المنشورات

علي بْن عيسى بْن داود بن الجراح، أبو الحسن، وزير المقتدر باللَّه، والقاهر باللَّه

ولد سنة خمس وأربعين ومائتين، وسمع أحمد بن بديل الكوفي، والحسن بن محمد الزعفراني، وحميد بن الربيع، وعمر بن شبة. روى عنه الطبراني وغيره، وكان صدوقا فاضلا [6] ، عفيفا في ولايته [7] ، كثير المعروف وقراءة القرآن والصلاة والصيام،يحب أهل العلم، ويكثر مجالستهم، وأصله من الفرس، وكان داود جده من دير قني من [1] وجوه الكبار [2] ، وكذلك أبوه عيسى.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد، قال: أخبرنا أحمد بن علي، قَالَ: أخبرنا الأزهري قال: قال لي أبو الحسن محمد بن أحمد بن رزقويه [3] قال: قال لي ابن كامل القاضي: سمعت علي بن عيسى الوزير يقول: كسبت سبعمائة ألف دينار أخرجت منها في هذه الوجوه- يعني وجوه البر- ستمائة ألف [4] وثمانين ألفا.
أخبرنا عبد الرحمن قَالَ: أخبرنا أحمد بن علي قال: أخبرنا [5] عَلِيُّ بْنُ الْمُحْسِنِ التَّنُوخِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا [6] أَبِي قَالَ: حدثنا [7] القاضي أبو بكر محمد بن عبد الرحمن بن قريعة وأبو محمد [8] عبد الله بن أحمد بن داسة قالا: حدثنا أبو [بكر] [9] سهل بن زياد القطان صاحب علي بن عيسى قال: كنت مع علي بن عيسى لما نفي إلى مكة فلما دخلناها دخلنا [10] في حر شديد وقد كدنا نتلف، فطاف علي بن عيسى وسعى، وجاء فألقي نفسه وهو كالميت من الحر والتعب، وقلق قلقا شديدا، وقال: اشتهي على الله شربة ماء مثلوج. فقلت [له] [11] يا سيدنا، تعلم أن هذا ما لا يوجد بهذا المكان [12] فقال:
هو كما قلت، ولكن نفسي ضاقت عن ستر هذا القول، فاستروحت إلى المنى [13] قال:
وخرجت من عِنْدِهِ، ورجعت إلى المَسْجِد/ الحرام، فما استقررت [1] فيه حتى نشأت سحابة فبرقت ورعدت، وجاءت بمطر يسير، وبرد كثير فبادرت إلى الغلمان فقلت:
اجمعوا، فجمعنا منه شيئا عظيما، وملأنا منه جرارا كثيرة، وجمع أهل مكة منه شيئا عظيما، وكان علي بن عيسى صائما فلما كان وقت المغرب خرج إلى المسجد الحرام [2] ليصلي المغرب، فقلت له: [3] أنت والله مقبل، والنكبة زائلة، وهذه علامات الإقبال، فاشرب الثلج كما طلبت، وجئته بأقداح مملوءة من أصناف [الأسوقة] [4] والأشربة مكبوسة بالبرد، فأقبل يسقي ذلك من قرب منه من الصوفية والمجاورين والضعفاء، ويستزيد، ونحن نأتيه بما عندنا، وأقول له: اشرب فيقول: حتى يشرب الناس. فخبأت مقدار خمسة أرطال وقلت له: إنه لم يبق شيء. فقال: الحمد للَّه، ليتني كنت تمنيت المغفرة، فلعلي كنت أجاب، فلما دخل البيت لم أزل أداريه حتى شرب منه، وتقوت ليلته بباقيه.
أخبرنا القزاز قال أخبرنا أحمد بن علي الخطيب قال [5] أخبرنا القاضي أبو العلاء قال: أنشدنا القاضي أبو عبد الله بن أبي جعفر قال: أنشدني أبي قال: أنشدني الوزير أبو الحسن علي بن عيسى لنفسه:
فمن كان عني سائلا بشماتة ... لما نابني أو شامتا غير سائل
فقد أبرزت مني الخطوب ابن حرة ... صبورًا على أهوال تلك الزلازل
وقد روينا عن مكرم بن بكر القاضي قال: كنت خصيصا بالوزير أبي الحسن علي ابن عيسى [6] فأقبلت عَلَيْهِ يَوْمَا وهو مهموم [7] جدًا فسألته عن ذلك فقال: كتب إلى عاملنا بالثغر أن أسارى المسلمين في بلد الروم كانوا على رفق وصيانة إلى أن ولي آنفا ملك الروم حدثان/ منهم، فعسفا الأسارى، وأجاعاهم، وأعرياهم، وعاقباهم، وطالباهم بالتنصر، وأنهم في عذاب شديد، ولا حيلة لي في هذا والخليفة لا يساعدني، فكنت أنفق الأموال وأجهز الجيوش إلى القسطنطينية فقلت: ها هنا أمر سهل يبلغ به الغرض، فقال: قل يا مبارك! قلت: إن بأنطاكية عظيما للنصارى يقال له: البطرك، وبالقدس آخر يقال له: الجاثليق، وأمرهما ينفذ على الروم وعلى ملوكهم، والبلدان في سلطاننا، والرجلان في ذمتنا، فيأمر الوزير بإحضارهما، ويتقدم إليهما بإزالة ما تجدد على الأسارى، فإن لم يزل لم يطالب بتلك الجريرة غيرهما، فكتب يستدعيهما، فلما كان بعد شهرين جاءني [1] رسوله، فجئت فوجدته مسرورا فقال: جزاك الله عن نفسك ودينك وعني خيرا، كان رأيك أبرك رأي وأسده، هذا رسول العامل قد ورد، وقال له:
خبر بما جرى، فقال: أنفذني العامل مع رسول البطرك والجاثليق إلى القسطنطينية، وكتبا إلى ملكيها أنكما قد خرجتما بما فعلتما عن ملة المسيح عليه السلام، [2] وليس لكما الإضرار بالأسارى، فإنه يخالف دينكما وما يأمركما به المسيح عَلَيْهِ السلام [3] فإما زلتما عن هذا الفعل وإلا حرمناكما، ولعناكما على هذين الكرسيين، فلما وصلنا إلى القسطنطينية حجبنا أياما، ثم أوصل الرسولان إليهما واستدعياني، فقال الترجمان:
يقول لكما الملكان: الذي بلغ ملك العرب من فعلنا بالأسارى كذب وتشنيع، وقد أذنا لك في [4] دخولك لتشاهدهم على ضد ما قيل، وتسمع شكرهم لنا فدخلت فرأيت [5] الأسارى، وكأن وجوههم قد خرجت من القبور، تشهد بما كانوا فيه من الضر، ورأيت ثيابهم جميعًا جددا فعلمت أني حجبت تلك الأيام لتغيير حالهم. فقال لي الأسارى: نحن شاكرون للملكين فعل الله بهما وصنع، وأومأ إلى بعضهم أن الذي بلغكم/ كان صحيحا، إنما خفف عنا لما حصلتم ها هنا، فكيف بلغكم أمرنا؟ فقلت: ولي الوزارة علي بن عيسى،وبلغه حالكم ففعل كذا وكذا، فضجوا بالدعاء والبكاء [1] وسمعت امرأة منهم تقول مر يا علي بن عيسى لا نسي الله لك هذا الفعل! فلما سمع الوزير ذلك أجهش بالبكاء، وسجد شكرا للَّه تعالى، فقلت: أيها الوزير، أسمعك كثيرا تتبرم بالوزارة، فهل كنت تقدر على تحصيل هذا الثواب لولا الوزارة؟ فشكر لي [2] ، وانصرفت [3] .
أخبرنا أبو بكر بن أبي طاهر، عَنْ أبي القاسم عَلِي بْن المحسن التنوخي، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: حدثني جماعة من أهل الحضرة أن رجلا بالكرخ كان مشهورا بالستر وارتكبه دين، فقام عن دكانه ولزم منزله، وأقبل على الدعاء والصلاة ليالي كثيرة، فلما كانت ليلة الجمعة صلى صلاته ودعا ونام، قال: فأريت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو يقول: اقصد علي بن عيسى الوزير، فقد أمرته لك بأربعمائة دينار، فخذها وأصلح بها أمرك. قال: وكان علي قيمة ستمائة دينار [4] فلما كان من غد قلت: قد قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ رأني في المنام فقد رأني [حقا فان] [5] الشيطان لا يتمثل بي» فلم لا أقصد الوزير؟ فجئت الباب فمنعت من الوصول إليه فجلست [6] إلى أن ضاق صدري وهممت بالانصراف، فخرج صاحبه وكان يعرفني معرفة ضعيفة، فأخبرته فقال: يا هذا، الوزير والله في طلبك منذ السحر والى الآن، وقد سأل عنك، فما عرفك أحد، والرسل مبثوثة في طلبك، فكن مكانك، قال:
ومضى ودخل، فما كان بأسرع من أن دعوني فدخلت إلى الوزير، فقال لي: ما اسمك؟
فقلت: فلان ابن فلان العطار. قال: من أهل الكرخ؟ قلت: نعم. قال: يا هذا، أحسن الله جزاءك في قصدك إياي، فو الله ما تهنأت [7] / بعيش منذ البارحة، جَاءَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في منامي فقال: «اعط فلان بن فلان العطار من الكرخ أربعمائة دينار يصلح بها شأنه» وكنت اليوم طول نهاري في طلبك، وما عرفك أحد، ثم قال: هاتوا ألف دينار فحملوها، فقال: هذه أربعمائة دينار خذها امتثالا لأمر رسول الله صَلَّى الله عليه وسلّم وستمائة هبة [1] مني لك، فقلت: أيها الوزير، ما أحب أن أزاد على عطية رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأني أرجو البركة فيه لا فيما عداه، فبكى علي بن عيسى وقال: [هذا هو اليقين] [2] خذ ما بدا لك.
فأخذت أربعمائة دينار فانصرفت، فقصصت قصتي على صديق لي وأريته الدنانير، وسألته أن يحضر غرمائي ويتوسط بيني وبينهم، ففعل فقالوا: نحن نؤخره ثلاث سنين بالمال فليفتح دكانه، فقلت: لا بل يأخذون مني الثلث من أموالهم، وكانت ستمائة، فأعطيت كل من له شيء ثلث ماله، فكان الذي فرقت بينهم مائتي دينار وفتحت دكاني، وأدرت المائتين الباقية في الدكان فما حال الحول إلا ومعي ألف دينار، فقضيت ديني كله، وما زالت حالتي تزيد وتصلح.
توفي علي بن عيسى في هذه السنة، وقيل: في سنة أربع وثلاثين، عن تسع وثمانين سنة.





مصادر و المراجع :

١- المنتظم في تاريخ الأمم والملوك

المؤلف: جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي (المتوفى: 597هـ)

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید