المنشورات

خلافة المتقي باللَّه

 واسمه إبراهيم بن المقتدر [2] [و] [3] يكنى أبا إسحاق، وأمه أم ولد تسمى خلوب، أدركت خلافته. وولد في شعبان سنة سبع وتسعين ومائتين، وكان قد اجتمع الأشراف والقضاة في دار بجكم وشاوروه فيمن يولون، فاتفقوا عليه [4] ، فحمل من داره- وكانت بأعلى الحريم الظاهري- إلى دار الخلافة، فصعد إلى رواق التاج فصلى ركعتين على الأرض وجلس على السرير، وبايعه الناس وكان استخلافه يوم الأربعاء لعشر بقين من ربيع الأول من هذه السنة.
ولم يغدر بأحد قط، ولا تغير على جاريته التي كانت له قبل الخلافة، ولا تسرى عليها، وكان حسن الوجه، مقبول الخلق [5] ، قصير الأنف، أبيض مشربا بحمرة، في شعره شقرة وجعودة، كث اللحية، أشهل العينين، أبي النفس [6] ، لم يشرب النبيذ قط.
وكان يتعبد ويصوم جدا [7] ، وكان يقول: المصحف نديمي، ولا أريد جليسا غيره، فغضب الجلساء من هذا، حتى قال أبو بكر الصولي- وأودع هذا الكلام في كتابه المسمى بالأوراق، فقال [1] : ما سمع بخليفة [2] قط قال: [أنا] [3] لا أريد جليسا، أنا أجالس المصحف، سواه، أفتراه [ظن] [4] أن مجالسة المصحف خص بها دون آبائه وأعمامه الخلفاء، وأن هذا الرأي غمض عنهم [5] وفطن له.
قال المصنف: فأعجبوا لهذا المنكر [6] للصواب، وهو [7] يعلم أنه كان هو والجلساء لا يكادون يشرعون فيما [8] ينفع، وأقله المدح، فليته إذ قال هذا لم يثبته في تصنيف.
وفي يوم الجمعة [9] لاثنتي عشرة ليلة/ خلت من جمادى الأولي: فرغ من مسجد براثا [10] وجمع فيه الجمعة.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدِ الْقَزَّازِ، قَالَ [11] : أخبرنا أحمد [بن على] [12] بن ثابت قال: كان في الموضع المعروف ببراثا مسجد يجتمع فيه قوم ممن ينسب إلى التشيع، يقصدونه لا [13] للصلاة والجلوس، فرفع إلى المقتدر باللَّه أن الرافضة يجتمعون في ذلك المسجد [14] لسب الصحابة، والخروج عن الطاعة، فأمر بكبسه يوم الجمعة وقت الصلاة فكبس، وأخذ من وجد فيه فعوقبوا وحبسوا حبسا طويلا، وهدم المسجد حتى سوي بالأرض، وعفي رسمه، ووصل بالمقبرة التي تليه، ومكث خرابا إلى سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة، فأمر الأمير بجكم بإعادته وإحكامه وتوسعة بنائه [1] ، فبني بالآجر والجص، وسقف بالساج المنقوش، ووسع فيه ببعض ما يليه مما ابتيع له من الأملاك التي للناس [2] ، وكتب في صدره اسم الراضي باللَّه، وكان الناس ينتابونه للصلاة فيه والتبرك، ثم أمر المتقي باللَّه [بعد] [3] بنصب منبر فيه، وكان [4] في مدينة المنصور معطلا مخبوءا في خزانة المسجد، عليه اسم هارون الرشيد، فنصب في قبلة المسجد، وتقدم إلى أحمد بن الفضل بن عبد الملك الهاشمي، وكان الإمام في مسجد الرصافة [5] بالخروج إليه، والصلاة بالناس فيه الجمعة، فخرج وخرج الناس من جانبي مدينة السلام، حتى حضروا هذا المسجد [6] ، وكثر الجمع، وحضر صاحب الشرطة، فأقيمت صلاة الجمعة فيه يَوْم الجمعة لثنتي [7] عشرة ليلة خلت من جمادى الأولي سنة تسع وعشرين [وثلاثمائة] [8] ، وتوالت صلاة الجمع [9] فيه، ثم تعطلت الصلاة فيه بعد الخمسين وأربعمائة.
وفي يوم الخميس [10] لسبع خلون من جمادى الآخرة: سقطت [11] رأس القبة الخضراء بالمدينة.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت أنبأنا [12] إبراهيم بن مخلد أخبرنا [1] إسماعيل بن علي الخطبي قال: سقطت [2] رأس القبة/ الخضراء التي في قصر أبي جعفر المنصور لتسع [3] خلون من جمادى الآخرة سنة تسع وعشرين، وكان تلك الليلة مطر عظيم، ورعد هائل، وبرق شديد، وكانت هذه القبة تاج بغداد، وعلم البلد، ومأثرة من مآثر بني العباس عظيمة، بنيت أول ملكهم، وكان بين بنائها وسقوطها مائة وسبع وثمانون سنة.
أَخْبَرَنَا القزاز، قَالَ: أَخْبَرَنَا أحمد بْن علي بن ثابت [الخطيب قَالَ:] [4] أَخْبَرَنَا علي بن أبي علي البصري قال: حدثني أبي قال: قال لي أبو الحسين بن عياش [5] :
اجتمعت في أيام المتقي باللَّه إسحاقات كثيرة، فانسحقت خلافة بني العباس في أيامه، وانهدمت قبة المنصور الخضراء التي كان بها فخرهم فقلت له: ما كانت الإسحاقات؟
قال: كان يكنى أبا إسحاق، وكان وزيره القراريطي، يكنى: أبا إسحاق، وكان قاضيه ابن إسحاق الخرقي [6] ، وكان محتسبه أبو إسحاق بن بطحاء، وكان صاحب شرطته أبو إسحاق بن أحمد، وكانت داره القديمة في دار إسحاق بن إبراهيم المصعبي وكانت الدار نفسها دار إسحاق بن كنداج [7] .
واشتد الغلاء في جمادى الأولي وزاد [8] ، وبلغ الكر الدقيق مائة وثلاثين دينارا، وأكل الناس النخالة والحشيش، وكثر الموت حتى دفن جماعة في قبر واحد بلا صلاة، ولا غسل، ورخص العقار والقماش حتى بيع ما ثمنه دنانير بعددها دراهم.
وفي هذه السنة خَرَجَ التشرينان [9] والكانونان وشباط بلا مطر [إلا مطرة واحدة خفيفة لَمْ يسل منها ميزاب] [1] وقطع الأكراد [2] على قافلة خرجت إلى خراسان فأخذوا [3] منها ما مبلغه ثلاثة آلاف دينار [وكان أكثر المال لبجكم] [4] وزادت الفرات زيادة لم يعهد مثلها، وغرقت العباسية، ودخل الماء شوارع بغداد فسقطت القنطرة العتيقة والجديدة.
وفي شوال: اجتمعت العامة في جامع دار السلطان، وتظلمت من الديلم ونزولهم في دورهم بغير أجرة، وتعديهم عليهم في معاملاتهم، فلم يقع إنكار لذلك فمنعت العامة الإمام من الصلاة، وكسرت المنبرين/ وشعثت [5] المسجد، ومنعهم الديلم من ذلك فقتلوا [6] من الديلم جماعة.
وفي هذا الشهر: تقلد أبو إسحاق محمد بن أحمد الإسكافي وزارة المتقي، وخلع عليه.
ووقع الموت [7] في المواشي والعلل في الناس، وكثرت الحمى ووجع المفاصل، ودام [الغلاء] [8] حتى تكشف المتجملون [9] ، وهلك الفقراء، واحتاج الناس إلى الاستسقاء فرئي منام عجيب.
أخبرنا محمد بن عبد الباقي البزاز، أنبأنا [10] علي بن عبد المحسن [11] ، عن أبيه قال: حدثني أبو الحسن أحمد بن يوسف الأزرق، حدثنا [1] أبو محمد الصلحي الكاتب قال: نادى منادي المتقي [باللَّه] [2] في زمن خلافته في الأسواق أن أمير المؤمنين يقول لكم معشر رعيته أن امرأة صالحة رأت النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في منامها فشكت احتباس القطر [3] ، فقال لها: قولي للناس يخرجون في يوم الثلاثاء الأدنى ويستسقون، ويدعون الله، فإنه يسقيهم [4] في يومهم، وأن أمير المؤمنين يأمركم معاشر المسلمين بالخروج في يوم الثلاثاء كما أمر [5] رسول الله صَلى اللهُ عَلَيه وَسَلَّمَ، وأن تدعوا وتستسقوا بإصلاح من نياتكم، وإقلاع من ذنوبكم. قال: فأخبرني الجم الغفير أنهم [6] لما سمعوا [7] النداء ضجت الأسواق بالبكاء والدعاء، فشق ذلك عليَّ، وقلت: في منام [8] امرأة لا يدري [9] كيف تأويله، وهل يصح أم لا، ينادي به خليفة في أسواق مدينة [10] السلام [11] ، فإن لم يسقوا كيف يكون حالنا مع الكفار، فليته أمر الناس [12] بالخروج ولم يذكر هذا، وما زلت قلقا حتى أتى يوم الثلاثاء، فقيل لي أن الناس قد خرجوا إلى المصلى مع أبي الحسن أحمد بن الفضل [13] بن عبد الملك إمام الجوامع، وخرج أكثر [14] أصحاب السلطان والفقهاء والأشراف، فلما كان قبل الظهر ارتفعت سحابة، ثم طبقت الآفاق، ثم أسبلت عزاليها بمطر جود، فرجع الناس حفاة من الوحل/. 
وفي هذه السنة: لم يمض الحاج إلى المدينة لأجل طالبيٍّ خرج في ذلك الصقع.






مصادر و المراجع :

١- المنتظم في تاريخ الأمم والملوك

المؤلف: جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي (المتوفى: 597هـ)

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید