المنشورات

ملك شاه، ويكنى: أبا الفتح بن أبي شجاع محمد ألب أرسلان ابن داود بن ميكائيل بن سلجوق الملقب جلال الدولة

عمر القناطر، وأسقط المكوس والضرائب وحفر الأنهار الخراب، وبنى الجامع الذي يقال له جامع السلطان الّذي يقال له/ انه جدد بناه [1] ببغداد، وبنى مدرسة أبي 149/ أحنيفة والسوق، وبنى منارة القرون من صيودة، وهي التي بظاهر الكوفة، وبنى مثلها وراء النهر، وتذكر ما اصطاده بنفسه، فكان عشرة آلاف فتصدق بعشرة آلاف دينار، وقال: إني خائف من الله سبحانه من إرهاق روح لغير مأكله، وخطب له من أقصى بلاد الترك إلى أقصى بلاد اليمن، وراسله الملوك حتى قَالَ النظام: كم من يوم وقعت بإطلاق إذ مات لرسل ملك الروم، واللان، والخزر، والشام، واليمن، وفارس وغير ذلك. قال:
وإن خرج هذا السلطان في السنة أكثر [2] من عشرين ألف ألف دينار، وكانت السبل في زمانه آمنة، وكانت نيته في الخير جميلة، وكان يقف للمرأة والضعيف ولا يبرح إلا بعد إنصافهم.
ومن محاسن ما جرى له في ذلك أن بعض التجار قَالَ: كنت يوما في معسكره، فركب يوما إلى الصيد، فلقيه سوادي يبكي فقال له: مالك؟ [فقال له] [3] يا خيلباشي كان معي حمل بطيخ هو بضاعتي فلقيني ثلاثة غلمان فأخذوه. فقال له: امض إلى العسكر، فهناك قبة حمراء، فاقعد عندها ولا تبرح إلى آخر النهار، فأنا أرجع وأعطيك ما يغنيك. فلما عاد قَالَ للشرابي قد اشتهيت بطيخا ففتش العسكر وخيمهم ففعل، فأحضر البطيخ فقال: عند من رأيتموه؟ فقال: في خيمة فلان الحاجب. فقال: أحضروه فأحضر [4] فقال له: من أين لك هذا البطيخ؟ فقال: جاء به الغلمان. فقال: أريدهم هذه الساعة. فمضى وقد أحس بالشر، فهرب الغلمان خوفا من ان يقتلهم، وعاد وقال: قد هربوا لما علموا ان السلطان يطلبهم فقال: احضروا السوادي، فأحضر فقال له: هذا بطيخك الذي أخذ منك؟ قَالَ: نعم فقال: هذا الحاجب مملوك أبي ومملوكي، وقد سلمته إليك [و] وهبته لك، ولم يحضر الذين أخذوا مالك، وو الله لئن تركته لا ضربن رقبتك. / فأخذ السوادي بيد الحاجب وأخرجه، فاشترى الحاجب نفسه منه بثلاثمائة 149/ ب دينار، فعاد السوادي إلى السلطان فقال: يا سلطان قد بعت المملوك الذي وهبته لي بثلاثمائة دينار. فقال: قد رضيت بذلك؟ قَالَ: نعم. فقال: اقبضها وامض مصاحبا.
ومن محاسن أفعاله أنه لقي إنسانا تاجرا على عقبة معه بغال عليها متاع فذهب أصحابه ينحون البغال إلى صاحب الخيل، [1] فقال: لا تفعلوا نحن على خيل يمكننا أن نصعد إلى هناك، وهذه البغال عليها أثقال وفي ترقيتها خطر، فصعد على الجادة إلى أن مضى التاجر بأحماله، ثم عاد، ولقي امرأة تمشي فقال لها: إلى أين؟ قالت: إلى الحج. قال: كيف تقدرين على ذلك؟ قالت: أمشي إلى بغداد واطرح نفسي هناك على من يحملني لطلب الثواب، فأخرج ما كان في خريطته من الدنانير فطرحه في إزارها، وقال: خذي هذا فاشتري منه مركوبا، واصرفي بقيته في نفقتك، ولما توجه إلى حرب أخيه تكش اجتاز بمشهد على بن موسى الرضا بطوس فدخل للزيارة ومعه النظام، فلما خرجا قَالَ له: يا حسن، بما دعوت؟ فقال: دعوت الله أن يظفرك بأخيك فقال: إنني لم اسأل ذلك، وإنما قلت: اللَّهمّ إن كان أخي أصلح للمسلمين منى فظفره بي، وإن كنت أصلح لهم فظفرني به.
وجاء إليه تركماني قد لازم تركمانيا فقال له: إني وجدت هذا قد ابتنى بابنتي، وأريد أن تأذن لي في قتله. فقال: لا تقتله ولكنا نزوجها به، ونعطي المهر من خزانتنا عنه. فقال: لا أقنع إلا بقتله. فقال: هاتوا سيفا. فجيء به فأخذه وسله وقال للرجل:
تعال. فتعجب الناس وظنوا أنه يقتل الأب، فلما قرب منه أعطاه السيف وأمسك بيده الجفن، وأمره أن يعيد السيف إلى الجفن فكلما رام [2] الرجل ذلك قلب السلطان 150/ أالجفن فلم يمكنه من إدخال السيف فيه، فقال: ما لك لا تدخل السيف؟ / فقال: يا سلطان، ما تدعني. فقال: كذلك ابنتك لو لم ترد ما فعل بها هذا الرجل، ولما أمكنه غصبها وقهرها، فإن كنت تريد قتله [لأجل فعله] [3] فاقتلهما جميعا، فبقى الرجل لا يرد جوابا، وقال: الأمر للسلطان. فأحضر من زوجه بها [4] وأعطى المهر من الخزانة.
ودخل على هذا السلطان واعظ فحكى له أن بعض الأكاسرة انفرد عن عسكره،فجاز على بستان فطلب منه ماء ليشرب، فأخرجت له صبية إناءً فيه ماء قصب السكر والثلج فشربه، فاستطابه فقال: هذا كيف يعمل؟ فقالت: من قصب السكر يزكو عندنا حتى نعصره بأيدينا فيخرج منه هذا الماء. فقال: احضريني شيئا آخر منه [فمضت وهي لا تعرفه] [1] فنوى في نفسه اصطفاء المكان لنفسه وتعويضهم عنه، فما كان بأسرع من أن خرجت باكية فقال لها: ما لك؟ فقالت. نية سلطاننا قد تغيرت علينا. فقال لها: من أين علمت؟ قالت كنت آخذ من هذا الماء ما أريد من غير تعسف، والآن فقد اجتهدت في العصر فلم يسمح ببعض ما كان يخرج عفوا. فعلم صدقها فقال: ارجعي الآن فإنك تلقين الغرض، ونوى أن لا يفعل ما عزم عليه، فخرجت ومعها ما شاءت وهي مستبشرة.
فلما حكى الواعظ هذا قَالَ له السلطان: أنت تحكي لي مثل هذا فلم لا تحكي للرعية أن كسرى اجتاز وحده على بستان فقال للناطور: ناولني عنقودا من الحصرم [فقد كظني العطش واستولت على الصفراء] [2] فقال له: ما يمكنني، فإن السلطان لم يأخذ حقه منه فما يمكنني جنايته، فعجب من حضر وكان فيهم نظام الملك، من مقابلة السلطان تلك الحكاية بهذه، واستدلوا على قوة فطنته، وقد سار هذا السلطان من أصبهان إلى أنطاكية، وعاد إلى بغداد، فما نقل أن أحدا من عسكره أخذ شيئا بغير حق ودخل إلى بغداد ثلاث مرات وكان الناس يخافون الغلاء فيظهر الأمر/ بخلاف ما ظنوا، وكانت 150/ ب السوقة تخترق عسكره ليلا ونهارا، والسوادي يطوف بالتين والدجاج في وسط العسكر ولا يخافون ولا يبيعون إلا بما يريدون. وتقدم بترك المكوس فقال له أحد المستوفين يا سلطان، العام قد أسقطت من خزائن أموالك ستمائة ألف ونيفا فيما هذا سبيله، فقال:
المال مال الله، والعبيد عبيده، والبلاد بلاده، وإنما يبقى في ذلك، فمتى راجعني أحد في ذلك تقدمت بضرب عنقه.
وذكر هبة الله بن المبارك بن يوسف السقطى في تاريخه قَالَ: حدثني عبد السميع بن داود العباسي قَالَ: قصد ملك شاه رجلان من أهل البلاد السفلي من أرض العراق يعرفان: بابني غزال، من قرية تعرف بالحدادية، فتعلقا بركابه وقالا: نحن من أسفل واسط من قرية تعرف بالحدادية [1] ، مقطعة لخمارتكين الحلبي، صادرنا على ألف وستمائة دينار، وكسر ثنيتي أحدنا والثنيتان بيده، وقد قصدناك أيها الملك لتقتص لنا منه، فقد شاع من عدلك ما حملنا على قصدك، فإن أخذت بحقنا كما أوجب الله عليك وإلا فاللَّه الحاكم بالعدل بيننا. وفسر على السلطان ما قالاه. قَالَ عبد السميع:
فشاهدت السلطان وقد نزل عن فرسه وقال: ليمسك كل واحد منكما بطرف كمي واسحباني إلى دار حسن هو نظام الملك [فأفزعهما] [2] ذلك، ولم يقدما عليه، فأقسم عليهما إلا فعلا، فأخذ كل واحد منهما بطرف كمه وسارا به إلى باب النظام، فبلغه الخبر، فخرج مسرعا وقبل الأرض بين يديه وقال أيها السلطان المعظم، ما حملك على هذا؟ فقال: كيف يكون حالي غدا بين يدي الله [3] إذا طولبت بحقوق المسلمين وقد قلدتك هذا الأمر لتكفيني مثل هذا الموقف، فان تطرق على الرعية ثلم لم يتطرق إلا بك وأنت المطالب، فانظر بين يديك، فقبل/ الأرض وسار في خدمته، وعاد من وقته، فكتب بعزل خمارتكين وحل إقطاعه، ورد المال إليها [4] وقلع ثنيتيه إن ثبت عليه البينة، ووصلهما بمائة دينار، وعادا من وقتهما.
واستحضر ملك شاه مغنية مستحسنة بالري فأعجبته بغنائها واستطابه، فتاقت نفسه إليها فقالت له: يا سلطان، إني أغار على هذا الوجه الجميل أن يعذب بالنار وإن بين الحلال والحرام كلمة. فقال: صدقت. واستدعى القاضي فزوجه إياها وكان هذا السلطان قد أفسد عقيدته الباطنية، ثم رجع إلى الصلاح.
قَالَ المصنف: نقلت من خط ابن عقيل قَالَ: كان الجرجاني الواعظ مختصا بجلال الدولة فاستسرني أن الملك قد أفسده الباطنية، فصار يقول لي: أيش هو الله؟
وإلى ما تشيرون بقولكم الله؟ فبهت وأردت جوابا حسنا فكتبت: اعلم أيها الملك أن هؤلاء العوام والجهال يطلبون الله من طريق الحواس، فإذا فقدوه جحدوه، وهذا لا يحسن بأرباب العقول الصحيحة، وذلك أن لنا موجودات ما نالها الحس، ولم يجحدها العقل، ولم يمكننا جحدها لقيام دلالة العقل على إثباتها، فان قَالَ لك أحد من هؤلاء: لا يثبت إلا ما نرى فمن هاهنا دخل الإلحاد على جهال العوام الذين يستثقلون الأمر والنهي، وهم يرون أن لنا هذه الأجساد الطويلة العميقة التي تنمي ولا يعد [1] وتقبل الأغذية وتصدر عنها الأعمال المحكمة كالطب، والهندسة، فعلموا أن ذلك صادر عن أمر وراء هذه الأجساد المستحيلة وهو الروح والعقل، فإذا سألناهم هل أدركتم هذين الأمرين بشيء من إحساسكم؟ قالوا: لا لكنا أدركناهما من طريق الاستدلال بما صدر عنهما من التأثيرات. قلنا: فما بالكم جحدتم الإله حيث فقدتموه حسا مع ما صدر عنه من إنشاء الرياح والنجوم، وإدارة الأفلاك، وإنبات الزرع، وتقليب الأزمنة؟ وكما أن لهذا الجسد روحا وعقلا بهما قوامه، ولا يدركهما الحس، لكن شهدت بهما أدلة العقل من حيث الآثار، كذلك الله سبحانه وتعالي، وله المثل الأعلى، ثبت بالعقل لمشاهدة الإحساس من آثار صنائعه، وإتقان أفعاله. قَالَ: فحكى لي أنه أعاده عليه فاستحسنه، وهش إليه، ولعن أولئك، وكشف إليه ما يقولون له [2] ثم إن السلطان ملك شاه قدم بغداد وبعت إلى الخليفة يقول له: تنح عن بغداد. فقال: أجلني عشرة أيام على ما سبق ذكره في حوادث [السنين] [3] فتوفي السلطان في ليلة الجمعة النصف من شوال، وقد ذكروا في سبب موته ثلاثة أقوال: أحدها: أنه خرج إلى الصيد بعد صلاة العيد فأكل من لحم الصيد وافتصد فحم فمات. والثاني: أنه طرقته حمى حادة فمات.
والثالث: أن خردك سمه في خلال هلك به، وكان عمره سبعا وثلاثين سنة، ومدة ملكه تسع عشرة سنة وأشهر، ودفن في الشونيزية، ولم يصل عليه أحد.






مصادر و المراجع :

١- المنتظم في تاريخ الأمم والملوك

المؤلف: جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي (المتوفى: 597هـ)

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید