المنشورات

ضابط المخابرات البريطاني يهز عرش المملكة الانكليزية.

كثيرا ما يكون "إطلاق الأفكار " أفدح خطرة من "إطلاق النار". فكيف إذا كانت هذه الافكار معلومات وأسرارا عن أعرق جهاز مخابراتي في العالم هو جهاز المخابرات البريطاني "إم 16"؟. وكيف إذا كان فاضح هذه الاسرار والمعلومات ضابطا في الجهاز نفسه؟ أليس "صاحب البيت أدرى بالذي فيه " كما يقولون.
هذا ما حصل بالفعل منذ أواخر شهر آذار عام 2002، عندما نشر خبر صغير في مجلة متخصصة بعالم التجسس تدعى "عين الجاسوسية" أثار الخوف والذعر في جميع قواعد جهاز المخابرات البريطاني "إم 16" في تقاطع فوكسهول في لندن إثر صدور كتاب ضابط المخابرات البريطاني ريتشارد توملينسون بعنوان: "التسريب الكبير: من فائق السرية إلى في غاية السرية ".
فما هو سر هذا الكتاب الذي عرى إستخبارات حكومة صاحبة الجلالة من أسرارها الحميمة؟ ومن هو مؤلفه هذا؟
تقول مجلة "عين الجاسوسية": "كان توملينسون ضابطا سابقة في جهاز إم 16" حاولت الحكومة البريطانية في مرات عدة إسكاته وإغواءه في العودة إلى بريطانيا بعد أن طرد من جهاز "إم 1" عام 1999 لكن دون جدوى. فتوملينسون كان يتنقل من بلد إلى آخر ويتجاوز محاولات أسره وإيذائه التي كانت تنفيها الحكومة البريطانية. وقصة توملينسون تبدأ منذ تجنيده في قوات المخابرات الخاصة (sis)  بعد نيله درجة الامتياز في الهندسة الجوية من جامعة کامبريدج ثم خدم فيما بعد في (فرع سلاح الجو الخاص 21) وحصل على أفضل العلامات في التدريب. وبعد ذلك تعرض للطرد بعد أن خدم في البوسنة) أثناء أحداثها فاعتبر أن طرده تصرف غير عادل، لكن محامي الدفاع لا يمكنه القيام بشيء كبير
طالما أن هذا الجهاز يمكن أن يضع السبب ضمن "أسباب أمنية" لا يمكن الكشف عنها. وحاول توملينسون تزكية نفسه وأصر عبر الكتابة على التحدث عن خدمته فاعتقله فرع " إم 16" ووضعه في السجن لمدة عام بتهمة الكشف عن أسرار رسمية. ثم بدأ يعد كتابة حول المخابرات البريطانية وتعرض للتهديد والضغط لتسليم كل ما كتبه لأحد الناشرين الاستراليين. وفي أيار 1998 أطلق سراحه فاضطر بعد ضغوط متزايدة من المخابرات البريطانية إلى الفرار من بلد الى آخر لتجنب ما يمكن أن تفعله ضده المخابرات البريطانية. وأثناء ذلك حاولت المخابرات الألمانية، وكذلك الفرنسية بذل جهود جبارة من أجل إغوائه بتزويدها بما لديه من حقائق عن جهاز " إم 19 " لكن دون جدوى بسبب رفضه. ويقول توملينسون إنه تعرض للاعتقال والإعتداء والإستجواب في 11 مناسبة دخل في بعضها رجال الأمن الى بيته وفي 6 دول كان يتنقل بينهما. وهو الآن ممنوع من دخول الولايات المتحدة واستراليا، وفرنسا وسويسرا وتعرض في المانيا للتهديد وكذلك في نيوزيلاندا مما دفعه الى العيش في إيطاليا الآن. وفي آذار عام 2000 إقتحمت الشرطة الإيطالية مترله وصادرت كمبيوتره الشخصي وهاتفه الجوال وأشرطة الكمبيوتر وأوراق أخرى وسلمتهم إلى ضابطين مندوبين عن فرع " إم 16 " ولم تتم حتى الآن إستعادهم.
أما كتابه فقد تم تسريبه إلى روسيا للمراجعة ولم تستطع الحكومة البريطانية ومخابراتها منع دخول ذلك الكتاب إلى داخل بريطانيا خصوصا حين يتم عرضه على الأنترنيت. وفي مقدمة كتابه يقول توملينسون: " إن جهاز "إم 16 " إعتقلني وعذبني باسم قانون أدانته الأمم المتحدة في 2000
/ 7/ 20
حول سجل حقوق الإنسان في بريطانيا ". لكن الكثير من البريطانيين الذين يتعاطفون مع مهام " إم 16 " يبررون لهذا الجهاز محاولة إسكات توملينسون بسبب ما يعرفه وما كشفه حتى الآن. ففي هذا الكتاب يكشف توملينسون عن مؤامرة أعدها " إم -16" لإغتيال سلوبودان ميلوسفيتش وعن شخصية هنري بول السائق الذي قتل مع الأميرة دايانا. فالكتاب يعتبره ضابط في " إم 16 " وأنه عمل في باريس، الأمر الذي يثير شكوكا حول وجود مؤامرة في موت دايانا.
مقتطفات من كتاب " التسريب الكبير" بعد صدور الكتاب وتوزيعه في روسيا أصبح من الواضح أن المخابرات البريطانية والحكومة فشلتا تماما في محاولتهما عدم وصول مادة هذا الكتاب إلى العالم. وحتى شباط الماضي تم إستيراد وبيع ما يقرب من 1000 نسخة من هذا الكتاب عن طريق الناشرين الذين
كان بإمكانهم توزيع عشرات الأضعاف منه. وفي هذا الكتاب يعطي توملينسون تفصيلا مهما عن عمل جهاز (SIS) .  ورغم أن قسما من هذا التفصيل يمكن معرفته إذا أمعن الإنسان النظر جيدة، إلا أن هناك الكثير من المعلومات المهمة. يقول توملينسون في كتابه: " إن ما يقوم به " إم 16" من عمل وما يحصل عليه من معلومات يعرف عادة بالتقرير الذي يحمل إسم (سي إس) (cx)  وهي اختصار بديع باستخدامه منذ إنشاء فرع (إم 16) يدل على أول حرفين من عبارة وضعها رئيسه مانسفيلد كامينغ هي:" خاص جدا من كامينغ " (cumming - Exclusively)-  أي (cx)  إختصارة ثم يتحدث عن وجود " ضباط إرتباط " من جهاز (إم 16) يعملون مع الشركات البريطانية ويقدمون لها تقارير تحمل صفة (cx).  وهذا التقرير  cx)  يتم جمعه على مستوى دولي من قبل خلايا صغيرة تعمل داخل السفارات البريطانية ويطلق عليها إسم " محطات "، ويذكر أن " السي. آي. إي " تستخدم نفس التعبير. ويتم تصنيف التقرير الذي ترسله هذه الخلايا بموجب أهميته قبل أرساله إلى بريطانيا بوضع نجمة أو إثنتين أو أكثر. فوضع نجمتين يشير إلى تدني أهميته وعادة ما يطلع عليه الضباط الصغار، أما الذي يحمل ثلاث نجوم فيمكن أن يطلع عليه رئيس مکتب خارجي أو وزارة الدفاع وما يحمل أربع نجوم يكون مهمة جدا لمن هو في منصب سكرتير دائم على سبيل المثال. ولا يطلع على التقرير الذي يحمل خمس نجوم إلا من هو في أعلى المناصب في الحكومة. محطات " إم 19' والموظفون فيها.
يقول توملينسون في كتابه المذكور إن هناك 50 محطة تابعة لجهاز " إم 16 في العالم تقريبا، وعادة ما يكون رئيسها هو ضابط كبير في الأربعينات من العمر، ويعمل تحت غطاء مثل مستشار ويصرح باسمه المخابرات الدولة المضيفة عادة، في حين أن الضباط الآخرين داخل المحطة لا يصرح عن أسماء معظمهم. وعلى محطة يتم ربطها وإدارتها عن طريق مقر " إم 16 " في تقاطع فوكسهول في لندن وتضم كل محطة رئيسة ومحاسبة يعد ترتيب المستلزمات الخاصة بالعمل. ويضم جهاز "إم 16" 2300 موظف دائم منهم 300 من فرع ضباط المخابرات التابع لدائرة المخابرات البريطانية (آي بي)، و 800 من الضباط الإداريين الذين يعملون في الشؤون الفنية والإدارية. وهناك حوالي ألف يعملون كموظفين للخدمات وحراس وسائقين وطباخين، و ميکانيکيين. والى جانب حديثه عن عدد من العمليات التي قام بها جهاز "إم 16 " في الكتاب، يتحدث توملينسون بدقة فريدة عن الطرق التي يتبعها الجهاز في تجنيد المتطوعين وعن التدريب. ولعل قيادة المخابرات البريطانية كانت ترغب بعدم نشر مثل هذه التفاصيل. ويستشهد توملينسون بجزء من التدريب الذي خضع له في " مقر فورت مونكتون" في مدينة (بورتس مارت) فيقول: " تشكل فورت مونكتون القاعدة المهمة للتدريب المتعدد وهي تقع في شبه الجزيرة البريطانية (غوسبورت) ولا يمكن الدخول اليها إلا عن طريق الجسر المتحرك وفيها ساحة كبيرة للتدريب على الإطلاق والتصويب من المسدسات وإستوديوهات تصوير رورشات فنية، ومختبرات وقاعات محاضرات. وفيها موقع يمكن أن تخبط فيه طائرة مروحية ".
أما المهمة الأولى التي طلب من توملينسون القيام بها فهي إنشاء وكالة أنباء إحتيالية في قلب مدينة لندن هدف جذب وإغواء أفراد من الجيش الروسي أو المخابرات الروسية للهروب إلى بريطانيا. وبعد إنفاق ما يقرب من 40 ألف جنيه بريطاني وجهود من ثلاثة أشهر لم تتمكن وكالة الأنباء هذه من النجاح في مهمة واحدة من هذا النوع. وقد تم إطلاق إسم " تروفاكس " على وكالة الأنباء هذه وتبين أفا عملت في هذا الحقل حقا، وتأكد هذا الأمر من قبل محلل عسكري روسي حاول توملينسون تجنيده عام 1992. وبعد سنة من هذه المحاولة أبلغ توملينسون في الربيع بانتقاله إلى قسم روسيا في جهاز" إم 16 " في لندن حيث تعين عليه القيام بعمل كثير في هذا القسم. ويتحدث توملينسون في أحد الفصول عن الدورة التي يطلق عليها إسم (ايونيك) وهذا إختصار يعني:" دورة الدخول لضباط المخابرات ". ففي هذه الدورة تلقى توملينسون والعملاء والضباط الآخرون معه مهمة غير عادية يقول عنها:" في أول سلسلة من الإمتحانات والإختبارات المتابعة المعقدة طلب من كل واحد منا الجلوس في بار بريطاني لكي نقترب من أحد القادمين اليه ونستخلص منه
عبر الحوار) معلومات تدل على إسمه وعنوانه و تاريخ ميلاده ومهنته بل ورقم جواز سفره وحيث تعين على القيام بذلك ذهبت إلى أحد البارات في شارع (غريت ساوث إيست) فوجدته خالية ثم بعد أن تناولت أول كأس دخل شاب وفتاة ثم فتاتان ورتبت الأمر معهما بطريقة ذكية قلت فيها إنني أملك يختا وبحاجة الى من يعمل فيه. ولكي يتم خروج من يعمل فيه لا بد من ترتيب خروجه من البحر بجواز سفر. وهكذا حصلت على أرقام جوازي سفرهما، وزعم آخر أنه فرنسي وراهن على أن جميع الجوازات البريطانية تنتهي بثلاث ستات (666) وكان الرهان على زجاجة ويسكي فذهب أحدهم وأحضر جواز سفره لكي يكسب الرهان. وهكذا تعرف ضابط المخابرات على رقم جواز سفره .. ". وقد نوقش کتاب: " التسريب الكبير " في البرلمان البريطاني وقال توم كينغ رئيس اللجنة البرلمانية لشؤون المخابرات والأمن: " من السذاجة الإعتقاد بعدم وجود دعم لكتاب توملينسون من المخابرات الروسية ".
لكن توملينسون ينفي أن تكون له أي علاقة بالمخابرات الروسية ويبدي إستعداده للعودة إلى لندن وإجراء محاكمة حول طرده من وظيفته لعدم توفر العدالة فيها.
ومهما يكن من أمر، يبقي کتاب ضابط المخابرات البريطاني ريتشارد توملينسون من الكتب الهامة في هذا العالم، باعتباره يتناول موضوعة حساسة، بل شديد الحساسية والخطورة في آن معا. كما أنه يعتبر من المحظورات الممنوع المساس بها على الإطلاق ... وهذا ما يصح فيه القول أن " كل ممنوع مرغوب".
المراجع
(1) مجلة " عين الجاسوسية ". آذار 2002. (2) مجلة "المحرر العربي". العدد 339. منه - 12 نيسان 2002 ص 20.








مصادر و المراجع :

١- موسوعة الامن والاستخبارات في العالم

المؤلف: د. صالح زهر الدين

الناشر: المركز الثقافي اللبناني للطباعة والنشر والتأليف والترجمة - بيروت

الطبعة: الاولى

تاريخ النشر:2002 م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید