المنشورات

(بلاغة عبد الحميد)

هُوَ عبد الحميد بن يحيى بن سعيد مولى الْعَلَاء بن وهب العامرى روى الميدانى أَنه كَانَ معلما ثمَّ بلغ من البلاغة مبلغا يضْرب بِهِ الْمثل كَمَا قَالَ البحترى لمُحَمد بن عبد الْملك
(وتفننت فى البلاغة حَتَّى ... عطل النَّاس فن عبد الحميد)
وَقَالَ ابْن الرومى لأبى الصَّقْر
(لَو أَن عبد الحميد الْيَوْم شَاهده ... لَكَانَ بَين يَدَيْهِ مذعنا وسنا) وَقَالَ عَمْرو بن عُثْمَان بن إسفنديار الْكَاتِب
(وصديق رَقِيق حَاشِيَة الجلسة ... صافى زجاجة الْآدَاب)
(شغلته الرّقاع مِنْهُ إِلَيْهِ ... فَدَعَا نَفسه إِلَى الْأَصْحَاب)
(وَهُوَ فى الحذق والبلاغة والتطويل ... عبد الحميد فى الْكتاب)
وَقَالَ بَعضهم
(لست وهب بن سُلَيْمَان ... بن وهب بن سعيد)
(قد تحدثت برغم ... مِنْهُ عَن أَمر سديد)
(أَنْت فى معناك ذَا ... أبلغ من عبد الحميد)
وَقَالَ أَبُو إِسْحَاق الصابى من قصيدة
(أنسيتم كتبا شحنت فصولها ... بفصول در عَنْكُم منضود)
(ورسائلا نفذت إِلَى أطرافكم ... عبد الحميد بِهن غير حميد)
وَيُقَال إِن عبد الحميد أول من نهج طرق الْكِتَابَة وَبسط من بَاعَ البلاغة وشنف الرسائل وقرطها ولخص فصولها وخلصها
وَكَانَ مَرْوَان بن مُحَمَّد يستكتبه ويكرمه ويقدمه وَلَا يرى الدُّنْيَا إِلَّا بِهِ
وَكَانَ عبد الحميد يَقُول أكْرمُوا الْكتاب فَإِن الله تَعَالَى أجْرى أرزاق الْخلق على أَيْديهم وَكَانَ يَقُول إِن كَانَ الوحى ينزل على أحد بعد الْأَنْبِيَاء فعلى بلغاء الْكتاب
وَمن غرر كَلَامه الْعلم شَجَرَة ثَمَرهَا الْأَلْفَاظ والفكر بَحر لؤلؤة الْحِكْمَة
وَقيل لَهُ مَا الذى خرجك فى البلاغة فَقَالَ حفظ كَلَام الأصلع يعْنى على بن أَبى طَالب
وَكَانَ إِبْرَاهِيم بن الْعَبَّاس الصولى يَقُول فى رِسَالَة لَهُ مَا تمنيت كَلَام أحد أَن يكون لى إِلَّا كَلَام عبد الحميد حَيْثُ يَقُول فى رِسَالَة لَهُ النَّاس أَصْنَاف مُخْتَلفُونَ وأطوار متباينون فَمنهمْ علق مضنة لَا يُبَاع وَمِنْهُم غل ظنة لَا يبْتَاع
ويروى أَنه مر بإبراهيم بن جبلة وَهُوَ يكْتب خطا رديئا فَقَالَ أَتُحِبُّ أَن يجود خطك قَالَ نعم قَالَ أطل جلفة قلمك واسمنها وحرف قطتك وأيمنها قَالَ فَفعلت ذَلِك فجاد خطى
وساير عبد الحميد يَوْمًا مَرْوَان على دَابَّة قد طَالَتْ مدَّتهَا فى ملكه فَقَالَ لَهُ مَرْوَان قد طَالَتْ صُحْبَة هَذِه الدَّابَّة لَك فَقَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ من بركَة الدَّابَّة طول صحبتهَا وَقلة علتها قَالَ فَكيف سَيرهَا قَالَ همها أمامها وسوطها عنانها وَمَا ضربت قطّ إِلَّا ظلما
وَقد حكى أَن عبد الله بن طَاهِر خَاطب الْمَأْمُون فى دَابَّة رَآهَا تَحْتَهُ بِهَذَا الْخطاب بِعَيْنِه وَقد يجوز أَن يكون حكى كَلَام عبد الحميد
ويحكى أَن عَاملا لمروان أهْدى إِلَيْهِ غُلَاما أسود فَقَالَ لعبد الحميد اكْتُبْ إِلَيْهِ وذم فعله فى هديته وأوجز فَكتب إِلَيْهِ لَو وجدت لونا شرا من السوَاد وعددا أقل من الوحد لأهديته
وَكتب إِلَى أَهله وأقاربه عِنْد هزيمَة مَرْوَان كتابا قَالَ فى فصل مِنْهُ وَهُوَ يشكو الدُّنْيَا باعدتنا عَن الأوطان وَفرقت بَيْننَا وَبَين الإخوان
وَلما أيس مَرْوَان من ملكه قَالَ لعبد الحميد إِن الْأَمر زائل عَنَّا وَهَؤُلَاء الْقَوْم يعْنى بنى الْعَبَّاس يضطرون إِلَيْك فسر إِلَيْهِم فإنى أَرْجُو أَن تتمكن مِنْهُم فتنفعنى فى محنتى وفى كثير من أمورى فَقَالَ وَكَيف لى وَالنَّاس جَمِيعًا يعلمُونَ أَن هَذَا عَن رَأْيك وَكلهمْ يَقُول إنى غدرت بك وصرت إِلَى عَدوك ثمَّ أنْشد 
(وذنبى ظَاهر لَا شكّ فِيهِ ... لمبصرة وعذرى بالمغيب)
وَلما زَالَ أَمر مَرْوَان أَتَى الْمَنْصُور بخواص مَرْوَان وَفِيهِمْ عبد الحميد والبعلبكى الْمُؤَذّن وَسَلام الحادى فهم بِقَتْلِهِم جَمِيعًا فَقَالَ سَلام استبقنى يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ فإنى أحسن الحداء قَالَ وَمَا بلغ من حدائك قَالَ تعمد إِلَى إبل فتظمئها ثَلَاثَة ايام ثمَّ توردها المَاء فَإِذا بدأت تشرب رفعت صوتى بالحداء فَترفع رءوسها وَتَدَع الشّرْب ثمَّ لَا تشرب حَتَّى أسكت فَأمر الْمَنْصُور بِإِبِل فَفعل بهَا ذَلِك فَكَانَ الْأَمر كَمَا قَالَ فاستبقاه وَأَجَازَهُ وأجرى عَلَيْهِ وَقَالَ لَهُ البعلبكى استبقنى يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ فإنى مُؤذن مُنْقَطع القرين قَالَ وَمَا بلغ من أذانك قَالَ تَأمر جَارِيَة فَتقدم إِلَيْك طستا وَتَأْخُذ بِيَدِهَا إبريقا وتصب المَاء على يدك فأبتدى بِالْأَذَانِ فتدهش وَيذْهب عقلهَا إِذا سَمِعت أذانى حَتَّى تلقى الإبريق من يَدهَا وهى لَا تعلم فَأمر الْمَنْصُور جَارِيَة فَفعلت ذَلِك وَأخذ البعلبكى فى الْأَذَان فَكَانَت حَالهَا كَمَا وصف وَقَالَ عبد الحميد يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ استبقنى فإنى فَرد الزَّمَان فى الْكِتَابَة والبلاغة فَقَالَ مَا أعرفنى بك أَنْت الذى فعلت بِنَا الأفاعيل وعملت لنا الدواهى وَأمر بِهِ فَقطعت يَدَاهُ وَرجلَاهُ وَضربت عُنُقه
ويروى أَنه سلمه إِلَى عبد الْجَبَّار فَكَانَ يحمى لَهُ طستا ويضعه على بَطْنه حَتَّى قَتله





مصادر و المراجع :

١- ثمار القلوب في المضاف والمنسوب

المؤلف: عبد الملك بن محمد بن إسماعيل أبو منصور الثعالبي (المتوفى: 429هـ)

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید