المنشورات

(جنَّة الأَرْض)

 يُقَال لبغداد جنَّة الأَرْض ومجتمع الرافدين دجلة والفرات وواسطة الدُّنْيَا ومدينة السَّلَام وقبة الْإِسْلَام لِأَنَّهَا غرَّة الْبِلَاد وَدَار الْخلَافَة وَمجمع المحاسن والطيبات ومعدن الظرائف واللطائف وَبهَا أَرْبَاب النهايات فى كل فن وآحاد الدَّهْر فى كل نوع
وَكَانَ أَبُو إِسْحَاق الزّجاج يَقُول بَغْدَاد حَاضِرَة الدُّنْيَا وَمَا عَداهَا بادية
وَكَانَ أَبُو الْفرج الببغاء يَقُول هى مَدِينَة السَّلَام بل مَدِينَة الْإِسْلَام فَإِن الدولة النَّبَوِيَّة والخلافة الإسلامية بهَا عششتا وفرختا وضربتا بعروقها وسمتا بفروعها وَإِن هواءها أعدل من كل هَوَاء وماءها أعذب من كل مَاء ونسيمها أرق من كل نسيم وهى من الإقليم الاعتدالى بِمَنْزِلَة المركز من الدائرة وَلم تزل موطن الأكاسرة فى سالف الْأَزْمَان ومنزل الْخُلَفَاء فى دولة الْإِسْلَام
وَكَانَ أَبُو الْفضل بن العميد إِذا طَرَأَ عَلَيْهِ أحد من منتحلى الْعلم وَأَرَادَ امتحان عقله سَأَلَهُ عَن بَغْدَاد فَإِن فطن عَن خواصها وَنبهَ على محاسنها وَأثْنى عَلَيْهَا خيرا جعل ذَلِك مُقَدّمَة فَضله وعنوان عقله ثمَّ سَأَلَهُ عَن الجاحظ فَإِن وجد عِنْده أثرا بمطالعة كتبه والاقتباس من أَلْفَاظه وَبَعض الْقيَاس بمسائله قضى بِأَنَّهُ غرَّة شادخة فى الْعلم وَإِن وجده ذاما لبغداد غافلا عَمَّا يجب أَن يكون موسوما بِهِ من الانتساب إِلَى المعارف الَّتِى يخْتَص بهَا الجاحظ لم ينْتَفع بعد ذَلِك عِنْده بشىء من المحاسن
وَلما رَجَعَ الصاحب من بَغْدَاد وَسَأَلَهُ ابْن العميد عَنْهَا قَالَ بَغْدَاد فى الْبِلَاد كالأستاذ فِي الْعباد فَجَعلهَا مثلا فى الْغَايَة من الْفضل والكمال
وأنشدنى ابْن زُرَيْق الكوفى الْكَاتِب
(سَافَرت أبغى لبغداد وساكنها ... مثلا قد اخْتَرْت شَيْئا دونه الياس)
(هَيْهَات بَغْدَاد الدُّنْيَا بأجمعها ... عندى وسكان بَغْدَاد هم النَّاس)
قَالَ وأنشدنى لغيره
(سقى الله بَغْدَاد من جنَّة ... حوت كل مَا تشْتَهى الْأَنْفس)
(على أَنَّهَا جنَّة الموسرين ... وَلكنهَا حسرة الْمُفلس)
وَمن عَجِيب شَأْنهَا على أَنَّهَا كَونهَا الحضرة الْكُبْرَى لاستيطان الْخُلَفَاء إِيَّاهَا لَا يَمُوت بهَا خَليفَة كَمَا قَالَ عمَارَة بن عقيل بن جرير بن بِلَال
(أعاينت فى طول من الأَرْض وَالْعرض ... كبغداد دَارا إِنَّهَا جنَّة الأَرْض)
(قضى رَبهَا أَلا يَمُوت خَليفَة ... بهَا إِنَّه مَا شَاءَ فى خلقه يقْضى)
وَلما فرغ الْمَنْصُور من بنائها فى سنة سِتّ وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ أَمر نوبخت المنجم وَكَانَ مُتَقَدما فى علم النُّجُوم بِأَن يَأْخُذ الْمطَالع ويتعرف أحوالها فَفعل وَوجد الْمُشْتَرى فى الْقوس والقوس طالعها فَأخْبرهُ بِمَا تدل عَلَيْهِ النُّجُوم من طول ثباتها وَكَثْرَة عمارتها وانصباب الدُّنْيَا عَلَيْهَا وفقر الْمُلُوك والسوقة إِلَيْهَا فسر الْمَنْصُور وَقَرَأَ {ذَلِك فضل الله يؤتيه من يَشَاء وَالله ذُو الْفضل الْعَظِيم} ثمَّ قَالَ لَهُ نوبخت وخصلة أُخْرَى يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ هى من أعجب خصائصها قَالَ مَا هى قَالَ لَا يَمُوت بهَا خَليفَة أبدا فَجرى الْأَمر فِيهِ على حكمه إِلَى زَمَاننَا هَذَا بِإِذن الله تَعَالَى وَذَلِكَ أَن الْمَنْصُور مَاتَ بِمَكَّة والمهدى بِمَا سبذان والهادى بعيسا آباد والرشيد بطوس وَقتل الْأمين وَمَات الْمَأْمُون بطرسوس والمعتصم بسر من رأى والواثق بهَا وَقتل المتَوَكل وَمَات الْمُنْتَصر بسر من رأى وخلع المستعين وَكَذَلِكَ المعتز وَقتل المهتدى وَمَات الْمُعْتَمد بالحسنية وَكَذَلِكَ المعتضد والمكتفى وَقتل المقتدر وَقتل القاهر وَمَات الراضى بالحسنية وَقتل المتقى والمستكفى وَمَات الْمُطِيع بدير العاقول وخلع الطائع





مصادر و المراجع :

١- ثمار القلوب في المضاف والمنسوب

المؤلف: عبد الملك بن محمد بن إسماعيل أبو منصور الثعالبي (المتوفى: 429هـ)

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید