المنشورات

مُحَمَّد بْن عَلي بْن الحسين بْن عبد الله، أَبُو على المعروف بابن مقلة:

ولد في شوال ببغداد في سنة اثنتين وسبعين ومائتين، فأول تصرف تصرفه مع أبي عبد الله مُحَمَّد بْن داود بْن الجراح وسنه يومئذ ست عشرة سنة، وذلك في سنة ثمان وثمانين، فأقام معه ثمانية أشهر، ثم انتقل إلى أبي الحسن ابن الفرات قبل تقلده الوزارة، وأجرى له مثل ذلك، وَكَانَ يسترفق في أيامه بقضاء الحوائج، ثم زاده في الجراية وولى ابن الفرات الوزارة، ثم عزل وأعيد، فقلد غير ابن مقلة المكاتبات، فسعى به ابن مقلة حتى صرف ثم عاد إلى الوزارة فقبض على ابن مقلة وصادره على مائة ألف دينار، ثم آل الأمر إلى أن وزر لثلاثة خلفاء.
وزر ابن مقلة للمقتدر في سنة ست عشرة وثلاثمائة، وقبض عليه في آخر سنة سبع عشرة، ووزر للقاهر سنة عشرين واستتر عنه خوفا منه سنة إحدى وعشرين فلم يظهر حتى بويع للراضي باللَّه، وَقَالَ: كنت مستترا في دار أبي الفضل بْن مارى النصراني بدرب القراطيس، فسعى بي إلى القاهر وعرف موضعي فبينا أنا جالس [1] وقد مضى نصف الليل أخبرتنا زوجة ابن مارى أن الشارع قد امتلأ بالمشاعل والخيل، فطار عقلي ودخلت بيتا فيه تبن فدخلوه ونبشوه بأيديهم [2] ، فلم أشك إني مأخوذ فعاهدت الله تعالى أنه إن نجاني أن انزع عن ذنوب كثيرة [3] ، وإن تقلدت الوزارة أمنت المستترين وأطلقت ضياع المنكوبين ووقفت وقوفا على الطالبيين، فما استتممت نذري حتى خرج الطلب وكفاني الله أمرهم.
وَكَانَ ابن مقلة قد نفى أبا العباس أَحْمَد بْن عُبَيْد اللَّهِ الخصيبي، وسليمان بن الحسن، وكلاهما وزراء للمقتدر، وتقدم بإنفاذهما في البحر فخب بهما البحر ويئسا من الحياة، فَقَالَ الخصيبي: اللَّهمّ إنى أستغفرك من كل ذنب وخطيئة، وأتوب إليك من معاودة معاصيك إلا من مكروه أبي على ابن مقلة [4] فإنني إن قدرت عليه جازيته عن ليلتي هذه وما حل بي منه فيها، وتناهيت في الإساءة إليه، فَقَالَ سليمان: ويحك في هذا الموضع وأنت معاين للهلاك تقول هذا؟ فَقَالَ: لا أخادع [ربي] [5] وأعيد من عمان، فلما عزل ابن مقلة في خلافة الراضي ضمنه الخصيبي بألفي ألف دينار، وحلت به المكاره من قبله، وَكَانَ ابن مقلة [1] لما شرع في بناء داره بالزاهر جمع المنجمين حتى اختاروا له وقتا لبنائه، ووضع أساسه بين المغرب والعشاء، فكتب إليه بعضهم:
قل لابن مقلة مهلا لا تكن عجلا ... واصبر فإنك في أضغاث أحلام
تبنى بأنقاض دور الناس مجتهدا ... دارا ستنقض أيضا بعد أيام
ما زلت تختار سعد المشترى لها ... فلم توق به من نحس بهرام
إن القرآن وبطليموس ما اجتمعا ... في حال نقض ولا في حال إبرام
وَكَانَ له بستان عدة أجربه شجر بلا نخل عمل له شبكة إبريسم، وَكَانَ يفرخ فيه الطيور التي لا تفرخ إلا في الشجر، كالقماري، والدباسي، والهزار، والببغ [2] ، والبلابل، والطواويس، والقبج، وَكَانَ فيه من الغزلان والبقر البدوية، والنعام، والإبل وحمير الوحش [3] ، [وبشر] [4] بأن طائرا [بحريا وقع على طائر بري فازدوجا وباضا وأفقصا، فأعطى من بشره بذلك مائة دينار ببشارته] [5] وَكَانَ بين جحظة [الشاعر] [6] وبين ابن مقلة صداقة قبل الوزارة، فلما استوزر استأذن عليه جحظة فلم يؤذن له فَقَالَ:
قل للوزير أدام الله دولته ... أذكر منادمتي والخبز خشكار
إذ ليس بالباب برذون لنوبتكم ... ولا حمار ولا في الشط طيار
وَكَانَ ابن مقلة [يوما] [7] على المائدة، فلما غسل يده رأى على ثوبه نقطة صفراء من الحلوى، فأخذ القلم وسودها وَقَالَ: تلك عيب [8] ، وهذا اثر صناعة [9] ، وأنشد: 
إنما الزعفران عطر العذارى ... ومداد الدواة عطر الرجال
وجرى على ابن مقلة في اعتقاله المكاره، وأخذ خطه بألف ألف دينار، وأطلق بعد ذلك/ فكتب إلى الراضي أنه إن أعاده [1] إلى الوزارة استخرج له ثلاثة آلاف ألف دينار، وقد ذكرنا إنه ضمن بعض الأمراء بمال فاستفتى الفقهاء في حقه، فَقَالَ بعضهم:
هذا قد سعى في الأرض بالفساد فتقطع يده، فقطعت وَكَانَ ينوح على يده [2] ، ويقول:
يد خدمت بها الخلفاء ثلاث دفعات، وكتبت بها القرآن دفعتين تقطع كما تقطع أيدي اللصوص، ثم قَالَ: إن المحنة قد نشبت بي وهي تؤديني إلى التلف، وأنشد:
إذ ما مات بعضك فابك بعضا ... فإن البعض من بعض قريب
ومن شعر [ابن مقلة] [3] حين قطعت يده، قوله:
ما سئمت الحياة لكن توثقت ... بأيمانهم فبانت يميني
بعت ديني لهم بدنياي حتى ... حرموني دنياهم بعد ديني
فلقد حطت ما استطعت بجهدي ... حفظ أرواحهم فما حفظوني
ليس بعد اليمين لذة عيش ... يا حياتي بانت يميني فبيني
وقال أيضا: [4]
إذا أتى الموت لميقاته ... فعد عن قول الأطباء
وإن مضى من أنت صب به ... فالصبر من فعل الألباء
ما مر شَيْء من بنى آدم ... أمر من فقد الأحباء
ثم قطع لسانه بعد ذلك، وطال حبسه، فلحقه ذرب، وَكَانَ يستسقي الماء بيده اليسرى وفمه إلى أن مات في شوال سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة، ودفن في دار السلطان،ثم سأل أهله تسليمه إليهم فنبش وسلم إليهم. فدفنه ابنه أَبُو الحسين في داره، ثم نبشته زوجته المعروفة بالدينارية ودفنته في دارها.
ومن العجائب أنه تقلد الوزارة ثلاث دفعات، وسافر في عمره [1] ثلاث مرات واحدة إلى الموصل، واثنتين [في النفي] [2] إلى شيراز، ودفن بعد موته ثلاث مرات في ثلاث مواضع.






مصادر و المراجع :

١- المنتظم في تاريخ الأمم والملوك

المؤلف: جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي (المتوفى: 597هـ)

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید