المنشورات

الحسين بْن عبد الله بْن الجصاص الجوهري، أَبُو عبد الله

كَانَ ذا ثروة عظيمة، وكانت بداية أمره أن ابن طولون قَالَ له: ما صناعتك. قَالَ:
الجوهر، قَالَ: لا يبتاع لنا شيء [2] إلا على يده فكسب الأموال.
أنبأنا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي طَاهِرٍ الْبَزَّازُ، عَنْ أَبِي القاسم عَلِي بْن المحسن التنوخي، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: حدثني أَبُو عَلي أَحْمَد بْن الحسين بْن عبد الله الجصاص، قَالَ: قَالَ لي أبي: كَانَ [3] بدء إكثاري أنني كنت في دهليز حرم أبي الجيش خمارويه بن أحمد بن طولون، وكنت أتوكل له ولهم في ابتياع الجوهر. وغيره مما يحتاجون إليه، وما كنت أكاد أفارق الدهليز لاختصاصي بهم، فخرجت إلى قهرمانة لهم في بعض الأيام ومعها عقد جوهر فيه مائة حبة لم أر قبله أحسن منه، تساوي كل حبة ألف دينار، فقالت:
يحتاج أن تخرط هذه حتى تصغر فتجعله لكعب، وكدت أطير فرحا [4] ، فأخذتها وقلت:
السمع والطاعة. وخرجت في الحال، فجمعت التجار ولم أزل أشتري ما قدرت عليه إلى أن حصلت مائة حبة أشكالا في النوع الذي أرادوه، فجئت بها عشية، فقلت: إن خرط هذا يحتاج إلى زمان، وقد خرطنا اليوم ما قدرنا عليه. وهو هذا فدفعت إليهم المجتمع، وقلت: الباقي نخرطه في أيام، فقنعوا بذلك، وما زلت أياما في طلب الحب حتى اجتمع، فحملت إليهم مائتي حبة قامت عَلي بأثمان قريبة تكون مائة ألف درهم أو حواليها، وحصلت جوهرا بمائتي ألف دينار أو حواليها. ثم لزمت دهليزهم وأخذت لنفسي غرفة كانت فيه، فجعلتها مسكني، فلحقني من هذا أكثر مما لحقني حتى كثرت النعمة، وانتهيت إلى ما استفاض خبره، ولما نكبني المقتدر وأخذ مني تلك الأموال العظيمة أصبحت يوما في الحبس آيس ما كنت فيه من الفرج، فجاءني خادم، فَقَالَ:
البشرى، قلت: وما الخبر؟ قَالَ: قم فقد أطلقت، فقمت معه فاجتاز بي في بعض دور الخليفة يريد إخراجي إلى دار السيدة، لتكون هي التي تطلقني، لأنها هي شفعت في، فوقعت عيني على أعدال خيش لي أعرفها، فكان مبلغها مائة عدل، فقلت: أليس هذا من الخيش [1] الذي حمل من داري، قَالَ: بلى؟ فتأملته فإذا هو مائة عدل [2] ، وكانت هذه الأعدال قد حملت إلي من مصر في كل عدل منها ألف دينار، وَكَانَ لي هناك حافظ عليه [3] ، فجعلوه في أعدال الخيش فوصلت سالمة ولاستغنائي عن المال لم أخرجه عن الأعدال وتركته في بيت من داري، وقفلت عليه، ونقل كل مال في داري فكان آخر ما نقل الخيش منها، ولم يعرف أحد ما فيه، فلما رأيته بشدة طمعت في خلاصه، فلما كَانَ بعد أيام من خروجي راسلت السيدة وشكوت حالي إليها وسألتها أن تدفع إلي ذلك الخيش لأنتفع بثمنه إذ كَانَ لا قدر له عندهم ولا حاجة لهم إليه، فوعدتني بخطاب المقتدر في ذلك، فلما كَانَ بعد أيام أذكرتها [4] ، فقالت: قد أمر بتسليمه إليك، فسلم إلي بأسره، ففتحته فأخذت منه المائة ألف دينار ما ضاع منه شيء، وبعت من الخيش ما أردت بعد أن أخذت منه قدر الحاجة.
قَالَ المحسن، وحدثني أَبُو العباس هبة الله بن المنجم أن جده حدثه: أنه لما قبض المقتدر على ابن الجصاص أنفذ إلى داره من يحصي ما فيها ويحمله، فَقَالَ لي:
الذي كتب الإحصاء إنا وجدنا له في قماشه سبعمائة مزملة جباب [5] ، فما ظنك بما يكون هذا في جملته.
قَالَ المحسن: وحدثني أَبُو الحسين بْن عياش أنه سمع جماعة من ثقات الكتاب،يقولون: إنهم حصلوا ما ارتفعت به مصادرة أبي عبد الله بْن الجصاص في أيام المقتدر، فكانت ستة آلاف ألف دينار سوى ما قبض من داره، وبعد الذي بقي له من ظاهره.
قَالَ المحسن: وسمعت أبا مُحَمَّد جعفر بْن ورقاء الشيباني، يحدث في سنة تسع [1] وأربعين وثلاثمائة، قَالَ: اجتزت بابن الجصاص بعد إطلاقه إلى داره من المصادرة بأيام، وكانت بيننا مودة ومصاهرة، فرأيته على روشن داره على دجلة في وقت حار وهو حاف حاسر يعدو من أول الروشن إلى آخره كالمجنون، فطرحت طياري إليه وصعدت بغير إذن، فلما رآني استحيا وعدا إلى مجلس له، فقلت له: ويحك ما الذي أصابك؟ فدعا بطست فغسل وجهه ورجليه ووقع ساعة كالمغشي عليه، ثم قَالَ: أو لا يحق لي أن يذهب عقلي وتدحرج عن يدي كذا وكذا، وأخذ مني كذا وكذا، وجعل يعده أمرا عظيما، فقلت له: يا هذا نهايات الأموال/ غير مدركة، وإنما يجب أن تعلم أن النفوس لا عوض لها، والعقول والأديان، فما سلم لك ذلك فالفضل معك، وإنما يقلق هذا القلق من يخاف الفقر والحاجة إلى الناس أو يفقد العادة من مأكول ومشروب وملبوس أو النقصان في جاه، فاصبر حتى أوافقك على أنه ليس ببغداد اليوم [2] بعد ما خرج عنك أيسر منك من أصحاب الطيالس، فَقَالَ: هات، فقلت: أليس دارك [هذه التي كانت قبل مصادرتك ولك فيها من الفرش والأثاث ما فيه جمال لك؟] [3] قَالَ: بلى، فقلت: وقد بقي من عقارك بالكرخ ما قيمته خمسون ألف دينار؟ فَقَالَ: نعم، قلت:
ودار الحرز [4] وقيمتها عشرة آلاف دينار؟ قَالَ: نعم، قلت: وعقارك بباب الطاق قيمته ثلاثون ألف دينار؟ قَالَ: نعم. قلت: وبستانك الفلاني ومصنعتك [5] الفلانية وقيمتها كذا؟
قَالَ: نعم، قلت: ومالك بالبصرة قيمته مائة ألف دينار؟ قَالَ: نعم، فجعلت أعدد عليه حتى بلغت قيمته ذلك سبعمائة ألف دينار، فقلت: واصدقني عما سلم لك من الجوهر والأثاث والقماش والجواري والعبيد والدواب وعن قيمة ذلك، فبلغت قيمة ما ذكر ثلاثمائة ألف دينار، فقلت: يا هذا من ببغداد اليوم يحتوي ملكه على ألف ألف دينار وجاهك عند الناس الجاه الأول وهم يظنون أنه قد بقي لك ضعف هذا، فلم تغتم؟
قَالَ: فسجد وحمد الله وبكى، ثم قَالَ: والله لقد غلبت عَلي الفكر [1] حتى نسيت جميع هذا أنه لي وقل في عيني إلا ضالته إلى ما أخذ مني، ولو لم تجئني الساعة لزاد الفكر عَلي حتى يبطل عقلي، فإن الله تعالى أنفذ بك [2] ، وما عزاني أحد أنفع من تعزيتك، وما أكلت منذ ثلاث شيئا فأحب أن تقيم عندي لنأكل ونتحدث، فأقمت عنده يومي.
قَالَ المصنف [3] : وقد ذكر فيما أخذ من ابن الجصاص خمس مائة سفط من مرتفع ثياب مصر، ووجد له في بستانه أموال كثيرة مدفونة في جرار خضر وقماقم مرصصة الرأس، وقد كَانَ ابن الجصاص ينسب إلى التغفيل، فله كلمات عجيبة قد ذكرتها في «كتاب المغفلين» إلا أنهم قالوا: كَانَ يتطابع بها ويقصد أن يظنوا فيه سلامة الصدر، وقد ذكرت طرفا مما يدل على ذكائه وفطنته في ذلك الكتاب.





مصادر و المراجع :

١- المنتظم في تاريخ الأمم والملوك

المؤلف: جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي (المتوفى: 597هـ)

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید