المنشورات

يحيى بن محمد أبو المظفر ابن هبيرة الوزير

ولد سنة تسع وتسعين وأربعمائة وقرأ بالقراءات وسمع الحديث الكثير وكانت له 83/ أمعرفة حسنة بالنحو واللغة والعروض وتفقه وصنف في تلك العلوم/ وكان متشددا في اتباع السنة وسير السلف ثم أمضه الفقر فتعرض للعمل فجعله المقتفي مشرفا في المخزن ثم رقاه إلى أن صيره صاحب الديوان ثم استوزره فكان يجتهد في اتباع الصواب ويحذر الظلم ولا يلبس الحرير، وقال لي لما رجع من الحلة وكان قد خرج لدفع بعض العصاة [1] دخلت على المقتفي فسلمت فقال ادخل هذا البيت فدخلت فإذا خادم وفراش ومعه خلعة حرير فقلت أنا والله ما ألبس هذا فخرج الخادم فأخبر المقتفي فسمعت صوت المقتفي قد والله قلت أنه ما يلبس وكان المقتفي معجبا به يقول ما وزر لبني العباس مثله.
وكان المستنجد معجبا به وقد ذكر أنه لما ولى المستنجد باللَّه دخل عليه فقال له يكفي في إخلاصي أني ما حابيتك في زمن من أبيك فقال صدقت.
وقال مرجان الخادم: سمعت المستنجد ينشد وزيره أبا المظفر ابن هبيرة، وقد مثل بين يدي السدة الشريفة في أثناء مفاوضة ترجع إلى تقرير قواعد الدين وإصلاح أمر المسلمين وأنشده لنفسه مادحا له:
صفت نعمتان خصتاك وعمتا ... فذكرهما حتى القيامة ينشر
وجودك والدنيا إليك فقيرة ... وجودك والمعروف في الناس ينكر
فلو رام يا يحيى مكانك جعفر ... ويحيى لكفا عنه يحيى وجعفر
/ ولم أر من ينوي لك السوء يا أبا ... المظفر إلا كنت أنت المظفر
83/ ب وكان الوزير مبالغا في تحصيل التعظيم للدولة قامعا للمخالفين بأنواع الحيل حتى حسم أمور السلاطين السلجوقية ولما جلس في الديوان في أول وزارته أحضر رجلان من غلمان الديوان فقال دخلت يوما إلى هذا الديوان فقعدت في مكان فجاء هذا فأقامني [2] فقال قم فليس هذا موضعك. فأقامني فأكرمه وأعطاه. ودخل عليه يوما تركي فقال لحاجبه أما قلت لك أعط هذا عشرين دينارا أو كرا من الطعام وقل له لا يحضرها هنا فقال قد أعطيناه، فقال عد وأعطه وقل له لا تحضر ثم التفت إلى الجماعة فقال لا شك أنكم ترومون سبب هذا فقالوا نعم فقال هذا كان شحنة في القرى فقتل قتيل قريبا من قريتنا فأخذ مشايخ القرى فأخذني مع الجماعة [3] وأمشاني مع الفرس وبالغ في أذاي وأوثقني ثم أخذ من كل واحد شيئا وأطلقه ثم قال لي أيش بيدك؟ فقلت ما معي شيء فانتهرني وقال اذهب. وأنا لا أريد [اليوم] [1] أذاه وأبغض رؤيته.
وكان آخر قد آذاه في ذلك الزمان وضربه فلما ولي الوزارة أحضره وأكرمه وولاه.
وكان يتحدث بنعم الله عليه ويذكر في منصبه شدة فقره القديم فيقول نزلت يوما إلى دجلة وليس معي رغيف أعبر به. وكان يكثر مجالسة العلماء والفقراء وكانت أمواله مبذولة لهم 84/ أوللتدبير فكانت السنة تدور/ وعليه ديون.
وقال: ما وجبت علي زكاة قط وكان إذا استفاد شيئا قال أفادنيه فلان حتى أنه عرض له يوما حديث وهو: «من فاته حزبه بالليل فصلاه قبل الزوال كان كأنه صلاه بالليل» .
فقال: ما أدري ما معنى هذا فقلت له هذا ظاهر في اللغة والفقه أما اللغة: فإن العرب تقول: كنت الليلة إلى وقت الزوال، وأما الفقه: فإن أبا حنيفة يصحح الصوم بنية قبل الزوال فقد جعل ذلك الوقت في حكم الليل فأعجبه هذا القول وكان يقول بين الجمع الكثير ما كنت أعرف ما معنى هذا الحديث حتى عرفنيه فلان فكنت استحيي من الجماعة. وجعل لي مجلسا في داره كل جمعة يحضره ويطلق العوام في الحضور وكان بعض الفقراء يقرأ القرآن في داره فأعجبه فقال لزوجته إني أريد أن أزوجه ابنتي فغضبت الأم ومنعت من ذلك.
وكان يقرأ عنده الحديث في كل يوم بعد العصر فحضر فقيه مالكي فذكرت مسألة فخالف فيها ذلك الفقيه فاتفق الوزير وجميع العلماء على شيء وذلك الفقيه [2] يخالف فبدر من الوزير أن قال له أحمار أنت أما ترى الكل يخالفونك وأنت مصر. فلما كان في اليوم الثاني قال الوزير للجماعة جرى مني بالأمس ما لا يليق بالأدب حتى قلت له تلك [الكلمة] [3] فليقل لي كما قلت له فما أنا إلا كأحدكم، فضج المجلس [4] بالبكاء وأخذ ذلك الفقيه يعتذر ويقول أنا أولى بالاعتذار والوزير يقول القصاص القصاص فقال يوسف الدمشقي يا مولانا إذا أبى القصاص فالفداء. فقال الوزير له حكمه/ فقال الرجل نعمك 84/ ب علي كثيرة فأي حكم [بقي] [1] لي، قال لا بد قال على [بقية دين] [2] مائة دينار، فقال تعطى مائة دينار لإبراء ذمته ومائة لإبراء ذمتي فأحضرت في الحال فلما أخذها قال الوزير عفا الله عنك وعني وغفر لك ولي.
وكان الوزير يتأسف على ماضي زمانه عن تندم ما دخل فيه وقال لي كان عندنا بالقرية مسجد فيه نخلة تحمل ألف رطل فحدثت نفسي أن أقيم في ذلك المسجد وقلت لأخي محب الدين نقعد أنا وأنت وحاصلها يكفينا ثم [أنظر] [3] إلى ماذا صرت.
ثم صار يسأل الله الشهادة ويتعرض بأسبابها. كان الوزير صحيحا ليس به قلبة في يوم السبت ثاني عشر جمادى الأولى من هذه السنة نام ليلة الأحد في عافية فلما كان وقت السحر قاء فحضر طبيب كان يخدمه يقال له ابن رشادة فسقاه شيئا فيقال أنه سمه فمات وسقى الطبيب بعده بنحو ستة أشهر سما فكان يقول سقيت كما سقيت فمات.
قال المصنف رحمه الله: وكنت ليلة موت الوزير نائما بين جماعة من أصحابي على ظهر سطح فرأيت في المنام مع انشقاق الفجر كأني في دار الوزير وهو جالس فدخل رجل بيده حربة فضرب بها بين أنثييه فخرج الدم كالفوارة فضرب الحائط فالتفت فإذا خاتم ذهب ملقى فأخذته بيدي وقلت لمن أعطيه؟ أنتظر خادما يخرج فأسلمه إليه فانتبهت فأخبرت من كان معي فما استتممت الحديث حتى جاء رجل فقال مات الوزير، فقال من معي هذا محال أنا فارقته أمس [4] العصر وهو في كل عافية، فجاء آخر وآخر فصح الحديث/ ونفذ إلى من داره فحضرت فقال لي ولده لا بد أن تغسله فغسلته 85/ أورفعت يده ليدخل الماء في مغابنه فسقط الخاتم من يده فحيث رأيت الخاتم تعجبت من ذلك ورأيت في وقت غسله آثارا بوجهه وجسده تدل على أنه مسموم وحملت جنازته يوم الأحد إلى جامع القصر فصلى عليه ثم حمل إلى مدرسته التي بناها بباب البصرة فدفن بها وغلقت يومئذ أسواق بغداد وخرج جمع لم نره لمخلوق قط في الأسواق وعلى السطوح وشاطئ دجلة وكثر البكاء عليه لما كان يفعله من البر ويظهره من العدل. وقيل في حقه مراث كثيرة فمنها قول نصر البحتري: [1]
ألمم على جدث حوى ... تاج الملوك وقل سلام
واعقر سويداء الضمير ... فليس يقنعني السوام
وتوق أن تبنى حياءً ... دمع عينك أو ملام [2]
فإذا ارتوت [3] تلك الجنادل ... من دموعك والرغام
فأقم صدور اليعملات ... فبعد يحيى لا مقام
ذهب الذي كانت تقيدني ... مواهبه الجسام
فإذا نظرت إليه لم ... يخطر على قلبي الشآم
غاض الندى الفياض عن ... راجيه [4] واشتد الأوام
وتفرقت تلك الجموع ... وقوضت تلك الخيام
عجبا لمن يغتر بالدنيا ... وليس لها دوام
عقبي مسرتها الأسى ... وعقيب صحتها السقام
ما مت وحدك يوم مت ... وانما مات الأنام
يأبى لي الإحسان ان ... أنساك والشيم الكرام





مصادر و المراجع :

١- المنتظم في تاريخ الأمم والملوك

المؤلف: جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي (المتوفى: 597هـ)

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید