المنشورات
نازية المانيا وإحراق الرايخشتاغ
أثبتت تجارب التاريخ، وعبر مر العصور، على أن الذي يقود بلاده الى الهاوية، لن يتورع عن أن يزج بالبشرية جمعاء في أتون الموت والدماء. كما أثبتت تجارب التاريخ أيضأ صدق قول شاعر المانيا الكبير هنريش مان أن اولئك الذين يبدأون بإحراق الكتب سوف ينتهون بإحراق البشرة والنازية الألمانية في النصف الأول من القرن العشرين هي خير دليل على ذلك، ومن كان جديرة بإحراق العالم كله في حرب عالمية كارثة، لم يجد صعوبة في إحراق الرايخشتاغ الألماني ليتخذها ذريعة في القضاء على القوى الديمقراطية الالمانية قبل الانتخابات البرلمانية باسبوع واحد عام 1933.
فكيف تم ذلك؟ وكيف أحرق النازيون الرايخشتاغ؟.
في السابع والعشرين من شباط/فبراير سنة 1933، وفي الساعة الحادية والعشرين وبضع دقائق اندلعت السنة النيران فوق قبة الرايخشتاغ، فملا دوي صفارات الانذار ذلك المساء المتجمد. وحول (مسلة النصرة، وعبر بوابة براندنبورغ BRANDENBURG عكرت سيارات الاطفاء والشرطة والمغاوير سکون تيرغارتن TIERGARTEN، واتجه هتلر وغوبلز نحو الرايخشتاغ REICHSTAG بسرعة مئة كيلو متر في الساعة.
وبدأ مفوضر الشرطة على الفور استجواب الشاب الذي ألقي عليه القبض شبه عار وملطخا بالسخام. كان الشاب يحمل جواز سفر باسم مارينوس فان در لوبه، VAN DER LUBBE، المولود في الثالث عشر من كانون الثاني / يناير عام 1909 في لايدن - هولندا.
وحتي قبل استجواب الويه»، كان وزير الرايخشتاغ ووزير خارجية بروسيا غورينغ GORING ينددان بالجريمة الشيوعية - على حد زعمهما? اما مساعده ر. ديلس DELS الذي صار فيما بعد رئيس «البوليس السري الحكومي، (الغستابو)، فيصف في مذكراته الوتسيفر أمام الباب، لقاء غورينغ مع هتلر بهذه الطريقة: صاح غورينغ بصوت درامي: هذه بداية التمرد الشيوعي، الآن سيضربون! لا ينبغي أن تضيع دقيقة واحدة، وصرخ هتلر بدوره: (سيسرح كل موظف شيوعي أينما كان يجب أن يشنق النواب الشيوعيون الليلة. يجب أن يعتقل كل من له صلة بالشيوعيينا، ودخل هتلر الرايخشتاغ لمرة واحدة وأبقى للصحفيين مهمة إدخاله تاريخ المانيا. مراسل الجريدة اللندنية «ديلي اكسبرس، (ديلمار) المصرح له من الدوائر النازية العليا، يكتب في دفتر مذكراته ما أعلنه السكرتير لفون بابن: «هذه اشارة ربانية أيها السيد المستشار الاعلي! واذا كان هذا الحريق من فعل الشيوعيين، كما أنا مقتنع، فعلينا أن نسحق بقبضة حديدية هذا الطاعون القاتل» ..
تعمد غوبلز في مذكراته اتهام الشيوعيين دون انتظار نهاية تحقيقات الشرطة ورجال المطافيء التي أجريت بأسرع ما يكون، فكتب يقول:
واضح للعيان أن الشيوعيين قد لجأوا الى الوسيلة الأخيرة لبث الاضطراب. خالقين جوا من الرعب بهدف استغلاله للاستيلاء على السلطة.
لقد اندلع حريق الرايخشتاغ تماما في بداية الاسبوع قبل الأخير من الانتخابات، حين تبلغ الحمى السياسية ذروتها.
ذلك الاثنين كان مشبعة ببرنامج غني. فقد عقد بعد ظهر ذلك اليوم اجتماع اللجان الذي استغله هتلر وغورينغ معا لتبرير الجرائم التي ارتكبها النازيون في برلين مساء يوم 27 فبراير. فقد جاب هتلر بطائرته منذ العاشر من فبراير. وتحدث في عدة اجتماعات يومية، وقرر في 27 فبراير أن يتحرر من واجبات ما قبل الانتخابات، وأن يستمع إلى الموسيقى في جو حميم في منزل الدكتور جوزف غوبلز، حيث تستطيع ماجدة غوبلز القيام بخدمة الضيف خدمة ممتازة، وهكذا حرم هتلر متعة التلذذ بموسيقى الدكتور «ارنست خانفشتينغل»، رئيس القسم الدولي للمطبوعات في الحزب النازي، والمعروف في أوساط الصحفيين العالميين باسم (بونسي. كان بوتسي قد أكمل الدراسة في جامعة دخارنا تسيده، حين تصادف مع فرانکلين ديلانو روزفلت، الرئيس الجديد للولايات المتحدة الأميركية. وكان في الوقت ذاته صديقا حميما لغورينغ، الذي جعله في قصره اذ كان رئيسا للرايخشتاغ ونصره الى الجهة الشرقية منه. لكن الكريب جعل بوتسي POTSE طريح الفراش وارتفعت درجة حرارته إلى الأربعين، الأمر الذي شجعه على عدم تلبية الدعوات التلفونية الملحة من قبل عائلة غوبلز ليتغلب على مرضه ويعزف للفوهرر FHRER على البيانو. وهكذا حرم هتلر داعية ثمينة يصف للعديدين من أصدقائه في الخارج المفاجاة والحقيقية، لقائدي الحزب النازي عن أخبار حريق الرايخشتاغ.
وبطريق المصادفة، كان هتلر قد صحب معه في ذلك المساء مصوره الفوتوغرافي الشخصي (هاينريخ هوفمان، (HEINRICHHOFMAN) الذي نجح في التقاط صور الانزعاج، النازيين البارزين من الاعتداء الشيوعي).
وظهر في برلين رفون بابن،، الذي تكلم في العشاء الذي أقيم في مقر نادي القوميين الألمان - هيرين - بمناسبة مرور مئة عام على ميلاد المنظر البارز ومنظم الجيش الألماني الجنرال فون شليفن». وقد حضر العشاء الرئيس هيندنبورغ HINDENBURG، بينما لاحت من خلال النوافذ الشعلة الملتهبة فوق الرايخشتاغ. قاد فون بابن هيندنبورغ بسيارته ثم اتجها إلى مقره في البناء المشتعل.
في الوقت نفسه، كان محافظ برلين يقيم عشاء يجمع بين وزير الخارجية البارون رفون نويرات، والجنرال دروند شد، قائد منطقة برلين العسكرية مع بعض الشخصيات ذات النفوذ في أوساط من البرجوازية الالمانية التي لا تدعم سياسة الحكومة. وفي الساعة الحادية والعشرين أوضح اغونتر غيريكيه مدير المكتب الصحفي لشؤون اليد العاملة سياسة الحكومة حول القضاء على البطالة. وبعد بضع دقائق فقط استطاع الصحفيون الوصول الى الرايخشتاغ، وانطلقوا وسط حزام من رجال الشرطة والمغاوير الذين كانوا يطوقون المبنى ذات الطوابق الحجرية.
في تلك الليلة كان الاشتراكيون الديمقراطيون البرلينيون يحتفلون في نصر الرياضة بالذكرى السنوية الخمسين لوفاة كارل مارکس. تحل هذه الذكري في الرابع عشر من مارس، لكن قيادة الاشتراكيين الديمقراطيين قررت أن تقيم الاحتفال قبل الانتخابات لاستغلاله في وقت واحد كجزء من النضال الذي يسبق الانتخابات وكتظاهرة ضد النظام. وكان ذلك الاحتفال ذريعة ممتازة للهتلريين كي يستنفروا المغاوير، وكان عشرات الألوف من الاشتراكيين الديمقراطيين المتجمهرين للإحتفال بالذكرى سيلجأون إلى مهاجمة الحكومة
الجديدة.
وبعد أن تمكن رجال الإطفاء من إخماد الحريق، بدا للعيان أن البناء الذي يمثل مربعة ضلعه 97 متر، وترتفع تبته الى 70 مترا قد شهد حريقين ينفصل أحدهما عن الأخر. الأول مبعثة المطعم الذي يقدم الخدمات للنواب، كما يقدم بعض الخدمات للجوار. وقد انبعث هذا الحريق من مواقد فرعية قليلة الاستخدام. أما الأخر، أي الرئيسي، فكان مصدره الصالة العامة وبدا على أثر إخماد حريق المطعم. والصالة العامة التي يجتمع فيها النواب قد جهزت سلفا بمواد مشتعلة اذ استحالت خلال دقائق معدودة الى بحر من اللهب، فجر القبة الزجاجية التي تكلل الرايخشتاغ. |
وعند التأكد من أن النار سوف تخمد سريعة في الصالة العامة، عرج هتلر وباين على غورينغ في وزارة الداخلية البروسية، وقرروا مع قادة الشرطة التدابير التي ستتخذ ضد الشيوعيين. وأطلق النائبان النازيان «بيرتولد کارخانه ودکورت فراي،، وأيدهما النازي النمساوي استيفان کروييره، رواية مفادها أن النائب الشيوعي «ايرنست تورغلر، شوهد في الرايخشتاغ ظهر ذلك اليوم يرافقه رفان دير لوبه، وسجلت الرواية في دوائر الشرطة الألمانية.
وإثر اللقاء عند غورينغ اجتمع هتلر وغوبلز في المقر المركزي لصحيفة الحزب النازي جريدة نولکشير بيوباختر VOLKISCHER BEOBACHTER، وفي اليوم التالي حملت الجريدة بيان الحريق دون أن تخفي الابتهاج بالمصير الذي اعد للشيوعيين الألمان. وتصدر الصحيفة العنوان التالي:
الآن حانت النهاية! سنصفيهم جذريا ... وخرج البيان باستنتاج يحمل الدلالات الكثيرة:.
ارتفعت شعل الرابخشتاغ الحمراء فوق البلاد کمشعل متقد يوجه الأمة الى طريق التحرير!.
وأطلق النازبون، بعد الدقائق الأولى على الحريق، إشاعة تفيد أن الشيوعيين أشعلوا الرايخشتاغ. وأكد الاشاعة بلاغ رسمي من الإذاعة، أعت من قبل غورينغ شخصية، وجاء فيه أن رفان در لوبه، قد اعترف بعضويته في
الحزب الشيوعي الهولندي، ووجدت لديه بطاقة العضوية في الحزب. ووفق بلاغ مكتب الاعلام البروسي، الذي يشرف عليه غورينغ، تبين من تحريات الشرطة أن الحريق من عمل جماعة كبيرة وليس عملا فردية، اذ اكتشف البواب قرب تبة الرايخشتاغ العديد من موائد الحريق والمشاعل والمواد المحرقة، ويلزم لنقل هذه المواد ما لا يقل عن سبعة أشخاص، كما يتطلب نقلها بإشعال الحريق ما لا يقل عن عشرة، وأن الخبرة الطويلة وكثرة الممارسات السنوات عديدة هي وحدها التي تتيح المعرفة التامة بهذا البناء الضخم، وأن الشرطة تشتبه بقيادة المجموعة الشيوعية في الرايخشتاغ إرنست تورغلره اوويلهلم کونن KUNNEN. هذا الاحراق هو أخطر عمل، حتى الآن، من أعمال إرهاب البلشفية في المانيا، يتابع البلاغ، مشيرة الى خرافة آلاف الكيلو غرامات من الأدبيات المهترئة التي وجدتهاء الشرطة في الرابع والعشرين من فبراير أثناء تفتيش بيت الحزب کارل ليبکنخب KARL LIEBKNECHT مقر اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الالماني وهيئة تحرير اروث فانيه ROTE FAHNE، والتي تؤكد على الارهاب الشيوعي بالطريقة البلشفية. ويورد البيان:
يجب، في رأيهم، أن نحرق جميع الأبنية الحكومية، المتاحف، القصور وأهم المصانع، وأعطيت الأوامر بإرسال مجموعات من النساء والأطفال للقيام بأعمال إرهابية أثناء الاضطرابات والصدامات، ضد ذوي الرتب من رجال الشرطة، واكتشاف هذه المواد عرقل قيام الثورة البلشفية.
ثم أعلنت الشرطة أن إشعال الرابخشتاغ كان اشارة للحرب الأهلية، التي ينبغي أن يبدأها الشيوعيون مع الفجر، وهذا الخطر الهائل، ندجوبه من قبل غورينغ بأقسى الاجراءات، ومن ضمن ذلك الاعتقال الوقائي، للنواب الشيوعيين ولأعضاء اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الالماني. وحظر المطبوعات الشيوعية لأربعة أسابيع. وبما أن وفان در لوبه، قد اعترف بصلاته بالمطبوعات الاشتراكية الديمقراطية للحزب الاشتراكي الألماني الديمقراطي فقد أوقفت لمدة أسبوعين.
لقد حاولت حكومة هتلر بهذه البلاغات تبرير الضربة الموجهة إلى الحزب الشيوعي والحركة العمالية، والتي تم إعدادها منذ بداية شهر شباط. ووفقا للوائح معدة مسبقا، وبأوامر معدة مسبقا بالإعتقال، بدا المغاوير المستنفرون قبل الحريق بساعات، مطاردة حقيقية للمطلوبين الشيوعيين، والديمقراطيين. وفي بعض الحالات مضت مجموعات المغاوير لتنفيذ المهمات الملقاة على عاتقها في الوقت الذي كانت فيه سيارات الإطفاء تعمل على اخماد الحريق. وحتى الصباح تم اعتقال آلاف من الشيوعيين والاشتراكيين الديمقراطيين والمثقفين التقدميين غير الحزبيين الذين وضعوا على قوائم الهتلريين السوداء. ولكي تتم العملية على النطاق المناسب استخدم النازيون في برلين أكثر من ثلاثين ألفا من المغاوير ورجال الأس. اس، وأكثر من مليون شخص في المانيا بأسرها.
ولكي تستعر هستيريا العداء للشيوعية والسوفيات أكثر فأكثر، استخدمت المطبوعات النازية أكثر الأفكار غرابة: «حارق الرايخشتاغ «فان در لوبه متدرب في روسيا، ذلك ما أعلنته الوكالا تسايغري البرلينية بعد لقائها مع شرطة آمستردام، التي لم تصدر بيانا بهذا الشأن كما ذكر جورج? ديمتروف عام 1934. ولغاية استفزازية واضحة، فتشت شرطة غورينغ مقر الشركة السوفياتية للتجارة بالمنتجات النفطية «دير وب D
IR . OP
لم يكن احراق الرايخشتاغ من قبل النازيين مفاجاة تامة لقيادة الحزب الشيوعي الالماني. فبعد أن طرح الاشتراكيون الديمقراطيون اقتراحة بالتعاون المتبادل في النشاطات مع الشيوعيين، طرحت دورة اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الالماني في 7 فبراير مسألة اتباع نهج للنشاط في الظروف الجديدة ولحماية الكوادر من ضربات الدكتاتورية. وتوجه الحزب للحفاظ على الهدوء وتعرية مخططات الهتلريين الاستفزازية، لكن ضحايا عديدة وقعت بسبب معركة ما قبل الانتخابات على الرغم من الوضع شبه السري ونظرا للإجراءات التي اتخذها النازيون.
ومنذ 28 شباط / فبراير باتت الاعتقالات والارهاب سياسة رسمية، فتتم المداهمات صباحا وبعد الظهر وتعقد جلسات اللجنة باستمرار تحت إمرة الرئيس هيندنبورغ نفسه. وقد اجاب غورينغ عن سؤال: لماذا أعد الشيوعيون الاعتداء على الرايخشتاغ قائلا: «ان موسکو مددت الشيوعيين بأنها ستقطع المساعدات عنهم إن لم يفعلوا شيئا ينسف الانتخابات ..
مصادر و المراجع :
١- موسوعة الامن
والاستخبارات في العالم
المؤلف: د. صالح
زهر الدين
الناشر: المركز
الثقافي اللبناني للطباعة والنشر والتأليف والترجمة - بيروت
الطبعة: الاولى
تاريخ النشر:2002
م
1 أبريل 2024
تعليقات (0)