المنشورات

الحسن بن علي بن إسحاق بن العباس، أبو علي الطوسي، الملقب: نظام الملك وزير السلطانين ألب أرسلان وولده ملك شاة نسقا متتاليا تسعا وعشرين سنة

ولد بطوس، وكان من أولاد الدهاقين وأرباب الضياع بناحية بيهق، كان عالي الهمة إلا أنه كان فقيرا مشغولا بالفقه والحديث، ثم اتصل بخدمة أبي علي بن شاذان المعتمد عليه ببلخ، فكان يكتب له، وكان يصادره كل سنة، فهرب منه فقصد داود بن ميكائيل والد السلطان ألب أرسلان، وعرفه رغبته في خدمته، فلما دخل عليه أخذ بيده فسلمه إلى ولده ألب أرسلان، وقال: هذا حسن الطوسي، فتسلمه واتخذه والدا لا تخالفه، وقيل: بل خدم ابن شاذان/ إلى أن توفي فأوصى به إلى ألب أرسلان فلما صار 146/ أالملك إِلَى ألب أرسلان [1] دبر له الملك فأحسن التدبير، فبقي في خدمته عشر سنين ثم مات، وازدحم أولاده على الملك، وطغى الخصوم، فدبر الأمور، ووطد الملك لملك شاة فصار الأمر كله إليه وليس للسلطان إلا التخت والصيد، فبقي على هذه عشرين سنة ودخل على المقتدي، فأذن له في الجلوس بين يديه وقال له: يا حسن رضي الله عنك برضا أمير المؤمنين وأهل الدين [2] عنك، وكان مجلسه عامرا بالفقهاء وأئمة المسلمين وأهل التدين حتى كانوا يشغلونه عن مهمات الدولة، فقال له بعض كتابه: هذه الطائفة من العلماء قد بسطتهم في مجلسك حتى شغلوك عن مصالح الرعية ليلا ونهارا، فإن تقدمت أن لا يوصل أحد منهم [3] إلا بإذن، وإذا وصل جلس بحيث لا يضيق عليك مجلسك. فقال: هذه الطائفة أركان الإسلام، وهم جمال الدنيا والآخرة، ولو أجلست كلا منهم على رأسي لاستقللت لهم ذلك [4] .
وكان إذا دخل عليه أبو القاسم القشيري وأبو المعالي الجويني يقوم لهما ويجلسهما في مسند ويجلس في المسند على حالته.
فإذا دخل عليه أبو علي الفارمذي قام وأجلسه في مكانه وجلس بين يديه، فامتعض من هذا الجويني فقال لحاجبه في ذلك فأخبره، فقال: هو والقشيري وأمثالهما قالوا لي: أنت أنت، وأطروني بما ليس في، فيزيدني كلامهم تيها، والفارمذي يذكر لي عيوبي، وظلمي فأنكر [5] وأرجع عن كثير مما أنا فيه. وكان المتصوفة تنفق عليه حتى إنه أعطى بعض متمنيهم [6] في مرات ثمانين ألف دينار.
أنبأنا علي بن عبيد الله عن أبي محمد التميمي قَالَ: سالت نظام الملك عن سبب 146/ ب تعظيمه الصوفية فقال: أتاني صوفي وأنا في خدمة/ بعض الأمراء، فوعظني وقال:
أخدم من تنفعك خدمته، ولا تشتغل بما تأكله الكلاب غدا فلم أعرف معنى قوله، فشرب ذلك الأمير من الغد، وكانت له كلاب كالسباع تفرس الغرباء بالليل، فغلبه السكر وخرج وحده فلم تعرفه الكلاب فمزقته، فعلمت أن الرجل كوشف بذلك فأنا أطلب أمثاله.
وكان للنظام من المكرمات ما لا يحصى كلما سمع الأذان أمسك عما هو فيه، وكان يراعي أوقات الصلوات، ويصوم الاثنين والخميس، ويكثر الصدقة، وكان له الحلم والوقار وأحسن خلاله مراعاة العلماء، وتربية العلم، وبناء المدارس والمساجد والرباطات والوقوف عليها، وأثره العجيب ببغداد هذه المدرسة وسقوفها الموقوف عليها، وفي كتاب شرطها أنها وقف على أصحاب الشافعي أصلا وفرعا، وكذلك الأملاك الموقوفة عليها شرط فيها أن يكون على أصحاب الشافعي أصلا وفرعا، وكذلك شرط في المدرس الذي يكون بها والواعظ الذي يعظ بها ومتولي الكتب، وشرط أن يكون فيها مقرئ القرآن، ونحوي يدرس العربية، وفرض لكل قسطا من الوقف، وكان يطلق ببغداد كل سنة من الصلات مائتي كر، وثمانية عشر ألف دينار.
ولما طالت ولايته تقررت قواعده قبل قدره، ولما عبر في جيحون [1] وقع للملاحين بأجرتهم على عامل أنطاكية بعشرة آلاف دينار، وملك من الغلمان الأتراك ألوفا، وحدث بمرو، ونيسابور، والري، وأصبهان، وبغداد، وأملى في جامع المهدي، وفي مدرسته، وكان يقول: إني لأعلم أنى لست أهلا للرواية، ولكني أريد أن أربط نفسي على قطار النقلة لحديث/ رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وحدث عنه جماعة من شيوخنا منهم أبو الفضل الأرموي، وآخر من روى عنه أبو القاسم العكبري، وكان النظام يقول: كنت أتمنى أن يكون لي قرية ومسجد أتخلى فيه بطاعة ربي، ثم تمنيت بعد ذلك قطعة من الأرض بشربها أقوت برفعها، وأتخلى في مسجد في جبل، ثم الآن أتمنى أن يكون لي رغيف كل يوم وأتعبد [2] في مسجد. 
وقال: رأيت إبليس في النوم-[1] فقلت له: ويلك، خلقك الله ثم أمرك بسجدة فلم تفعل، وأنا الحسن أمرني بالسجود فأنا أسجد له كل يوم سجدات فقال:
من لم يكن للوصال أهلا ... فكل إحسانه ذنوب
وكان له أولاد جماعة وزر منهم خمسة للسلاطين، وزر أحمد بن النظام لمحمد ابن ملك شاة وللمسترشد، خرج النظام مع ملك شاة يقصد العراق من أصفهان يوم الخميس غرة رمضان وكان آخر سفرة سافرها فلما أفطر ركب في محفة وسير به فبلغ إلى قرية قريبة من نهاوند فقال: هذا الموضع قتل فيه جماعة من الصحابة زمن عمر، فطوبى لمن كان معهم [2] ، فقتل تلك الليلة اعترضه صبي ديلمي على صفة الصوفية معه قصة، فدعا له وسأل تناولها فمد يده ليأخذها فضربه بسكين في فؤاده، فحمل إلى مضربه فمات، وقتل القاتل في الحال بعد أن هرب فعثر بطنب خيمة فوقع، فركب السلطان إلى معسكره فسكنهم، وذلك في ليلة السبت عاشر رمضان، وكان عمره ستا وسبعين سنة، وعشرة أشهر، وتسعة عشر يوما.
وشاع بين الناس أن السلطان سئم طول عمره وصور له أعداؤه كثرة ما يخرج من الأموال، وقد كان عثمان بن النظام رئيس مرو فأنفذ السلطان مملوكا له كبيرا قد جعله شحنة فاختصما، فقبض عليه عثمان وأخرق به، فلما أطلقه/ قصد السلطان مستغيثا، 147/ ب فاستدعى السلطان أرباب الدولة وقال: امضوا إلى خواجه حسن وقولوا له إن كنت شريكي في الملك فلذلك حكم، وان كنت تابعي فيجب أن تلزم حدك، وهؤلاء أولادك قد استولوا على الدنيا، ولا يقنعهم حتى يخرجوا من الحرمة [3] . فلما أبلغوه قَالَ لهم:
قولوا له أما علم أني شريكه في الملك، وأنه ما بلغ إلا بتدبيري، أو ما يذكر حين قتل أبوه كيف جمعت الناس عليه، وعبرت بالعساكر النهر، وفتحت الأمصار، وصار الملك بحسن تدبيري بين راج للرأفة ووجل من المخافة، وبعد هذا فقولوا له وعرفوه [4] أن ثبات القلنسوة مصدوق بفتح هذه الدواة، ومتى أطبقت هذه زالت تلك فحكى ذلك للسلطان، فما زال يدبر عليه فيقال إنه ألف عليه بمواطأة تاج الملك أبي الغنائم من قتله، فلم تطل مدة السلطان بعده، وإنما كان بينهما خمسة وثلاثون يوما، فكان في ذلك عبرة، فكان الناس يتحدثون أن السلطان إنما رضي بقتله لأن السلطان كان قد عزم على تشعيث أمر المقتدي، ودبر ذلك تاج الملك وخاتون زوجة السلطان لأنها أرادت من السلطان أن ينص على ولدها محمود فثناه عن رأيه النظام، فخشوا من النظام تثبيطا عن مرادهم.
ووصل نعي نظام الملك إلى بغداد يوم الأحد ثامن عشر رمضان، فجلس عميد الدولة للعزاء به في الديوان ثلاثة أيام، وحضر الناس على طبقاتهم، وخرج التوقيع يوم الثالث. وفي آخره، وفي بقاء معز الدولة [1] مما يجبر المسلمين، ويعضد أمير المؤمنين.
قَالَ المصنف: ونقلت من خط أبى الوفاء بن عقيل قال: رأينا في أوائل أعمارنا [ناسا] [2] طاب العيش معهم، من العلماء والزهاد وأعيان الناس، وأما النظام فإن سيرته بهرت العقول جودا وكرما وحشمة وإحياء لمعالم الدين، فبنى المدارس، ووقف عليها 148/ أالوقوف/ ونعش العلم وأهله، وعمر الحرمين، وعمر دور الكتب، وابتاع الكتب فكانت سوق العلم في أيامه قائمة، والعلماء مستطيلين على الصدور من أبناء الدنيا، وما ظنك برجل كان الدهر في خفارته، لأنه كان قد أفاض من الإنعام ما أرضى الناس، وإنما كانوا يذمون الدهر لضيق أرزاق واختلال أحوال، فلما عمهم إحسانه امسكوا عن ذم زمانهم.
قَالَ ابن عقيل: بلغت كلمتي هذه وهي قوله كان الدهر في خفارته جماعة من الوزراء والعمداء فسطروها [3] واستحسنها العقلاء الذين سمعوها.
قَالَ ابن عقيل: وقلت مرة في وصفه ترك الناس بعده موتى أما أهل العلم والفقراء ففقدوا العيش بعده بانقطاع الأرزاق [1] ، وأما الصدور والأغنياء فقد كانوا مستورين بالغناء عنهم، فلما عرضت [2] الحاجات إليهم عجزوا [3] عن تحمل بعض ما عود [4] من الإحسان، فانكشفت معايبهم من ضيق الصدور [5] ، فهؤلاء موتى بالمنع وهؤلاء موتى بالذم [6] ، وهو حي بعد موته بمدح الناس لأيامه، ثم ختم له بالشهادة فكفاه الله أمر آخرته كما كفى أهل العلم أمر دنياهم، ولقد كان نعمة من الله علي أهل الإسلام فما شكروها فسلبوها.
قَالَ المصنف رحمه الله: وقد رثاه مقاتل بن عطية [المسمى بشبل الدولة] [7] فذكر هذا المعنى:
كان الوزير نظام الملك لؤلؤة ... يتيمة صاغها الرحمان من شرف
عزت فلم تعرف الأيام قيمتها ... فردها غيرة منه إلى الصدف






مصادر و المراجع :

١- المنتظم في تاريخ الأمم والملوك

المؤلف: جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي (المتوفى: 597هـ)

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید