المنشورات

دخول السلطان محمد إلى بغداد

وفي ربيع الآخر: دخل السلطان محمد إلى بغداد واصطاد في طريقه صيدا كثيرا، وبعث أربع جمازات عليها أربعون ظبيا هدية إلى دار الخلافة، وكان على الظباء وسم السلطان جلال الدولة ملك شاه فإنه كان يصيد الغزلان فيسمها ويطلقها.
ومضى الوزير أبو المعالي في الموكب لخدمة السلطان وحمل معه شيئا من ملابس الخليفة، وأخرج مجلدا بخط الخليفة يشتمل على دعاء رواه العباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقام السلطان فدعا وشكر هذا الاهتمام، وانصرف الوزير وصاحب المخزن إلى دار نظام الملك وقد كان حاضرا أداء الرسالة إلى السلطان لكنه سبق إلى داره، فأدى الوزير رسالة عن الخليفة تتضمن مدح بيته وسلفه، فقام وقبل الأرض ودعا وشكر، وخرج السلطان إلى مشهد أبي حنيفة فدخل فاجتمع إليه الفقهاء، فقال: هذا يوم قد انفردت فيه مع الله تعالى فخلوا بيني وبين المكان، فصعدوا إلى أعاليه، فأمر غلمانه بغلق الأبواب، وأن لا يمكنوا الأمراء من الدخول، وأقام يصلي ويدعو ويخشع، وأعطاهم خمسمائة دينار، وقال: اصرفوا هذه في مصالحكم وادعوا لي. ومرض نحو عشرة من غلمانه الصغار، فبعث بهم المتولى لأمورهم إلى المارستان، فلما علم بعث مائة دينار فصرفت في مصالح المكان، وخرج يوما فرأى الفقهاء حول داره وهم نحو من أربعمائة، فأمر بكسوتهم جميعا، وحملت إليه قسي بندق فلما رآها قال: قد ذكرت بها شيخا من الأتراك قد تعطل فأتوه به فأعطاه ثلاثين دينارا، وكان أصحابه لا يظلمون أحدا ولا يتعرضون بأذى، ولقد جاء بعض الصبيان الأتراك إلى بعض البيادر فقال: بيعوني تبنا، فقالوا: التبن عندنا مبذول للصادر والوارد فخذ منه ما أحببت، فأبى، وقال: ما كنت لأبيع رأسي بمخلاة تبن فإن أخذتم ثمن ذلك وإلا انصرفت، فباعوه بما طلب، ثم كثر الفساد فعاثوا وصعب ضبطهم.
وكان صدقة بن مزيد قد باين هذا السلطان، وكان السبب أن سرخاب الديلمي عصى على السلطان فاستجار بصدقة، فطلبه فامتنع من تسليمه، فسار السلطان إليه وآل الأمر إلى الحرب، وصار مع صدقة أكثر من عشرين ألفا فالتقوا وكانت الوقعة في رجب، فصف صدقة عسكره فجعل في ميمنته ابنه دبيس، وسعيد بن حميد ومعهما خفاجة وجماعة من الأكراد، وفي مقابلتهم من العسكر السلطاني البرسقي والسعدية. وكان في ميسرته ابنه بدران ومعه عبادة بأسرها، وفي مقابلتهم من العسكر السلطاني الأمير أحمد بك وجماعة من الأمراء، وكان سيف الدولة في قلب عسكره ومعه سرخاب الديلمي، وأبو المكارم حماد بن أبي الجبر، فأما خفاجة وعبادة فلزمت مواضعها وحمل قلب عسكر سيف الدولة وحمل معهم فحصلت خيولهم في الطين والماء، وكانت الأتراك تخرج من أيديهم في رمية واحدة عشرة آلاف نشابة، وتقاعد عن صدقة جماعة من العرب فصاح صدقة: يال خزيمة، يال ناشرة، يال عوف، وجعل يقول: أنا تاج الملوك، أنا ملك العرب، فأصابه سهم في ظهره وأدركه غلام اسمه بزغش [1] من السعدية أحد أتباع الأتراك الواسطيين، وهو لا يعرفه، فجذبه عن فرسه فسقطا إلى الأرض جميعا، فقال له صدقة- وهو بارك بين يديه يلهث لهثا شديدا: ارفق. فضربه فرمى قحفه ثم حز رأسه وحمله، وانهزم أصحابه وأسر منهم حماد بن أبي الجبر، ودبيس بن صدقة، وسرخاب الديلمي الذي نشأت الفتنة بسببه، وأخذ دبيس فحلف على خلوص النية، وأطلق وزادت القتلى على ثلاثة آلاف، وأخذ من زوجته خمسمائة دينار وجواهر، وكانت الوقعة بعد صلاة الجمعة تاسع عشر رجب.





مصادر و المراجع :

١- المنتظم في تاريخ الأمم والملوك

المؤلف: جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي (المتوفى: 597هـ)

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید