المنشورات

أحمد/ بن علي بن ثابت بن أحمد بن مهدي الخطيب ، أبو بكر

 أولد يوم الخميس لست بقين من جمادى الآخرة سنة إحدى وتسعين وثلاثمائة كذا رأيته بخط أبي الفضل بن خيرون، وأول ما سمع الحديث في سنة ثلاث وأربعمائة وهو ابن احدى عشرة سنة وكان أَبُوهُ يَخْطُبُ بدرب ريحان [3] ونشأ أبو بكر ببغداد، وقرأ القرآن والقراءات، وتفقه على أبي الطيب الطبري، وأكثر من السماع من البغداديين، ورحل إلى البصرة، ثم إلى نيسابور، ثم إلى أصبهان، ودخل في طريقه همذان والجبال، ثم عاد إلى بغداد، وخرج إلى الشام، وسمع بدمشق وصور، ووصل إلى مكة، وقد حج في تلك السنة أَبُو عَبْد اللَّهِ مُحَمَّد بْن سلامة [القضاعي] [4] فسمع منه، وقرأ «صحيح البخاري» على كريمة بنت أحمد المروزية في خمسة أيام، ورجع إلى بغداد، فقرب من أبي القاسم ابن المسلمة [5] الوزير، وكان قد أظهر بعض اليهود كتابا وادعى أنه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسقاط الجزية عن أهل خيبر، وفيه شهادات الصحابة، وأن خط علي بن أبي طالب فيه، فعرضه رئيس الرؤساء [ابن المسلمة] [6] على أبي بكر الخطيب، فقال:
هذا مزور. قيل: من أين لك؟ قَالَ: في الكتاب [7] شهادة معاوية بن أبي سفيان، ومعاوية أسلم يوم الفتح، وخيبر كانت في سنة سبع، وفيه شهادة سعد بن معاذ وكان قد مات يوم الخندق [8] . فاستحسن ذلك منه، فلما جاءت نوبة البساسيري استتر الخطيب، وخرج من بغداد إلى الشام، وأقام بدمشق، ثم خرج إلى صور، ثم إلى طرابلس، ثم إلى 64/ ب حلب، ثم عاد/ إلى بغداد في سنة اثنتين وستين، وأقام بها سنة ثم توفي.
فروى «تاريخ بغداد» و «سنن أبي داود» وغير ذلك، وانتهى إليه علم الحديث [1] ، وصنف فأجاد، فله ستة وخمسون مصنفا بعيدة المثل منها: «تاريخ بغداد» ، «وشرف أصحاب الحديث» ، و «كتاب الجامع لأخلاق الراويّ وآداب السامع» ، و «الكفاية في معرفة أصول علم الرواية» ، و «كتاب المتفق والمفترق» ، و «كتاب السابق واللاحق» ، و «تلخيص المتشابه في الرسم» ، و «كتاب باقي التلخيص» ، و «كتاب الفصل والوصل» ، والمكمل في بيان المهمل» ، و «الفقه والمتفقه» ، و «كتاب غنية المقتبس في تمييز الملتبس» ، و «كتاب الأسماء المبهمة والأنباء المحكمة» ، و «كتاب الموضح أوهام الجمع والتفريق» ، و «كتاب المؤتنف بكلمة المختلف والمؤتلف» ، و «كتاب لهج الصواب في أن التسمية من فاتحة الكتاب» ، و «كتاب الجهر بالبسملة» ، و «كتاب رافع الارتياب في المقلوب من الأسماء والألقاب» ، و «كتاب القنوت» ، و «كتاب التبيين لأسماء المدلسين» ، و «كتاب تمييز المزيد في متصل الأسانيد» ، و «كتاب من وافق كنيته اسم أبيه» ، و «كتاب من حدّث فنسي» ، و «كتاب رواية الآباء عن الأبناء» ، و «كتاب الرحلة» ، و «كتاب الرواة عن مالك» ، و «كتاب الاحتجاج عن الشافعي [2] فيما أسند إليه والرد على الطاعنين بجهلهم عليه» ، و «كتاب التفصيل لمبهم المراسيل» ، و «كتاب اقتفاء العلم بالعمل» ، و «كتاب تقييد العلم» ، و «كتاب القول في علم النجوم» ، و «كتاب روايات الصحابة عن التابعين» ، و «كتاب صلاة التسبيح» ، و «كتاب مسند 65/ أنعيم بن حماد» ، و «كتاب النهي عن صوم يوم الشك» / و «كتاب الإجازة للمعدوم والمجهول» ، و «كتاب روايات السنة من التابعين» ، و «كتاب البخلاء» .
فهذا الذي ظهر لنا من مصنفاته، ومن نظر فيها عرف قدر الرجل وما هيئ له مما لم يتهيأ لمن كان أحفظ منه كالدارقطني وغيره.
وقد روى لنا عن أبي الحسين بن الطيوري أنه قَالَ: أكثر كتب الخطيب مستفادة من كتب الصوري، ابتدأ بهما.
قَالَ المصنف: وقد يضع الإنسان طريقا فتسلك، وما قصر الخطيب علي كل حال، وكان حريصا على علم الحديث، وكان يمشي في الطريق وفي يده جزء يطالعه، وكان حسن القراءة، فصيح اللهجة، وعارفا بالأدب، يقول الشعر الحسن.
أنبأنا أبو الحسن محمد بن أحمد بن إبراهيم الصائغ قَالَ: أنبأنا أبو بكر الخطيب أنه قَالَ لنفسه:
لعمرك ما شجاني رسم دار ... وقفت به ولا ذكر المغاني
ولا أثر الخيام أراق دمعي ... لأجل تذكري عهد الغواني
ولا ملك الهوى يوما قيادي ... ولا عاصيته فثنى عناني
عرفت فعاله بذوي التصابي ... وما يلقون من ذل الهوان
فلم أطمعه في وكم قتيل ... له في الناس ما يحصى وعان
طلبت أخا صحيح الود محضا ... سليم الغيب مأمون اللسان
فلم أعرف من الإخوان إلا ... نفاقا في التباعد والتداني
وعالم دهرنا لا خير فيه ... ترى صورا تروق بلا معاني
ووصف جميعهم هذا فما أن ... أقول سوى فلان أو فلان
/ ولما لم أجد حرا يؤاتي ... على ما ناب من صرف الزمان 65/ ب
صبرت تكرمًا لفراغ دهري ... ولم أجزع لما منه دهاني
ولم أك في الشدائد مستكينا ... أقول لها ألا كفي كفاني
ولكني صليب العود عود ... ربيط الجأش مجتمع الجنان
أَبِيُّ النفس لا أختار رزقا ... يجيء بغير سيفي أو سناني
لعز في لظى باغية يشوى [1] ... ألذ من المذلة في الجنان
ومن طلب المعالي وابتغاها ... أدار لها رحى الحرب العوان
قَالَ المصنف رحمة الله: هذه الأبيات نقلتها من خط أبي بكر قالها لنفسه، وله أشعار كثيرة، وكان أبو بكر الخطيب قديما على مذهب أحمد بن حنبل، فمال عليه أصحابنا لما رأوا من ميله إلى المبتدعة وآذوه، فانتقل إلى مذهب الشافعي رضي الله عنه [1] وتعصب في تصانيفه عليهم فرمز إلى ذمهم، وصرح بقدر ما أمكنه، فقال في ترجمة أحمد بن [حنبل] [2] سيد المحدثين، وفي ترجمة الشافعي: تاج الفقهاء، فلم يذكر أحمد بالفقه.
وحكى في ترجمة حسين الكرابيسي أنه قَالَ عن أحمد: أيش نعمل بهذا الصبي إن قلنا لفظنا بالقرآن مخلوق، قَالَ: بدعة وإن قلنا غير مخلوق، قَالَ: بدعة، ثم التفت إلى أصحاب أحمد فقدح فيهم بما أمكن.
وله دسائس في ذمهم عجيبة [3] من ذلك: أنه ذكر مهنأ بن يحيى وكان من كبار أصحاب أحمد، وذكر عن الدار الدارقطني أنه قَالَ: مهنأ ثقة نبيل، وحكى بعد ذلك عن 66/ أأبي/ الفتح الأزدي أنه قَالَ: مهنأ منكر الحديث، وهو يعلم أن الأزدي مطعون فيه عند الكل.
قَالَ الخطيب: حدثني أبو النجيب عبد الغفار بن عبد الواحد الأرموي قَالَ: رأيت أهل الموصل يهينون أبا الفتح الأزدي ولا يعدونه شيئا.
قَالَ الخطيب: حدثني محمد بن صدقة الموصلي: أن أبا الفتح قدم بغداد على ابن بويه، فوضع له حديثا: أن جبريل عليه السلام كان ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم في صورنا، فأعطاه دراهم أفلا يستحي الخطيب أن يقابل قول الدار الدارقطني في مهنا بقول هذا، ثم لا يتكلم عليه هذا ينبئ عن عصبية وقلة دين.
قَالَ الخطيب على أبي الحسن التميمي بقول أبي القاسم عبد الواحد بن علي الأسدي وهو ابن برهان، وكان الأسدي معتزليا، وقد انتصرت للتميمي من الخطيب في ترجمته وقال [1] الخطيب علي أبي عبد الله بن بطة بعد أن ذكر عن القاضي أبي حامد الدلوي والعتيقي: أنه كان صالحا مستجاب الدعوة، ثم عاد يحكى عن أبي ذر الهروي وهو أول من أدخل الحرم مذهب الأشعري القدح في ابن بطة، ويحكى عن أبي القاسم بن برهان القدح فيه، وقد انتصرت لابن بطة من الخطيب في ترجمته، ومال الخطيب علي أبي علي بن المذهب بما لا يقدح عند الفقهاء، وإنما يقدح ما ذكره في قلة فهمه، وقد ذكرت ذلك في ترجمة ابن المذهب.
/ وكان في الخطيب شيئان أحدهما: الجري على عادة عوام المحدثين في الجرح 66/ ب والتعديل، فإنهم يجرحون بما ليس يجرح، وذلك لقلة فهمهم، والثاني: التعصب على مذهب أحمد وأصحابه، وقد ذكر في كتاب «الجهر» أحاديث نعلم أنها لا تصح، وفي كتاب «القنوت» أيضا، وذكر في مسألة صوم يوم الغيم [2] حديثا يدرى أنه موضوع فاحتج به، ولم يذكر عليه شيئا، وَقَدْ صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ رَوَى حَدِيثًا يَرَى أَنَّهُ كَذِبٌ فَهُوَ أَحَدُ الكاذبين [3] » .
وقد كشفت عن جميع ذلك في كتاب «التحقيق في أحاديث التعليق» وتعصبه على ابن المذهب ولأهل البدع مألوف منه، وقد بان لمن قبلنا.
فأنبأنا أبو زرعة طاهر بن محمد بن طاهر المقدسي، عن أبيه قَالَ: سمعت إسماعيل بن أبي الفضل القومسي وكان من أهل المعرفة بالحديث يقول: ثلاثة من الحفاظ لا أحبهم لشدة تعصبهم وقلة إنصافهم: الحاكم أبو عبد الله، وأبو نعيم الأصبهاني، وأبو بكر الخطيب.
قَالَ المصنف: لقد صدق إسماعيل وقد كان من كبار الحفاظ ثقة صدوقا، له معرفة حسنة بالرجال والمتون، غزير الديانة، سمع أبا الحسين بن المهتدى، وجابر بن ياسين، وابن النقور وغيرهم، وقال الحق، فإن الحاكم كان متشيعا ظاهر التشيع، والآخران كانا يتعصبان للمتكلمين والأشاعرة، وما يليق هذا بأصحاب الحديث، لأن 67/ أالحديث جاء في ذم الكلام، وقد أكد الشافعي في هذا حتى/ قَالَ: رأيي في أصحاب الكلام [1] أن يحملوا على البغال ويطاف بهم.
وكان للخطيب شيء من المال، فكتب إلى القائم بأمر الله: إني إذا مت كان مالي لبيت المال، وإني استأذن أن أفرقه على من شئت. فأذن له ففرقه على أصحاب الحديث، وكان مائتي دينار، ووقف كتبه على المسلمين، وسلمها إلى أبي الفضل، فكان يعزها، ثم صارت إلى ابنه الفضل فاحترقت في داره.
ووصى الخطيب أن يتصدق بجميع ما عليه من الثياب، وكان يقول: شربت ماء زمزم لثلاث [2] : على نية أن أدخل بغداد، وأروى بها التاريخ، وأن أموت بها وأدفن إلى جنب [3] بشر بن الحارث، وقد رزقني الله تعالى دخولها، ورواية التاريخ بها، وأنا أرجو الثالثة، وأوصى أن يدفن إلى جانب بشر.
توفي ضحوة نهار يوم الاثنين سابع ذي الحجة من هذه السنة في حجرة كان يسكنها بدرب السلسلة في جوار المدرسة النظامية، وحمل جنازته أبو إسحاق الشيرازي، وعبر به على الجسر، وجازوا به في الكرخ [4] ، وحمل إلى جامع المنصور، وحضر الأماثل والفقهاء والخلق الكثير، وصلى عليه أبو الحسين بن المهتدى، ودفن إلى جانب بشر، وكان أحمد بن علي الطريثيثي قد حفر هناك قبرًا لنفسه، فكان يمضي إلى ذلك الموضع ويختم فيه القرآن عدة سنين، فلما أرادوا دفن الخطيب هناك منعهم، وقال: هذا قبري أنا حفرته وختمت فيه القرآن عدة دفعات [5] ولا أمكنكم. فقال له أبو سعد الصوفي: يا شيخ/ لو كان بشر الحافي في الحياة ودخلت أنت والخطيب عليه [1] 67/ ب أيكما كان يقعد إلى جانبه، فقال: الخطيب. فقال: كذا ينبغي أن يكون في حالة الموت. فطاب قلبه ورضي فدفن الخطيب هناك.






مصادر و المراجع :

١- المنتظم في تاريخ الأمم والملوك

المؤلف: جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي (المتوفى: 597هـ)

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید