المنشورات

عبد الملك بن عبد الله بن يوسف، أبو المعالي الجويني، الملقب: إمام الحرمين

من أهل نيسابور، و «جوين» قرية من قرى نيسابور، ولد سنة سبع عشرة وأربعمائة، وتفقه في صباه على والده وله دون العشرين سنة، فأقعده مكانه للتدريس [1] [فأقام التدريس] [2] ، وسمع الحديث الكثير في البلاد، وفي بغداد من أبي محمد الجوهري، وروى عنه شيخنا زاهر بن طاهر الشحامي، وخرج إلى الحجاز فأقام بمكة أربع سنين، وعاد إلى نيسابور فجلس للتدريس ثلاثين سنة، وقد سلم إليه التدريس والمحراب والمنبر والخطابة ومجلس التذكير يوم الجمعة، وكان يحضر درسه كل يوم نحو ثلاثمائة، وتخرج به جماعة من الأكابر [3] ، حتى درسوا في حياته، وصرف أكثر عنايته في آخر عمره إلى تصنيف الكتاب الذي سماه: «نهاية المطلب في دراية المذهب» وكان الشيخ أبو [4] إسحاق يقول له: أنت إمام الأئمة. 118/ ب وكان الجويني قد بالغ في الكلام، وصنف الكتب الكثيرة فيه، ثم رأى أن مذهب السلف أولى، فروى عنه أبو جعفر الحافظ أنه قَالَ: ركبت البحر الأعظم، وغصت في الّذي نهى عنه [5] أهل الإسلام كل ذلك في طلب الحق، وكنت أهرب في سالف الدهر من التقليد، والآن فقد رجعت عن الكل إلى كلمة الحق، عليكم بدين العجائز، فإن لم يدركني الحق بلطف بره وإلا فالويل لابن الجويني.
وأنبأنا أبو زرعة، عن أبيه محمد بن طاهر المقدسي قَالَ: سمعت أبا الحسن القيرواني وكان يختلف إلى درس أبي المعالي الجويني يقرأ عليه الكلام يقول: سمعت أبا المعالي اليوم يقول: يا أصحابنا، لا تشتغلوا بالكلام، فلو علمت أن الكلام يبلغ إلى ما بلغ ما اشتغلت به.
قَالَ المصنف رحمه الله: وشاع عن أبي المعالي أنه كان يقول إن الله يعلم جمل الأشياء ولا يعلم التفاصيل، فوا عجبا! أترى التفاصيل يقع عليها اسم شيء أو لا؟ فإن وقع عليها اسم شيء فقد قال الله وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ 2: 29 [6] وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ 21: 81 [7] .
ونقلت من خط أبى الوفاء بن عقيل قَالَ: قدم أبو المعالي الجويني بغداد أول ما دخل الغز، وتكلم في أبي إسحاق، وأبي نصر بن الصباغ، وسمعت كلامه قَالَ: وذكر الجويني في بعض كتبه ما خالف به إجماع الأمة، فقال: إن الله تعالى يعلم المعلومات 119/ أمن طريق الجملة لا من طريق التفصيل. قَالَ: وذكر لي الحاكي عنه وهو من الفضلاء: من مذهبه أنه ذكر على ذلك شبهات سماها حججا برهانية. قَالَ ابن عقيل:
فقلت له: يا هذا، تخالف نص الكتاب، قَالَ الله تعالى: وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ 6: 59 [1] وقال:
يَعْلَمُ ما في أَنْفُسِكُمْ 2: 235 [2] وَيَعْلَمُ ما في الْأَرْحامِ 31: 34 [3] ويَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى 20: 7 [4] وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ 2: 29 [5] ثم انتقل إلى بيان علم ما لم يكن أن لو كان كيف كان يكون فقال لَوْ رُدُّوا لَعادُوا 6: 28 [6] وهذا من جهة السمع، فأما من جهة العقل فإنه خلق جميع الأشياء الكليات والجزئيات، وهذا غاية الدليل على الإحاطة بتفاصيل أحوالها، ومعلوم أن دقائق حكمته المدفونة في النحل وهو ذباب من سمع وبصر [وتهد] [7] إلى دقائق الإتقان في عمل البيوت والادخار للأقوات ما يبطل هذا، ولو صح ما قَالَ كانت الجزئيات في حيز الإهمال، ومن نفي عن نفسه الجهل وأثبت لها العلم كيف يقال فيه هذا. وقد عجبت من تهجمه بمثل هذا، وهذه المقالة غاية الضلالة، هذا كله كلام ابن عقيل.
وحكى هبة الله بن المبارك السقطي قَالَ: قَالَ لي محمد بن الخليل البوشنجي:
حدثني محمد بن علي الهريري وكان تلميذ أبي المعالي الجويني قَالَ: دخلت عليه في مرضه الذي مات فيه وأسنانه تتناثر من فيه ويسقط منه الدود لا يستطاع شم فيه [8] ، فقال:
هذا عقوبة تعرضي بالكلام فاحذره.
مرض الجويني أياما، وكان مرضه غلبة الحرارة وحمل إلى بشتنقان لاعتدال 119/ ب الهواء فزاد ضعفه، وتوفي ليلة الأربعاء بعد العشاء الخامس والعشرين من ربيع الآخر من هذه السنة عن تسع وخمسين سنة، ونقل في ليلته إلى البلد، ودفن في داره، ثم نقل بعد سنين إلى مقبرة الحسين فدفن إلى جانب والده، وكان أصحابه المقتبسون من علمه نحو أربعمائة يطوفون في البلد وينوحون [1] عليه.





مصادر و المراجع :

١- المنتظم في تاريخ الأمم والملوك

المؤلف: جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي (المتوفى: 597هـ)

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید