المنشورات

[فناخسرو بن الحسن بن] بويه بفتح الواو ابن فناخسرو بن تمام بن كوهي بن شيرزيل ، أبو شجاع الملقب عضد الدولة.

كذا ذكره الأمير أبو نصر بن ماكولا [13] ونسبه إلى سابور بن أردشير، وكان أبوه يكنى [1] أبا علي، ويلقب ركن الدولة، وهو أول من خوطب في الإسلام بالملك شاهنشاه، وكان دخوله إلى بغداد في ربيع الأول [2] سنة سبع وستين وثلاثمائة، وخرج الطائع إليه متلقيا له ولم يتلق سواه، ودخل إلى الطائع [3] فطوّقه وسوره وشافهه بالولاية، وأمر أن يخطب له على المنابر ببغداد، ولم تجر بذلك عادة لغير الخليفة، وأذن له في ضرب الطبل على بابه في أوقات الصلوات الثلاث، ودخل بغداد وقد استولى الخراب عليها وعلى سوادها بانفجار بثوقها، وقطع المفسدين طرقاتها، فبعث العسكر إلى بني شيبان، وكانوا يقطعون الطريق، فأوقع بهم، وأسر منهم ثماني مائة/ رجل [4] وسد بثق السهلية، وبثق اليهودي، وأمر الأغنياء بعمارة مسناتهم [5] ، وأن يغرسوا في كل خراب لا صاحب له، وغرس هو الزاهر، وهو دار أبي علي بن مقلة، وكانت قد صارت تلا، وغرس التاجي عند قطربُّل، وحوطه على ألف وسبعمائة جريب، وأمر بحفر الأنهار التي دثرت [6] ، وعمل عليها أرحاء الماء، وحول من البادية قوما فأسكنهم بين فارس وكرمان، فزرعوا، وعمروا البرية، وكان ينقل إلى بلاده ما لا يوجد بها من الأصناف فمنها: نقله [7] إلى كرمان: حب النيل، وبلغ في الحماية أقصى حد، وأخر الخراج إلى النوروز العضدي [8] ، ورفع الجباية عن الحاج، وأقام لهم السواني في الطريق، وحفر المصانع والآبار، وأطلق الصلات لأهل الحرمين، ورد رسومهم القديمة، وأدار السور على مدينة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ، [وكسا المساجد] [9] فأدر أرزاق المؤذنين والقراء، وربما تصدق [10] بثلاثين ألفا، وصدق مرة بثلاثين بدرة، وعمل الجسر، وبنى القنطرتين العتيقة والجديدة على الصراة، فتمت الجديدة بعد [1] وفاته، وكان بجكم قد عمل مارستان فشرع فِيهِ [2] ، فلم يتم فعمله عضد الدولة [3] وجلب إليه ما يصلح لكل فن [4] ، وعمل بين يديه سوقا للبزازين، ووقف عليه وقوفا كثيرة، وعمل له أرحاء بالزبيدية من نهر عيسى، ووقفها عليه وكان يبحث عن أشراف الملوك، وينقب [5] عن سرائرهم، وكانت أخبار الدنيا عنده [حتى] [6] لو تكلم إنسان بمصر رقي إليه حتى أن رجلا بمصر [7] ذكره بكلمة فاحتال حتى جاء به، ووبخه عليها ثم/ رده فكان الناس يحترزون في كلامهم وأفعالهم من نسائهم وغلمانهم، وكانت له حيل [عجيبة] [8] في التوصل إلى كشف [9] المشكلات، وقد ذكرت منها جملة في كتاب «الأذكياء» فكرهت الإعادة، وكانت هيمنته [10] عظيمة، فلو لطم إنسان إنسانا قابله أشد [11] مقابلة، فانكف الناس عن التظالم، وكان غزير العقل شديد التيقظ، كثير الفضل [12] ، بعيد الهمة محبا للفضائل، مجتنبا للرذائل، وكان يباكر دخول الحمام، فإذا خرج صلى الفجر، ودخل إليه خواصه [13] ، فإذا ترحل النهار سأل عن الأخبار الواردة، فإن تأخرت عن وقتها قامت عليه القيامة، وسأل عن سبب التعويق، فان كان من غير عذر أنزل البلاء [14] عليهم، حتى أن بعضهم يعوق بمقدار ما تغدى، فيضرب [1] ، وكانت الأخبار تصل من شيراز إلى بغداد في سبعة أيام، وتحمل معهم الفواكه الطرية، ثم يتغدى والطبيب قائم، وهو يسأله عن منافع الأطعمة ومضارها، ثم ينام فإذا انتبه [2] صلى الظهر، وخرج إلى مجلس الندماء والراحة، و [سماع] [3] الغناء، وكذلك إلى أن يمضي من الليل صدر، ثم يأوي إلى فراشه، فإذا كان يوم موكب برز للأولياء، فلقيهم ببشر معه هيبة، وكان يقتل ويهلك ظنا منه أن ذلك سياسة، فيخرج بذلك الفعل عن مقتضى الشريعة، حتى أن جارية شغلت قلبه بميله إليها عن تدبير المملكة، فأمر بتغريقها، وأخذ غلام بطيخا من رجل غصبا فضربه بسيف فقطعه نصفين. وكان يحب العلم والعلماء، ويجري الرسوم للفقهاء والأدباء والقراء، فرغب الناس في العلم/ وكان هو يتشاغل بالعلم، فوجد له في تذكرة «إذا فرغنا من حل إقليدس [4] كله تصدقت بعشرين ألف درهم، وإذا فرغنا من كتاب أبي علي النحوي تصدقت بخمسين ألف درهم، وكل ابن يولد لنا كما نحب أتصدق بعشرة آلاف درهم، فإن كان من فلانة فبخمسين ألف درهم، وكل بنت [5] فبخمسة آلاف، فإن كان منها فبثلاثين ألفا، وكان يحب الشعر، فمدح كثيرا وكان يؤثر مجالسة الأدباء على منادمة الأمراء، وقال شعرا كثيرا نظرت فِي جميعه [6] فمن شعره:
يا طيب رائحة من نفحة الخيري ... إذا تمزق جلباب الدياجير
كأنما رش بالماورد أو عبقت ... فيه دواخين ند عند تبخير
كان أوراقه في القد أجنحة ... صفر وحمر وبيض من زنابير
ومن شعره، وقد خرج [7] إلى بستان، وقال: لو ساعدنا غيث، فجاء المطر فقال:
ليس شرب الكأس [8] إلا في المطر ... وغناء من جوار في السحر
غانيات سالبات للنهى ... ناغمات [1] في تضاعيف الوتر
راقصات زاهرات نجل ... رافلات في أفانين الحبر
مطربات محسنات مجن ... رافضات الهم أبان الفكر
مبرزات الكأس من مخزنها ... مسقيات الخمر من فاق البشر
عضد الدولة وابن ركنها ... مالك الأملاك غلاب القدر
سهل الله له بغيته ... في ملوك الأرض ما دار القمر
وأراه الخير في أولاده ... ليساس الملك منه بالغرر
وقالوا انه مذقال: «غلاب القدر» لم يفلح.
وليس شعره/ بالفائق، فلم أكتب منه غير ما كتبت [2] .
وأهدى إليه أبو إسحاق الصابئ استرلابًا [3] في يوم مهرجان وكتب معه:
أهدى إليك بنو الأملاك واختلفوا ... في مهرجان جديد أنت مبليه
لكن عبدك إبراهيم حين رأى ... علو قدرك عن شيء تدانيه [4]
لم يرض بالأرض مهداة إليك فقد ... أهدى لك الفلك الأعلى بما فيه
وكان قد طلب حسان [5] دخله في السنة، فإذا هو ثلاثمائة ألف ألف وعشرين ألف ألف درهم فقال: أريد أن أبلغ به إلى ثلاثمائة وستين ألف ألف درهم، ليكون دخلنا في كل يوم ألف ألف درهم، وفي رواية أنه كان يرتفع له كل عام اثنان وثلاثون ألف ألف دينار، ومائتا ألف دينار وكان له كرمان، وفارس، وعمان، وخوزستان، والعراق، والموصل، وديار بكر وحران، ومنبج، وكان مع صدقاته، وإيصاله ينظر في الدينار، وينافس [1] في القيراط، وأقام مكوسا، ومنع أن يعمل في الآلة، وأثر آثار من الظلم، فلما احتضر عضد الدولة جعل يتمثل بقول القاسم بن عبيد الله:
قتلت صناديد الرجال فلم أدع ... عدوا ولم أمهل على ظنة خلقا
وأخليت دور الملك من كل نازل ... فشردتهم غربا وبددتهم [2] شرقا
فلما بلغت النجم عِزًّا ورفعة ... وصارت رقاب الخلق أجمع لي رقا
رماني الردى سهما فأخمد جمرتي ... فها أنا ذا في حفرتي عاطلا ملقى
فأذهبت دنياي وديني سفاهة ... فمن ذا الذي مِنِّي بمصرعه أشقى/
ثم جعل يقول (مَا أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ) 69: 28- 29 فرددها إلى أن توفي في آخر يوم الاثنين من شوال هذه السنة عن سبع وأربعين سنة، واحد عشر شهرا، وثلاثة أيام، وقيل: بل عن ثمانية وأربعين سنة، وستة أشهر، وخمسة عشر يوما، وأخفى خبره، ودفن في دار المملكة إلى أن خرجت السنة، وتقررت قواعد ما يتعلق به في السنة المقبلة [3] ، فلما توفي بلغ خبره إلى مجلس بعض [4] العلماء، وفيه جماعة من أكابر أهل العلم، فتذاكروا الكلمات التي قالها الحكماء عند موت الإسكندر.
وقد رويت لنا من طرق مختلفة الألفاظ، ونحن نذكر أحسنها، وذلك [5] أن الإسكندر لما مات قام عند تابوته جماعة من الحكماء، فقال أحدهم: سلك الإسكندر طريق من فني، وفي موته عبرة لمن بقي، وقال الثاني، خلف الإسكندر ماله لغيره، ونحكم فيه بغير حكمه، وقال الثالث: أصبح الإسكندر مشتغلا بما عاين وهو بالأعمال يوم الجزاء أَشْغَلُ، وقال الرابع: كنت مثلي حديثا وأنا مثلك وشيكا، وقال الخامس: إن هذا الشخص كان لكم واعظا، ولم يعظكم قط، بأفضل من مصرعه. وقال السادس: كان الإسكندر كحلم نائم انقضى، أو كظل غمام [1] انجلى. وقال السابع: لأن كنت أمس لا يأمنك أحد لقد أصبحت اليوم وما يخالفك أحد. وقال الثامن: هذه الدنيا الطويلة العريضة طويت في ذراعين. وقال/ التاسع: أجاهلا كنت بالموت فنعذرك، أم عالما به فنلومك، وقال العاشر: كفى للعامة أسوة بموت الملوك، وكفى للملوك عظة بموت العامة.
وقال بعض من حضر ذلك [2] المجلس الذي أشيع [3] فيه بموت عضد الدولة، وتذكرت فيه هذه الكلمات: فلو قلتم أنتم مثلها لكان ذلك يؤثر عنكم، فقال أحدهم: لقد وزن [4] هذا الشخص الدنيا بغير [5] مثقالها وأعطاها فوق قيمتها، وحسبك أنه طلب الربح فيها فخسر روحه فيها، وقال الثاني: من استيقظ للدنيا فهذا نومه، ومن حلم فيها فهذا انتباهه. وقال الثالث: ما رأيت غافلا [6] في غفلته، ولا عاقلا [7] في عقله مثله، لقد كان ينقض جانبا، وهو يظن أنه مبرم، ويغرم [وهو] [8] يظن أنه غانم. وقال الرابع: من جد للدنيا هزلت به، ومن هزل راغبا عنها جدت له. وقال الخامس: ترك هذا [9] الدنيا شاغرة، ورحل عنها بلا زاد، ولا راحلة. وقال السادس: إنَّ ماءً أطفأ هذه النارَ لَعَظِيمٌ، وإن ريحا زعزعت هذا الركن لعصوف. وقال السابع: إنما سلبك من قدر عليك. وقال الثامن: لو كان معتبرا في حياته لما صار عبرة في مماته. وقال التاسع: الصاعد في درجاتها إلى سفال، والنازل في درجاتها إلى معال. وقال العاشر: كيف غفلت عن [كيد] [10] هذا الأمر حتى نفذ فيك، وهلا اتخذت دونه جنة تقيك، إن فيك لعبرة [1] للمعتبرين، وإنك [2] لآية للمستبصرين.







مصادر و المراجع :

١- المنتظم في تاريخ الأمم والملوك

المؤلف: جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي (المتوفى: 597هـ)

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید