المنشورات

الراضي باللَّه و طرف من سيرته

كَانَ الراضي سمحا واسع النفس، أديبا شاعرا حسن البيان والفصاحة، يحب محادثة العلماء. سمع من البغوي قبل الخلافة كثيرا ووصله بمال كثير غزير، ورفع إليه أن عبد الرحمن بْن عيسى قد احتاز أموالا عظيمة، وتقرر [7] عليه مائة ألف دينار، فحلف أن لا يقنع إلا بأدائها، فكتب الوزير أَبُو جعفر الكرخي تقسيطا بدأ فيه بنفسه، ودخل عليه جعفر بْن ورقاء فسلم إليه الدرج، وخاطبه ليكتب شيئا، فَقَالَ: أنا أدبر الأمر، وكتب ضمن جعفر بْن ورقاء لوكيل أمير المؤمنين مائة ألف دينار عن عبد الرحمن بْن عيسى، ونفذ بها، فلما رأى الراضي الرقعة اغتاظ وخرقها، وَقَالَ: قل له يا أعرابي جلف أردت أن تري الناس أنك واسع النفس وقد عزمت عمن لا حرمته بينك وبينه هذا المال، وضاقت نفسي أنا عن تركه وهو خادمي فتظهر أنك أكرم مني، لا كَانَ هذا، فَقَالَ ابن ورقاء: والله ما اعتمدت أن يقع في نفسه إلا هذا فيفعل ما فعله، ولو جرى الأمر بخلافه لأديت ما أملك، واستمحت الناس.
أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ الْقَزَّازُ، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الخطيب، قَالَ: كَانَ للراضي فضائل كثيرة وختم الخلفاء في أمور عدة منها: أنه آخر خليفة له شعر مدون، وآخر خليفة انفرد بتدبير الجيوش والأموال، وآخر خليفة خطب على المنبر يوم الجمعة، وآخر خليفة جالس الجلساء ووصل إليه الندماء، وآخر خليفة كانت نفقته وجوائزه وعطاياه وجراياته وخزانته ومطابخه ومجالسه وخدمه وحجابه وأموره كلها تجري على ترتيب المتقدمين من الخلفاء، وقد روي لنا في حديث أنه وقع حريق بالكرخ [1] ، فأطلق للهاشميين عشرة آلاف دينار وللعامة أربعين ألفا حتى عمروا ما احترق، وولع بهدم القصور من دار الخلافة وتصييرها بساتين.
وله أشعار حسان منها:
لا تعذلي كرمي على الإسراف ... ربح المحامد متجر الإشراف
أجرى كآبائي الخلائف سابقا ... وأشيد ما قد أسست أسلافي
إني من القوم الذين أكفهم ... معتادة الأخلاف والإتلاف
حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ علي بن ثابت، أَخْبَرَنَا عَلِي بْن الْمُحْسِنِ التَّنُوخِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: سمعت أبا بكر مُحَمَّد بْن يحيى الصولي يحكي: أنه دخل على الراضي وهو يبني شيئا أو يهدم شيئا فأنشده أبياتا، وَكَانَ الراضي جالسا على آجرة حيال الصناع، قَالَ: وكنت أنا وجماعة من الجلساء، فأمرنا بالجلوس بحضرته، فأخذ كل واحد منا آجرة فجلس عليها، واتفق أني أخذت آجرتين ملتصقتين بشيء من اسفيذاج، فجلست عليهما، فلما قمنا أمر أن توزن آجرة كل واحد منا ويدفع إليه وزنها دراهم أو دنانير. قَالَ أبي: الشك مني، قَالَ: فتضاعفت جائزتي على جوائز الحاضرين بتضاعف وزن آجرتي على وزن آجرهم.
ومن أشعاره:
يصفر وجهي إذا تأمله ... طرفي ويحمر وجهه خجلا
حتى كَانَ الذي بوجنته ... من دم جسمي إليه قد نقلا
قَالَ أَبُو بكر الصولي: قد كنت قلت: أبياتا وهي:
يا مليح الدلال رفقا بقلب ... يشتكي منك جفوة وملالا
نطق السقم بالذي كَانَ يخفي ... فسل الجسم إن أردت سؤالا
قد أتاه في النوم منك خيال ... فرآه كما اشتهيت خيالا
يتحاماه للضنا ألسن العذل ... فأضحى لا يعرف العذالا
فأنشدت هذه الأبيات للراضي باللَّه، فجذب الدواة وعمل من وقته:
عقلي لا يقبل المحالا ... وأنت لا تبذل الوصالا
ضللت في حبكم فحسبي ... حتى متى أتبع الضلالا
قد زارني منكم خيال ... فزدت إذ زارني خبالا
رأى خيالا على فراش ... وما أراه رأى خيالا
قَالَ الصولي: فعجبت والله من سرعة فطنته.
وفى هذه السنة: عظم أمر مرداويج بأصبهان، وحدث الناس أنه يريد تشعيث الدولة، وقصد بغداد، وأنه مسالم لصاحب البحرين يجتمعان على ذلك، وَكَانَ يقول:
أنا أرد دولة العجم وأبطل ملك العرب، ثم أساء السيرة في أصحابه خصوصا في الأتراك، فتواطئوا على إهلاكه، ثم ورد الخبر بأن غلمانه قتلوه، وأن رئيس الغلمان غلام يعرف ببجكم زعم ابن ياقوت أنه هو الذي دبر ذلك، وكاتب فيه الغلمان.
وفى هذه السنة: ارتفع أمر أبي الحسن عَلي بْن بويه الديلمي، ولبويه قصة عجيبة وهي بداية أمورهم، فلنذكرها:
أنبأنا مُحَمَّد بْن عبد الباقي البزاز، أَنْبَأَنَا عَلِي بْن المحسن التنوخي، عَنْ أَبِيهِ، حَدَّثَنَا عَلي بْن حسان الأنباري الكاتب، قَالَ: لما أنفذني معز الدولة من بغداد إلى ديلمان لأبني له دورا في بلدة منها، قَالَ لي: سل عن رجل من الديلم يقال له: أَبُو الحسين بْن شيركوه [1] ، فأكرمه واعرف حقه وأقرئه سلامي، وقل له سمعت وأنا صبي بحديث منام كَانَ أبي رآه وفسره هو وانت على مفسر بديلمان، ولم أقم عليه للصبي، فحدثني به واحفظه لتعيده عَلي.
فلما جئت إلى ديلمان جاءني رجل مسلما، فعلمت بأنه كَانَ بينه وبين بويه والد الأمير صداقة فأكرمته وعظمته وأبلغته رسالة معز الدولة، فَقَالَ لي: كانت بيني وبين بويه مودة وكيدة، وهذه داره ودارى متحاذيتان كما ترى، وأومأ إليهما، فَقَالَ لي. ذات يوم:
إنى قد رأيت رؤيا هالتني فاطلب لي إنسانا يفسرها لي، فقلت: نحن هاهنا في مفازة فمن أين لنا من يفسر، ولكن اصبر حتى يجتاز بنا منجم أو عالم فنسأله، ومضى على هذا الأمر شهور فخرجت أنا وهو في بعض الأيام إلى شَاطِئ البحر نصطاد سمكا، فجلسنا فاصطدنا شيئا [2] كثيرا، فحملناه على ظهورنا أنا وهو، وجئنا فقال لي: ليس في داري من يعمله فخذ الجميع إليك ليعمل عندك، فأخذته وقلت له: فتعال إلي لنجتمع عليه، ففعل فقعدنا أنا وهو وعيالي ننظفه ونطبخ بعضه ونشوى الباقي، واذا رجل مجتاز يصيح منجم مفسر للرؤيا، فقال لي: يا أبا الحسين تذكر ما قلته لك بسبب المنام رأيته فقلت:
بلى، فقمت وجئت بالرجل، فَقَالَ له بويه: رأيت ليلة في منامي كأني جالس أبول، فخرج من ذكري نار عظيمة كالعمود، ثم تشعبت يمنة ويسرة وأماما وخلفا حتى ملأت الدنيا، وانتبهت، فما تفسير هذا؟ فَقَالَ له: الرجل: لا أفسرها لك بأقل من ألف درهم قال: فسخرنا [1] منه، وقلنا له: ويحك نحن فقراء نخرج نصيد سمكا لنأكله والله ما رأينا هذا قط ولا عشره، ولكنا نعطيك سمكة من أكبر هذا السمك، فرضي بذلك، وَقَالَ له:
يكون لك أولاد يفترقون في الدنيا فيملكونها ويعظم سلطانهم فيها على قدر ما احتوت النار التي رأيتها في المنام عليه من الدنيا قَالَ: فصفعنا الرجل، وقلنا: سخرت منا وأخذت السمكة حراما، وَقَالَ له: بويه ويلك أنا صياد فقير كما ترى وأولادي هم هؤلاء وأومأ إلى عَلي بْن بويه، وَكَانَ أول ما اختط عارضه، والحسن وهو دونه، وأحمد وهو فوق الطفل قليلا.
ومضت السنون وأنسيت المنام حتى خرج بويه إلى خراسان، وخرج عَلي بْن بويه، فبلغنا حديثه وأنه قد ملك أرجان، ثم ملك فارس كلها، فما شعرنا إلا بصلاته قد جاءت إلى أهله وشيوخ بلد [2] الديلم، وجاءني رسوله يطلبني، فطلبني فخرجت ومشيت إليه [3] ، فهالني ملكه وأنسيت المنام/ وعاملني من الجميل والصلات بأمر عظيم، وَقَالَ لي وقد خلونا: يا أبا الحسين تذكر منام أبي الذي ذكرتموه للمفسر وصفعتموه لما فسره لكم، فاستدعى عشرة آلاف دينار فدفعها إلي وَقَالَ: هذا من ثمن تلك السمكة خذه، فقبلت الأرض، فَقَالَ لي: تقبل تدبيري؟ فقلت: نعم، قَالَ: انفذها إلى بلد الديلم، واشتر بها ضياعا هناك ودعني أدبر أمرك بعدها، ففعلت وأقمت عنده مدة ثم استأذنته في الرجوع، فَقَالَ: أقم عندي فإنّي أقودك وأعطيك إقطاعا بخمسمائة ألف درهم في السنة، فقلت له: بلدي أحب إلي، فأحضر عشرة آلاف دينار أخرى فأعطاني إياها، وَقَالَ: لا يعلم أحد فإذا حصلت ببلد الديلم فادفن منها خمسة آلاف استظهارا على الزمان، وجهز بناتك بخمسة آلاف، ثم أعطاني عشرة دنانير، وَقَالَ: احتفظ بهذه ولا تخرجها من يدك، فأخذتها فإذا في كل واحد مائة [4] دينار وعشرة دنانير فودعته وانصرفت.
قَالَ أَبُو الْقَاسِم: فحفظت القصة فلما عدت إلى معز الدولة حدثته بالحديث فسر به وتعجب، وَكَانَ بويه يكنى أبا شجاع، وينسب إلى سابور ذي الأكتاف، وأولاد بويه ثلاثة أكبرهم أَبُو الحسن عَلي ولقبه عماد الدولة، وأبو عَلي الحسن ولقبه ركن الدولة، وأبو الحسين أَحْمَد ولقبه معز الدولة، لقبهم بهذه الألقاب المستكفي باللَّه، وكانوا فقراء ببلد الديلم.
ويحكي معز الدولة أنه كَانَ يحتطب على رأسه ثم خدموا مرداويج، وَكَانَ أَبُو الحسن عَلي بْن بويه الديلمي أحد قواد مرداويج [1] بْن زيار الديلمي، وقد ذكرنا حال مرداويج في سنة خمس عشرة وثلاثمائة، وَكَانَ قد أنفذ عليا إلى الكرج يستحث له على حمل مال، فلما حصل بها استوحش من مرداويج وأخذ المال المستخرج لنفسه، وهو خمسمائة ألف درهم، وصار إلى همدان فأغلقت أبوابها دونه، ففتحها عنوة وقتل من أهلها خلقا كثيرا ثم صار [منها] [2] إلى أصبهان فدخلها وملكها، فأنفذ إليه مرداويج جيشا فخرج منها إلى أرجان [فاستخرج منها [نحوا من] [3] مائتي ألف دينار، وصار إلى كازرون وبلد سابور] [4] فاستخرج نحو خمسمائة ألف دينار مع كنوز كثيرة وجدها، فزاد عدده [5] وقويت شوكته، وملك شيراز، وطلب منه أصحابه المال ولم يكن معه ما يرضيهم، فأشرف على انحلال أمره فاغتم، واستلقى على ظهره مفكرا، فإذا حية قد خرجت من سقف ذلك المجلس فدخلت موضعا آخر، فدعا الفراشين ليبحثوا عنها، فوجدوا ذلك السقف يفضي إلى غرفة بين سقفين، فأمر بفتحها ففتحت، فإذا فيها صناديق من المال والصياغات ما قيمته خمسون ألف دينار، فأخذ المال وفرقه عليهم، فثبت أمره وَكَانَ قد وصف [له خياط [6] يخيط] لبعض من كَانَ يحاربه فأحضره، وَكَانَ بالخياط طرش، فظن أنه قد سعى به إليه، فلما خاطبه في خياطة الثياب، وكان جوابه:
والله ما لفلان عندي إلا اثنا عشر صندوقا، فما أدري ما فيها؟ فتعجب عَلي بْن بويه من الجواب ووجه من حملها، فوجد فيها مالا عظيما، وَكَانَ قد ركب يوما وطاف في خرابات البلد يتأمل أبنية الأوائل وآثارهم، فتهور تحت قوائم فرسه فاستراب بذلك الموضع [1] ، وأمر بالكشف عنه، فإذا مال عظيم.
ولما تمكن عَلي بْن بويه من البلد أراد أن يقاطع السلطان عنه ويتقلده من قبله، فراسل الراضي بذلك، فأجابه فضمنه بثمانية آلاف درهم [2] خالصة للحمل بعد النفقات والمؤن، فأنفذ إليه ابن مقلة خلعة ولواء [3] ، وأمر أن لا يسلم إليه حتى يعطي المال [فتلقى الرسول فطالبه [4] بالمال] فخاشنه وأرهبه، فأعطاه الخلع وبقي عنده مدة وهو يماطله بالمال حتى توفي الرسول.
وهو أول الملوك الذين افتتحت بهم الدولة الديلمية، وَكَانَ عاقلا سخيا شجاعا، وتوفي على بشيراز في سنة ثمان وثلاثين وثلاثمائة.
وظهر ببغداد رجل يعرف بأبي جعفر مُحَمَّد بْن عَلي الشلمغاني، ويعرف بابن أبي العزاقير، وَكَانَ قد ظهر وحامد بْن العباس في الوزارة، وذكر عنه أنه يقول بتناسخ اللاهوت، وأن اللاهوت قد حل فيه فاستتر، ثم ظهر في زمان الراضي، وقيل: إنه يدعي أنه إله فاستحضر بحضرة الراضي فأنكر ما ادعي عليه، وَقَالَ: أنا أباهل من يدعي عَلي هذه المقالة، فإن لم تنزل العقوبة على من باهلني بعد ثلاثة أيام وأقصاه بسبعة أيام فدمي لكم حلال؟ فأنكر هذا القول عليه، وقيل: يدعي علم الغيب، وأفتى قوم بأن دمه حلال إلا أن يتوب من هذه المقالة، فضرب ثمانين سوطا ثم قتل وصلب.




مصادر و المراجع :

١- المنتظم في تاريخ الأمم والملوك

المؤلف: جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي (المتوفى: 597هـ)

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید