المنشورات

وفاة القرمطي صاحب هجر

أنه ورد الخبر في صفر إلى الكوفة بوفاة. أبي يعقوب يوسف بن الحسن الجنابي [القرمطي] [1] صاحب هجر، فأغلقت أسواق الكوفة ثلاثة أيام.
وفي ربيع الأول: زلزلت بغداد.
وفي ربيع الآخر: عبر عز الدولة إلى الجانب الغربي على جسر عقده، ودخل [2] إلى قطربُّل، وتفرق عنه ديلمته [3] ، ودخل أوائل أصحاب عضد الدولة، ثم نزل عضد الدولة بالخيم في الشفيعي، وخرج الطائع متلقيا له، وضربت القباب/ المزينة، ودخل البلد، ثم خرج عضد الدولة ومعه الطائع، ليقاتل عز الدولة بختيار، فلما أراد الخروج دخل عليه أبو علي الفارسي فقال له: ما رأيك في صحبتنا؟ فقال: أنا من رجال الدعاء لا اللقاء فخار الله للملك في عزيمته وأنجح قصده في نهضته، وجعل العافية زاده والظفر تجاهه، والملائكة أنصاره، ثم إنه أنشأ يَقُولُ [4] :
ودعته حيث لا تودعه ... نفس ولكنها تسير معه
ثم تولي وفي الفؤاد له ... ضيق محل وفي الدموع سعه
فقال: لَهُ [1] عضد الدولة: بارك الله فيك، فأني أثق بطاعتك، وأتيقن صفاء طويتك، وقد أنشدنا بعض أشياخنا بفارس:
قالوا له إذ سار جانبه [2] ... فبدلوه البعد بالقرب
والله ما شطت نوى ظاعن ... سار من العين إلى القلب
فدعا له أبو علي، وقال: ائذن [3] مولانا في نقل هذين البيتين، فأذن له فاستملاهما منه، فلما خرج للقتال التقوا فأخذ عز الدولة أسيرًا، وقتل، ثم ركب بعد ذلك عضد الدولة إلى دار الطائع للَّه في يوم الأحد لتسع خلون من جمادى الأولي، ومعه أصناف الجند، والأشراف والقضاة والشهود والأماثل، والوجوه، فخلع عليه الخلع السلطانية، وتوجه بتاج مرصع بالجوهر، وطوقه وسوره وقلده/ سيفًا وعقد له لوائين بيده أحدهما مفضفض على رسم الأمراء، والآخر مذهب على رسم ولاة العهود، ولم يعقد هذا اللواء الثاني لغيره قبله، ممن يجري مجراه، ولقبه: تاج الملة، مضافا إلى عضد الدولة، وكتب له عهدًا، وقرئ العهد بحضرته، ولم تجر العادة بذلك، وإنما كانت العهود تدفع إلى الولاة بحضرة الخلفاء، فإذا أخذه الرجل منهم قال له: هذا عهدي إليك، فاعمل [به] [4] وحمله على فرس بمركب ذهب، وقاد بين يديه آخر بمركب مثله، فخرج وجلس في الطيار إلى داره، وجلس من الغد بالخلع والتاج على السرير للهناء، وتقدم بإخراج عشرين ألف درهم في الصدقات، ففرقت على سائر الملل، وبعث إليه الطائع هدايا كثيرة طريفة، فبعث هو خمسمائة جمل، وحمل خمسين ألف ألف دينار، وألف ألف درهم، وخمسمائة ثوب أنواعًا وثلاثين صينية فضة فيها العنبر والمسك والنوافح.
وفي شهر رمضان: وردت المدود العظيمة بسامراء [5] فقلعت سكر السهلية، وتناهت زيادة دجلة حتى انتهت إلى إحدى وعشرين ذراعا، وانفجر بالزاهر من الجانب الشرقي بثق غرق الدور والشوارع، وانفجر بثق من الخندق غرق مقابر باب التبن، وقطيعة أم جعفر، وخرج سكان الدور الشارعة على دجلة منها، وغار الماء من آبارها وبلاليعها، وأنقم [1] الناس نفوسهم خوفًا من غرق البلد كله، ثم نقص الماء/.
وفي يوم الأحد سابع ذي القعدة كانت بسيراف زلزلة هدمت المنازل، وأتت على ما فيها من الأموال، وهلك بها أكثر من مائتي إنسان.
وفي هذه السنة. جرت لأبي الحسين بن سمعون قصة عجيبة مع عضد الدولة.
أخبرنا بها أبو الحسن [2] علي بن المعافى الفقيه قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْبَاقِي الْبَزَّازُ قال: أَخْبَرَنَا الْقَاضِي أَبُو عَبْد اللَّهِ مُحَمَّد بْن سلامة القضاعي أجازة قال:
حدثنا أبو الحسن علي بن نصر بن الصباح قال: حدثنا أبو الثناء شكر العضدي قال:
دخل عضد الدولة إلى بغداد، وقد هلك أهلها قتلًا وحرقًا وجوعًا للفتن التي اتصلت فيها بين الشيعة والسنة، فقال: آفة هؤلاء القصاص يغرون بعضهم ببعض ويحرضونهم على سفك دمائهم، وأخذ أموالهم، فنادى في البلد لا يقص أحد في جامع ولا طريق، ولا يتوسل متوسل بأحد من أصحاب رسول الله صلَّى اللَّه عليه وسلم ومن أحب التوسل قرأ القرآن، فمن خالف فقد أباح دمه. فرفع إليه في الخبر أن أبا الحسين بن سمعون الواعظ جلس على كرسيه يوم الجمعة في جامع المنصور، وتكلم على الناس، فأمرني أن أنفذ إليه من يحصله عندي، ففعلت فدخل على رجل له هيبة، وعلى وجهه نور، فلم أملك أن قمت إليه، وأجلسته إلى جانبي، فلم ينكر ذلك وجلس غير مكترث، وأشفقت والله أن يجري عليه مكروه على يدي، فقلت: أيها الشيخ، إن هذا الملك جلد عظيم، وما كنت أوثر مخالفة أمره، وتجاوز رسمه، والآن فأنا موصلك إليه، فكما تقع عينك عليه، فقبل التراب وتلطف في/ الجواب، إذا سألك واستعن الله عليه [3] فعساه يخلصك منه.
فقال: الخلق والأمر للَّه عزَّ وجل، فمضيت به إلى حجرة في آخر الدار قد جلس فيها الملك منفردًا خيفة أن يجري من أبي الحسين بادرة بكلام فيه غلظ، فتسير به الركبان [1] ، فلما دنوت من الحجرة وقفته وقلت له: إياك أن تبرح من مكانك حتى أعود إليك [2] ، وإذا سلمت فليكن بخشوع وخضوع.
ودخلت لأستأذن له، فالتفت فإذا هو واقف إلى جانبي [3] ، قد حول وجهه نحو دار بختيار، واستفتح وقرأ. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) 11: 102 [4] . ثم حول وجهه نحو الملك، وقال «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ من بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) 10: 14 [5] وأخذ في وعظه فأتى بالعجب فدمعت عين الملك، وما رأيت ذلك منه قط، وترك كمه على وجهه، وتراجع أبو الحسين، فخرج ومضى إلى حجرتي فقال الملك: امض إلى بيت المال، وخذ ثلاثة آلاف درهم، وإلى خزانة الكسوة وخذ منها عشرة أثواب، وادفع الجميع إليه، فإن امتنع فقل له: فرقها في فقراء [6] أصحابك، فإن قبلها فجئني برأسه، فاشتد جزعي وخشيت أن يكون هلاكه على يدي، ففعلت وجئته بما أمر، وقلت له:
مولانا يقرئك السلام، وقال لك: استعن بهذه الدراهم في نفقتك، والبس هذه الثياب، فقال لي: إن هذه الثياب التي عليَّ مما قطعه لي أبي منذ أربعين سنة، ألبسها يوم [خروجي إلى الناس، وأطويها عند انصرافي عنهم] [7] وفيها [متعة] [8] وبقية ما بقيت، ونفقتي من أجرة دار خلفها أبي، فما أصنع بهذا؟ قلت: هو يأمرك بأن تصرفه في فقراء [9] . أصحابك. فقال: ما في أصحابي فقير، وأصحابه إلى هذا أفقر من أصحابي، فليفرقه عليهم. فعدت فأخبرته، فقال: الحمد للَّه الذي سلمه منا، وسلمنا منه.





مصادر و المراجع :

١- المنتظم في تاريخ الأمم والملوك

المؤلف: جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي (المتوفى: 597هـ)

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید