المنشورات

مُحَمَّد بْن الْقَاسِم بْن مُحَمَّد بْن بشار بْن بيان [3] بْن سماعة بْن فروة بن قطن ابن دعامة، أبو بكر [ابن] الأنباري:

ولد يوم الأحد لإحدى عشرة ليلة خلت من رجب سنة إحدى وسبعين ومائتين وسمع إسماعيل بْن إسحاق القاضي، والكديمي، وثعلبا، وغيرهم. وَكَانَ صدوقا فاضلا دينا من أهل السنة، وَكَانَ من أعلم الناس بالنحو والأدب، وأكثرهم حفظا له، وصنف كتبا كثيرة في علوم القرآن، وغريب الحديث، وغير ذلك وذكر عنه أنه كان يحفظ ثلاثمائة ألف بيت من الشواهد في القرآن، وكتب عنه وأبوه حي.
أنبأنا مُحَمَّد بْن عبد الباقي، أنبأنا عَلي [5] بْن أبي على البصري. عن أبيه، قَالَ:
أخبرني غير واحد ممن شاهد أبا بكر ابن الأنباري [أنه كَانَ] [6] يملي من حفظه لا من كتاب، وأن عادته في كل ما كتب عنه من العلم كانت [هكذا] [1] ما أملى قط من دفتر.
أَخْبَرَنَا عبد الرحمن بْن مُحَمَّد، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَد بْن عَلي الحافظ، قال:
سمعت حمزة بن محمد بن طاهر الدقاق، يقول: حدثني أبي، عن جدى [أن] [2] أبا بكر ابن الأنباري مرض فدخل عليه أصحابه يعودونه فرأوا من انزعاج أبيه وقلقه [عليه] [3] أمرا عظيما فطيبوا نفسه ورجوه العافية، فَقَالَ لهم: كيف لا أقلق وأنزعج [لعلة] [4] من يحفظ جميع ما ترون، وأشار لهم إلى حيرى مملوء كتبا [5] .
قَالَ حمزة: وَكَانَ مع حفظه زاهدا متواضعا، حكى أَبُو الحسن الدارقطني أنه حضره في مجلس إملاء يوم جمعة فصحف اسما أورده في إسناد حديث أما كَانَ حيان، فَقَالَ: حبان أو كَانَ حبان فَقَالَ حيان: قَالَ أَبُو الحسن: فأعظمت أن يحمل عن مثله في فضله وجلالته وهم وهبته أن أقفه على ذلك، فلما انقضى الإملاء تقدمت إلى المستملي وذكرت له وهمه وعرفته صواب القول فيه وانصرفت، ثم حضرت الجمعة الثانية مجلسه، فَقَالَ أَبُو بكر للمستملي: عرف الحاضرين إنا صحفنا الاسم الفلاني لما أملينا حديث كذا في الجمعة الماضية، ونبهنا ذلك الشاب [6] على الصواب، وعرف ذلك الشاب إنا رجعنا إلى الأصل فوجدناه كما قَالَ.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بن علي بْنِ ثَابِتٍ، أَخْبَرَنَا أَبُو العلاء الواسطي، قَالَ: قَالَ مُحَمَّد بْن جعفر التميمي: ما رأينا أحفظ من أبي بكر الأنباري، ولا أغزر بحرا منه.
وحدثني عنه أَبُو الحسن العروضي، قَالَ: اجتمعت أنا وهو عند الراضي على الطعام، وَكَانَ قد عرف الطباخ ما يأكل أَبُو بكر، فكان يشوي له قلية يابسة، قال: فأكلنا نحن من أطائب الطعام وألوانه، وهو يعالج تلك القلية، ثم فرغنا وأتينا بحلوى، فلم يأكل منها [شيئا] [1] ، وقام وقمنا إلى الخيش فنام بين الخيشين ونمنا نحن في خيش ينافس فيه، ولم يشرب ماء إلى العصر، فلما كَانَ مع العصر [2] قَالَ لغلام: الوظيفة، فجاءه بماء من الحب وترك الماء المزمل بالثلج، فغاظني أمره [3] فصحت صيحة، فأمر أمير المؤمنين بإحضاري، وَقَالَ: ما قصتك؟ [4] فأخبرته، وقلت: هذا يا أمير المؤمنين يحتاج أن يحال بينه وبين تدبير نفسه لأنه يقتلها ولا يحسن عشرتها، قَالَ: فضحك، وَقَالَ:
له في هذا لذة وقد صار له ألفا فلا يضره. ثم قلت: يا أبا بكر لم تفعل هذا بنفسك؟
فَقَالَ: أبقي على حفظي، قلت: إن الناس قد أكثروا في حفظك، فكم تحفظ؟ قَالَ:
أحفظ ثلاثة عشر صندوقا.
قَالَ مُحَمَّد بْن جعفر: وهذا ما لا يحفظه أحد قبله ولا بعده، وحدثت أنه كَانَ يحفظ عشرين ومائة تفسير من تفاسير القرآن بأسانيدها.
وَقَالَ [لنا] [5] أَبُو الحسن العروضي: كَانَ يتردد ابن الأنباري [6] إلى أولاد الراضي، فسألته جارية عن تفسير رؤيا فَقَالَ: أنا حاقن، ثم مضى فلما كَانَ من غد عاد وقد صار معبرا للرؤيا وذلك أنه مضى من يومه، فدرس كتاب الكرماني وجاء. قَالَ:
وَكَانَ يأخذ الرطب فيشمه [7] ويقول: أما إنك طيب ولكن أطيب منك حفظ ما وهب [8] الله لي من العلم.
قَالَ مُحَمَّد بْن جعفر: وَكَانَ يملي من حفظه وقد أملى غريب الحديث، قيل:
إنه خمسة وأربعون ألف ورقة [وكتاب شرح الكافي وهو نحو ألف ورقة] [9] ، وكتاب الهاءات نحو ألف ورقة، وكتاب الأضداد وما رأيت أكبر منه [1] ، والجاهليات سبعمائة ورقة [2] ، والمذكر والمؤنث ما عمل أحد أتم منه، وكتاب «المشكل» بلغ فيه إلى نصفه وما أتمه [3] .
قَالَ: وحدثت عنه أنه مضى يوما إلى النخاسين وجارية تعرض حسنة كاملة الوصف، قال: فرقعت في قلبي ثم مضيت إلى دار أمير المؤمنين الراضي، فَقَالَ لي:
أين كنت إلى الساعة؟ فعرفته، فأمر بعض أسبابه، فمضى فاشتراها وحملها إلى منزلي، فجئت فوجدتها، فعلمت الأمر كيف جرى، فقلت لها: كوني فوق إلى أن أستبرئك، وكنت أطلب مسألة قد اختلطت عَلي، فاشتغل قلبي فقلت للخادم: خذها وأمض بها إلى النخاس فليس قدرها أن تشغل قلبي عن علمي، فأخذها الغلام،. فقالت: دعني أكلمه بحرفين، فقالت له: أنت رجل لك محل وعقل، وإذا أخرجتني ولم يتبين لي ذنبي لم آمن أن يظن الناس بي ظنا قبيحا [4] ، فعرفنيه قبل أن تخرجني. فقلت لها: مالك عندي عيب غير أنك شغلتني عن علمي، فقالت: هذا سهل عندي.
وَقَالَ: فبلغ الراضي أمره، فَقَالَ: لا ينبغي أن يكون العلم في قلب أحد أحلى [5] منه في قلب هذا الرجل.
ولما وقع في علة الموت أكل كل شَيْء كَانَ يشتهي، وَقَالَ: هي علة الموت.
أَخْبَرَنَا عبد الرحمن بن محمد، قال: أخبرنا أحمد بْنُ عَلِيِّ [بْنِ ثَابِتٍ] [6] [حَدَّثَنَا أَبُو بكر مُحَمَّد بْن أَحْمَد بْن عبد الله النحوي، قَالَ: حدثني أبي، قَالَ: سمعت] [7] أبا بكر ابن الأنباري، يقول: دخلت المارستان بباب محول، فسمعت صوت رجل في بعض البيوت يقرأ: أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ الله الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ 29: 19 [1] فَقَالَ: أنا لا أقف إلا على قوله: كَيْفَ يُبْدِئُ الله الْخَلْقَ 29: 19 فأقف على ما عرفه القوم وأقروا به لأنهم لم يكونوا يقرون بإعادة الخلق وأبتدئ بقوله: ثُمَّ يُعِيدُهُ 29: 19 ليكون خبرا. وأما من قرأ على قراءة عَلي بْن أبي طالب وادكر بعد أمه، فهو وجه حسن الأمه النسيان، وأما أَبُو بكر بْن مجاهد فهو إمام في القراءة: وأما قراءة الأحمق [يعني] [2] ابن شنبوذ؟ إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت الغفور الرحيم 5: 118؟ [3] فخطأ، لأن الله تعالى [قد] [4] قطع لهم/ بالعذاب في قوله: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ 4: 48 [5] ، قال: فقلت لصاحب المارستان: من هذا الرجل؟ فَقَالَ: هذا إبراهيم الموسوس محبوس، فقلت: ويحك هذا أبي بْن كعب أفتح الباب [عنه، ففتح الباب فإذا أنا] [6] برجل منغمس في النجاسة والأدهم في قدميه [7] ، فقلت: السلام عليك، فَقَالَ: كلمة مقولة، فقلت: ما منعك من رد السلام عَلي؟ فَقَالَ: السلام أمان، وإني أريد أن امتحنك، ألست تذكر اجتماعنا عند أبي العباس- يعني ثعلبا- في يوم كذا وفى يوم كذا، وعرفني ما ذكرته وعرفته، وإذا به رجل من أفاضل [8] أهل العلم، فَقَالَ: هذا الذي تراني منغمسا فيه ما هو، قال: فقلت:
الخراء يا هذا، فَقَالَ: وما جمعه؟ فقلت: خروء، فَقَالَ: [لي] [9] صدقت وأنشد.
كَأنَ خروء الطير فوق رءوسهم
ثم قَالَ لي: والله لو لم تجبني بالصواب لأطعمتك منه، فقلت: الحمد للَّه الذي نجاني منك، وتركته وانصرفت.
أنبأنا مُحَمَّد بْن ناصر، أنبأنا عبد المحسن بْن مُحَمَّد بْن عَلي، أَخْبَرَنَا أَبُو الحسن أَحْمَد بْن مُحَمَّد، أَخْبَرَنَا القاضي [1] أَبُو الْحَسَن عَلِيّ بْن عَبْد الله الدينَوَريّ قَالَ: قَالَ أَبُو بكر عبد الله بْن عَلي بْن عيسى: لما مرض أبو بكر ابن الأنباري مرضه الذي توفي فيه انقطع عن الخروج إلى المسجد أياما، فدخلوا عليه واعتذروا من تأخرهم عنه، فَقَالَ له واحد من الجماعة: تقدم في أخذ الماء من غد فإني أجيئك بسنان بْن ثَابِت المتطبب، وَكَانَ يجتمع في حلقته وجوه الحضرة من أولاد الوزراء والكتاب والأمراء والأشراف، فلما كَانَ من الغد حضر سنان بْن ثَابِت مع ذلك الرجل، فدخل إليه، فلما توسط المنزل، قَالَ: أروني الماء ما دمت في الضوء، فنظر إليه ثم دخل إلى العليل [2] فسأله عن حاله، قَالَ له: رأيت الماء وهو يدل على إتعابك جسمك وتكلفك أمرا عظيما لا يطيقه الناس، قال: قد كنت أفعل ذلك ولم يعلم من أي نوع، فوصف له سنان ما يستعمله ثم خرج فتبعه قوم، فَقَالَ: هو تالف وما فيه حيلة فارفقوا به، ثم مضى فلما بعد قلت لابن الأنباري: يا أستاذ، ما الذي كنت تفعله حتى أستدل المتطبب عليه من حالك؟ فَقَالَ:
كنت أدرس في كل جمعة عشرة آلاف [3] ورقة.
توفي أَبُو بكر بْن الأنباري ليلة النحر من هذه السنة.





مصادر و المراجع :

١- المنتظم في تاريخ الأمم والملوك

المؤلف: جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي (المتوفى: 597هـ)

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید