص من رسمه من الغلمان [4] والقواد، وحلف أبو الهيجاء أن لا يبرح من دار مؤنس ليلا ولا نهارا إلى أن يركب معه إلى دار السلطان وتطمئن النفوس إلى سلامته وتقدم المقتدر إلى نصر الحاجب والأستاذين بالمصير إلى مؤنس المظفر لينحدر معهم إلى حضرته لوداعه، فصاروا إليه وانحدر معهم يوم الخميس لاثنتي عشرة ليلة بقيت من ربيع الآخر. ووصل إلى المقتدر، وقبل الأرض بين يديه، وقبل يده ورجله، فخاطبه المقتدر بالجميل وحلف له على ثقته به وعلى صفاء نيته له وودعه مؤنس، وذلك بعد أن قرأ عليه الوزير عَلي بْن عيسى كتاب وصيف البكتمري المتقلد لأعمال المعاقل بجند قنسرين والعواصم، بأن المسلمين عقبوا على الروم فظفروا بعسكرهم وقتلوا منهم وغنموا.
وخرج مؤنس من داره بسوق الثلاثاء يوم الاثنين لثمان بقين من ربيع الآخر إلى مضربه بباب الشماسية، وشيعه الأمير أَبُو العباس بْن المقتدر، والوزير عَلي بْن عيسى، ونصر الحاجب، [وهارون بْن غريب، وشفيع المقتدري، والقواد: فلما بلغ الوزير عَلي بْن عيسى ونصر الحاجب] [1] معه إلى دار مبارك القمي حلف عليهما بأن يرجعا، فعدلا إلى شَاطِئ دجلة وانصرفا في طياريهما، وصار باقي القواد والأستاذان معه إلى مضربه، وَكَانَ سليمان بْن الحسن يسايره، وهارون بْن غريب، ويلبق، وبشرى، ونازوك، وطريف العسكري يسيرون بين يديه كما تسير الحجاب، ورحل مؤنس من مضربه يوم الأحد لليلتين بقيتا من ربيع الآخر.
وفى جمادى الأولى وقع حريق بالرصافة، وصف الجوهري، ومربعة الحرسي، وفى الحطابين بباب الشعير.
وفى يوم الخميس لثلاث عشرة ليلة بقيت من جمادى الأولى أخذ خناق ينزل درب الأقفاص من باب الشام خنق جماعة، ودفنهم في عدة دور سكنها، وَكَانَ يحتال على النساء يكتب لهن كتاب العطف، ويدعي عندهن علم النجوم والعزائم فيقصدنه، فإذا حصلت المرأة عنده سلبها، ووضع وترًا له في عنقها ورفس ظهرها [2] وأعانته امرأته وابنه، فإذا ماتت حفر لها ودفنها، فعلم بذلك، فكبست الدار فاخرج منها بضع عشرة امرأة مقتولة، ثم ظهر عليه عدة آدر كان يسكنها مملوءة بالقتلى من النساء خاصة، فطلب فهرب إلى الأنبار، فأنفذ إليها من طلبه، فوجده فقبض عليه وحمل إلى بغداد، فضرب ألف سوط، وصلب وهو حي، ومات لست بقين من جمادى الأولى.
وفى شعبان دخل إلى بغداد ثلاثة عشر أسيرا من الروم أخذوا من بيت المقدس فيهم قرابة الملك.
وفى هذه السنة كَانَ ظهور الديلم، فكان أول من غلب على الري منهم لنكى بن النعمان، ثم ما كان بْن كاكي، ولقي أهل الجبل بأسرهم من الديلم شدة شديدة، وذلك أنهم أخربوا الجبل وقتلوا من أهله مقتلة عظيمة حتى الأطفال في المهود، ثم غلب على الري أسفار بْن شيرويه، ومضى إلى قزوين، فألزم أهلها مالا وعسفهم عسفا شديدا وأراق دماءهم، وعذبهم فخرج النساء والشيوخ والأطفال إلى المصلى مستغيثين إلى الله عز وجل منه، وَكَانَ له قائد اسمه مرداويج بْن زيار، فوثب هذا القائد عليه، فقتله وملك مكانه وأساء السيرة بأصبهان، وانتهك الحرمات، وجلس على سرير ذهب دونه سرير من فضة يجلس عليه من يرفع منه، وَكَانَ يقول: أنا سليمان بْن داود، وهؤلاء أعواني الشياطين، وَكَانَ يسيء السيرة في أصحابه وخصوصا الأتراك، فأصحر يوما بعسكره، فاشتق العسكر [1] رجل شيخ على دابة، فَقَالَ: قد زاد أمر هذا الكافر واليوم تكفونه قبل تصرم النهار [2] ويأخذه الله إليه، فدهشت الجماعة ولم ينطق أحد بكلمة، ومر الشيخ كالريح، فَقَالَ الناس: لم لا نتبعه ونأخذه ونسأله من أين له علم هذا أو نمضي به إلى مرداويج لئلا يبلغه الخبر فيلومنا، فركضوا في كل طريق، فلم يجدوه، ثم عاد مرداويج فدخل إلى داره ونزع ثيابه، ودخل الحمام فقتله الأتراك وركبوا إلى الاصطبلات لنهب الخيل، ولما قتل حمل تابوته فمشى الديلم بأجمعهم حفاة أربعة فراسخ.
وجاء أَبُو طاهر الهجري رئيس القرامطة، وَكَانَ قد أخذ الحاج في سنة اثنتي عشرة، فلما سمع الناس به اشتد خوفهم، فبعث أَبُو الْقَاسِم يُوسُف بْن أبي الساج إلى محاربته، وتقدم المقتدر أن يحمل إلى يُوسُف [3] سبعون ألف دينار، فسار نحو الكوفة وَكَانَ مع أبي طاهر ألف فارس وخمسمائة راجل، ومع يوسف أكثر من عشرين ألفا ما بين [4] فارس وراجل، وذلك سوى الأتباع، فلما قرب الهجري من الكوفة هرب عمال السلطان منها، فقدم الهجري مقدمته في مائتي راجل، فنزلت النجف، ونزل هو بدير هند بحضرة خندق الكوفة، وقد كَانَ بعث ليوسف مائة كر دقيق وألف كر شعير، فأخذها الهجري فقوي بها وضعف يُوسُف وسبق الهجري إلى الكوفة قبل يُوسُف بيوم، فحال بينه وبينها، وبعث يُوسُف إليه ينذره ويقول له: إن أطعت وإلا فالحرب فأبى أن يطيع، فوقعت الحرب بينهما يوم السبت لتسع خلون من شوال سنة خمس عشرة على باب الكوفة، ولما عاين يُوسُف عسكر أبي طاهر احتقره، وَقَالَ: من هؤلاء الكلاب حتى أفكر فيهم؟
هؤلاء بعد ساعة في يدي، وتقدم أن يكتب كتاب الفتح قبل اللقاء، فلما سمع أصحاب الهجري صوت البوقات [1] والدبادب من عسكر يُوسُف، قَالَ رجل منهم لآخر: هذا فشل، فَقَالَ له: أجل، ولم يكن في عسكر أبي طاهر دبادب ولا بوقات، وثبت يُوسُف فأثخن أصحاب أبي طاهر بالنشاب المسموم، وجرح منهم أكثر من خمسمائة، فلما رأى أَبُو طاهر ذلك وَكَانَ في عمارية له [2] نزل فركب فرسا وحمل في خواصه، وحمل يُوسُف بنفسه مع ثقاته، فأسر يُوسُف وقتل من أصحابه عدد كثير وانهزم الباقون.
وقيل لبعض أصحاب الهجري: كيف تغلبون مع قلتكم؟ فقالوا: نحن نقدر السلامة في الثبوت، وهؤلاء يقدرونها في الهرب، وَكَانَ قد قبض يُوسُف بْن أبي الساج على كاتبه أبي عبد الله [3] مُحَمَّد بْن خلف، وأخذ منه ما قيمته مائة ألف دينار، ثم أخذ خطه بخمسمائة ألف دينار.
وبلغ الخبر إلى بغداد، فندب مؤنس/ للخروج إليه فجاء كتاب: أن الهجري رحل عن الكوفة إلى ناحية الأنبار، وما شك الناس [4] أنه يقصد بغداد ويملكها، فماج أهل بغداد [5] ، فَقَالَ عَلي بْن عيسى للمقتدر باللَّه: إن الخلفاء إنما يجمعون المال ليقمعوا به أعداء الدين، ولم يلحق المسلمين منذ قبض رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعظم من هذا الأمر، لأن هذا الرجل كافر وقد أوقع بالناس [6] سنة اثنتي عشرة، وجرى عليهم منه ما لم يعهد مثله، وقد تمكنت هيبته في قلوب الناس ولم يبق في بيت مال الخاصة كثير شيء [1] ، فاتق الله يا أمير المؤمنين، وخاطب السيدة فان كَانَ عندها مال قد دخرته لشدة [2] فهذا وقت إخراجه، فدخل إلى والدته وعاد فأخبر أن السيدة ابتدأته بالبذل، وأمرت بإخراج خمسمائة ألف دينار لتنفق، وَكَانَ قد بقي في بيت مال الخاصة خمسمائة ألف، فقال المقتدر باللَّه: أخرج منها ثلاثمائة ألف. فأخرج ذلك ودبر تفرقته، وبعث عسكرا في أربعين ألفا، وقطعوا قنطرة عند عقرقوف، فوصل إليها القرمطي، فوجدها مقطوعة، وسبر المخاضة فلم يجد عبرا ولو وجد لم يثنه عن بغداد، فعاد إلى الأنبار.
وبلغ عَلي بن عيسى أن رجلا يعرف بالشيرازي مقيما ببغداد يكاتب القرمطي، فقبض عليه واستنطقه، فَقَالَ: ما صحبته إلا لأنه على الحق وأنتم مبطلون كفار. فَقَالَ:
اصدقني عن الذين يكاتبونه. فَقَالَ: ولم أصدقك عن قوم مؤمنين حتى تسلمهم إلى أصحابك الكافرين فيقتلونهم لا أفعل هذا أبدا. فصفع، وضرب بالمقارع، وقيد، وغل وجعل في فمه سلسلة، وحبس فلم يأكل ولم يشرب ثلاثا فمات.
ووجه يلبق إلى محاربة القرمطي فلم يثبت يلبق وانهزم، وَكَانَ يُوسُف بْن أبي الساج أسيرا مع القرمطي، فأخرج رأسه من خيمة يتطلع لينظر إلى الوقعة، فَقَالَ له القرمطي: أردت الهرب وظننت أن غلمانك يخلصونك [3] ، فضرب عنقه.
ولما انصرف القرمطي عن الأنبار تصدق المقتدر والسيدة وعلي بْن عيسى بخمسين ألف درهم. [ولما صلى الناس بمدينة السلام وسلموا تصدقوا بعشرة آلاف درهم] [4] ولما انصرف عن هيت تصدق المقتدر باللَّه من بيت مال الخاصة بمائة ألف درهم.
وفى هذه السنة بلغت زيادة دجلة اثني عشر ذراعا وثلاثين، ولم يحج في هذه السنة أحد من العراق وخراسان لخوف الهجري [5] .





مصادر و المراجع :

١- المنتظم في تاريخ الأمم والملوك

المؤلف: جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي (المتوفى: 597هـ)

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید