المنشورات

المخابرات تشعل نار الحرب العالمية الثانية

إن كل الحروب في التاريخ لم تكن وليدة الصدفة أبدا. وكل حرب لها أسرارها الخفية. والحرب العالمية الثانية لم تخرج عن هذا النطاق.
فما هو سر هذه الحرب، ومن أشعلها؟.
عندما اجتاحت مثات الدبابات الألمانية ومن ورائها مليون ومئتي ألف جندي الماني، وفوقهم 2000 طائرة رسم على أجنحتها (الصليب المعقوف). الحدود البولونية من جميع الاتجاهات، بتاريخ الأول من سبتمبر 1939 اصيب الجيش البولوني بالذهول وتمزق إربا إربا بعد أن تحولت المطارات ومستودعات الأخيرة والمحروقات البولونية الى قطع من اللهب والشظايا .. بهذا الهجوم عرف العالم في حينه والحرب الصاعقة. تلك الحرب الشاملة التي تنقض فيها القوى الضاربة من جميع الأسلحة على قوات العدو من الجو والأرض فتدمرها تدميرا كاملا ...
أما بالنسبة للجيش البولوني فقد فوجئ أية مفاجاة وهو لم يستكمل تعبته بعد بحيث لم يستطع القيام بأية أعمال دفاعية سوى بعض الأعمال الفردية التي منيت بالفشل حين أطبقت جحافل - البانزرز - فرق الدبابات الألمانية على العاصمة فرصوفيا ثم اندفعت باتجاه الحدود الشرقية المتاخمة للإتحاد السوفياتي، وكانت أوامر هتلر تقضي باحتلال بولونيا خلال خمسة عشر يوما. ولكن الاحتلال تم خلال عشرة أيام وأصبح نشيد والمانيا فوق الجميع بعزف في شوارع جميع المدن البولونية على وقع خطوات القوات الألمانية ... المنتصرة
أما في المانيا فقد أذيع البلاغ الحربي الأول على الشعب الألماني في نفس اللحظات التي دخلت القوات الألمانية بولونيا على الشكل التالي: بلاغ من القيادة العسكرية! هايل هتلر! ?
في هذه اللحظة ... وللمرة الأولى في ارضنا الألمانية فتحت القوات البولونية النظامية النار علينا ونحن نجيب على النار بالمثل منذ الساعة الخامسة من هذا الصباح، ثم كرر هتلر بالذات هذه الكذبة بعد عدة ساعات أمام المجلس النيابي «الرايخشتاغ، الذي انعقد بسرعة في قاعة (اوبرا کرول) في برلين وهو يرتدي بزته العسكرية. ثم اتبع ذلك بخطاب ناري بلهجة هستيرية حيث كان يقاطع بعد كل جملة بالتصفيق المحموم الذي يرتج له المبنى الضخم، ولا سيما حين تحدي فرنسا وانكلترا وأيضا الرئيس الأميركي روزفلت
عاد هتلر بعد ذلك راسة إلى مقر رئاسة الوزراء حيث كان بانتظاره مساعده الأول مارشال هرمان غورنغ مصحوبا بشخصية سويدية كبرى هي
بيرجد داهاروس، الذي كان هتلر قد كلفه سرا بمهمة (تسوية الجو في لندن، فاعلمه داهاروس برفض لندن لكل تسوية وبإخفاق مهمته بالتالي.
فاستبد الغضب بالفوهرر وأخذ يزرع أرض القاعة جيئة وذهابا وهو منفعل. ثم وقف وصاح بالرجلين: اذا كانت انكلترا تريد الحرب فلها ما تريد ... سوف أحاربها سنة كاملة اذا ارادت حربا تدوم سنة ... وإذا أرادت الحرب لسنتين فسوف أحاربها لسنتين ..... واذا استلزم الأمر فسوف أحاربها المدة عشر سنوات.
أما الشعب الألماني فتراه على عكس زعيمه. فحين توجه موکب هتلر الى قاعة اوبرا کرول، ذلك الصباح كان الألمان يشعرون بالوجوم الشديد، وبان المستقبل بحمل لهم في ثناياه شرا مستطيرة. لذلك كانت الشوارع خارية يهيمن عليها صمت مستغرب في هذه المناسبة مرور موكب هتلر - الذي كانت تحيط به الجماهير ماتفة هازجة ... أما في ذلك اليوم فإن البرلينيين القلائل الذين مر بهم الموكب في طريقه ظلوا جامدين اشبه بالنافرين أو المذهولين، وكانما استيقظ الشعب فجاة من النشوة التي كان ثمة بها منذ ست سنوات، أو بصورة أدق منذ وصول هتلر الى الحكم أي بالتالي منذ شرع «جوزف غوبلز، وزير الدعاية النازي يصب عليهم الأنباء المهيجة المحمومة والمضخمة ... على أن جميع هذه الدعاية والجهود لم تقنع الشعب الألماني بضرورة الحرب بدليل ما كتبه المؤرخ الألماني (وليام شيرز) يوم 31 أغسطس/آب بالذات أي في اليوم السابق للغزو الألماني لبولونيا: إن الناس جميعا في المانيا ضد الحرب وهم يعلنون ذلك بصورة مكشوفة فكيف يمكن والحالة هذه إجبار شعب على خوض حرب لم يتقبل فكرتها، ... بيد أن هتلر يعلم أن موافقة الجماهير ليست الشيء الأساسي بالنسبة لمخططاته. فهو يحتفظ بالكثير من السهام في جعبته وأولها ألة الدعاية العملاقة الكفيلة بحمل الجماهير على اعتقاد ما يشاء لها، وقد صارح جنرالاته قائلا: سوف تخلق لي الدعاية السبب اللازم للحرب ولن يجرؤ أحد في المستقبل على سؤال المنتصر عما اذا كان قد قال الحقيقة. وما يجب مراعاته في الحساب هو أن من يعلنون الحرب لا يهدفون إلى الحق بل الى النصر. أما الحق فهو ملك المنتصر ...
تمثل هذه الكلمات استراتيجية هتلر في هذه المعركة الأولى. فقد كان واثقة من قدرته على إحراز نصر ساحق على بولونيا فلم يعد أمامه والحالة كذلك سوى العثور على سبب يبرر اعلان الحرب. وقد وجد بالفعل هذا السبب في عمليته المسماة والأطعمة المحفوظة.
فما هو سر هذه العملية؟.
في الواقع لم تكن الرصاصات التي أطلقها رشاش الدبابة الأولى التي اقتحمت الحدود البولونية هي الرصاصات الأولى التي أطلقت في الحرب العالمية الثانية. بل سبقنها في الليلة المنصرمة رصاصات أخرى اطلقها رجل مخابرات.
ففيما كانت فرق البانزرز وطائرات اللوفتواف تندفع على بولونيا في ذلك الصباح الباكر، كان الرجل الذي أطلق الرصاصات الأولى يدلف الى منزله ليغط في نوم عميق يستعيض به عن الجهد الذي بذله في مهمته الليلية الناجحة دون أن يدور في خلده أن ما قام به سيكون له نتائج وخيمة: الحرب العالمية الثانية، ودون أن يدرك أحد أنه هو الذي أطلق الرصاصات الأولى في هذه الحرب.
كان هذا الرجل هو ضابط المخابرات الألماني الملازم ألفريد هلمنت نوجوکس، أحد الأعوان المقربين من «رينهارت هايدريش، رئيس جهاز الأمن السري في فرق ال  s - s  أي الفرق النازية الخاصة. وقد بدأت مهمته في و أغسطس 1939 حين استدعي الى المقر الرئيسي للمخابرات الألمانية في برلين حيث وجد رئيسه بانتظاره منتصبا بقامته المديدة وشعره الأشقر مرتديا بزته الرسمية الخاصة بفرق ال  s - s  الذي بادره بقوله: أنت الرجل الذي يلزمنا في هذه المهمة. وأخذ يشرح له المهمة التي سميت والأطعمة المحفوظة بالشيفرة، ولم ينس أن يؤكد له أن هتلر نفسه قرر هذه العملية
كانت العملية تقضي بان يقوم نوجوکس بهجوم مفتعل على محطة اذاعة غليونيز، الالمانية من الحدود البولونية بصورة يكفل معها حصول القيادة الالمانية على البرهان الكاني على أن هذا الهجوم حدث بفعل من القوات البولونية ... واختتم هايدريش حديثه إلى نرجوكس بالتعليمات التالية:
ستذهب لمقابلة ومايتريغ مولر، رئيس المخابرات الألمانية (الغستابي الذي سيسلمك سجينة ونيابة عسكرية بولونية. وسيكون هذا السجين ضحية الاعتداء الذي ستتركه القوة المهاجمة صريعا خلفها لدى انسحابها. من البديهي أن احتمال الإخفاق في هذه المهمة يعتبر خارج نطاق البحث بصورة مطلقة ...لم يدهش نوجوکس لطبيعة المهمة. فقد نفذ هو شخصية ما يفوقها غرابة حين ارسل الى سلوفاكيا وأخذ يلقي المتفجرات وافتعال الاعتداءات، وذلك قبيل غزو المانيا التشيكوسلوفاكيا.
بالعكس فقد وجد أن مهمته هذه اسهل من ذهابه إلى سلوفاكيا وتعريض نفسه للخطر هناك. كل ما يطلب منه مهاجمة محطة اذاعة المائية وضمن الأراضي الألمانية واحتلالها لفترة وجيزة، ومن ثم اذاعة بيان يهين فيه المانيا ويتوعدها، وستكون جميع الاذاعات الألمانية مفتوحة لتلقي هذا البيان وبثه في المانيا لتهييج الراي العام الالماني. ولكن نوجوکس دهش في اليوم التالي للعملية حين علم باندلاع الحرب.
و اما متلر فقد حدد اول شهر سبتمبر 1939 موعدا للهجوم على بولونيا وأسر بذلك للجنرال کايتل، وكلف الأميرال كاناريس رئيس إدارة مخابرات الجيش الألماني بالاستعلام عن احتمال دخول فرنسا وبريطانيا الحرب الى جانب بولونيا، وعندما أبلغه الأميرال كاناريس أن لندن مصممة على حماية بولونيا لم يصدق ذلك، وظل معتزمة الإقدام على مغامرته. بيد أنه كان ينقصه اللمسة الأخيرة والأساسية في مخططه هذا وهي الحصول على السبب اللازم، الذي يستحيل فيه عليه الرجوع الى الوراء، وانه بالتالي سيقامر بمصيره ومصير المانيا، وهكذا قر رأيه أخيرة على عملية والأطعمة المحفوظة وصدرت أوامره الى مساعديه الذين شرعوا في البحث عن الرجل القادر على تنفيذ هذه العملية. وكان نوجوكس الرجل المنشود ...
كان هتلر مدركا كل الادراك ما هو مقدم عليه عندما اتخذ قراره شخصية بشأن عملية والأطعمة المحفوظة. فهو يعلم أنه بخاطر بدخول الطريق الذي يستحيل فيه عليه الرجوع الى الوراء. وأنه بالتالي سيقامر بمصيره ومصير المانيا ومصير العالم اجمع. فلم يثنه ذلك عن عزيمنه وقرر المضي في لعبته حتى النهاية. لذلك لم تصدق شعوب العالم أذنيها وهي تستمع طيلة شهر أغسطس/ آب 1939 الى تصريحات متلر تنادي بالسلام والوئام ورغبة شعب المانيا في تجنب الخلافات مع جيرانه طالبا منهم حسن الجوار والصداقة والعلاقات الودية , وكان هتلر في أوج خداعه للعالم عندما رفع غصن الزيتون نجاة، ولم يعلم أحد أنه بعد في الخفاء لضربته الكبرى. وعندما قال هايدريش الى نوجوکس ان احتمال الإخفاق في هذه المهمة يعتبر خارج نطاق البحث بصورة مطلقة ... كان يعني بذلك الاعدام الفوري لنوجوکس ورفاقه في حالة الاخفاق.
لذلك انصرف نوجوکس الى دراسة مهمته دراسة دقيقة مستعينا بالخرائط الجوية لمنطقة الحدود. كما سلمه كاناريس الملابس العسكرية والأسلحة البولونية، وخصص له صالة فسيحة في أحد المعسكرات التدريب رجاله السنة الذين اختيروا بدقة لهذه المهمة
بعد اتمام الدراسات والتدريب غادر نوجوکس برلين مع رجاله کمسافرين عاديين واتجهوا إلى بلدة «غليوتيز، حيث حلوا في أحد فنادتها، وسجلوا أسماءهم مهندسين مما يبرر انصرافهم الى دراسة الأراضي المجاورة للبلدة ومنها الأراضي المحيطة بمحطة الإذاعة طيلة عدة أيام، ثم استدعي نوجوکس الى مدينة «أوبلن» في الأيام الأخيرة من شهر أغسطس المقابلة رهايتريغ مولر، رئيس الغستابو، الذي أبلغه أن الخطة قد توسعت مجددا وأنها أصبحت تقضي بتدبير عدد من حوادث الحدود، وأنه أحضر بالتالي عشرة من السجناء العاديين المحكوم عليهم بجرائم مختلفة؛ وسيقوم أحد الأطباء التابعين للمخابرات بحقنهم بمادة مخدرة ثم تستبدل ثيابهم بثياب عسكرية بولونية وتوضع في ايديهم أسلحة بولونية تمهيدا لإطلاق النار عليهم في منطقة الحدود، حيث ستترك جثتهم کشواهد على العدوان البولوني المزعوم حين بنهال الصحفيون على المنطقة الحدودية في الأيام التالية لتغطية هذه الأحداث.
وعاد نوجوکس الى بغليوتبز، ونفذ القسم الأول من مهمة الحدود وأطلقت النار على السجناء الجنود البولونيين) وحضر الصحافيون وتوترت الأحوال على الحدود حتى ظهر 8/ 31 / 1939 عندما استلم نوجوکس البرقية الآتية: اتصل بمولر لاجل الأطعمة المحفوظة». وقد اتصل بمولر فعلا وأعلمه أنه مستعد للتنفيذ. ثم توجه الى غابة رايتبورة الملاصقة للحدود حيث ارتدي الألبسة العسكرية البولونية هو ورجاله. وفي الساعة السابعة والنصف مساء اقتحم نوجوکس محطة الإذاعة التي لم يكن فيها سوى فنيين يشرفون على الأجهزة الفنية، وأطلق الرصاصات الأولى فاستسلم الفنيون فورا، ثم توجه الى ميکروفون الاذاعة وأمر أحد الفنيين ببدء الارسال ثم ألقى خطابا جامحا ماجم فيه المانيا وكال لها الشتائم والتهديدات والاهانات الجارحة. وكان هذا الخطاب معدة سلفا في إدارة المخابرات الألمانية، وأطلق بعد ذلك مع رجاله عدة طلقات على البناء ثم اختفوا. وقد دام هذا الهجوم مع إذاعة الخطاب دقائق معدودة. وأمام درجات المدخل وضعت جثة السجين وهو برندي الملابس العسكرية البولونية إمعانا في التضليل.
نذر لتلك الرصاصات التي أطلقت في هذه المهمة من قبل ضابط المخابرات الألمانية نوجوکس أن تكون ابتداء الحرب العالمية الثانية التي امتدت كالنار في الهشيم حتى أغرقت العالم كله بالدمار والويلات وملايين القتلى والجرحى وبحر من الدماء لم تشهد له الانسانية مثيلا لا سيما وقد ختمت هذه الحرب الضروس الولايات المتحدة الأميركية بإلقائها قنبلتين ذريتين على مدينتي هيروشيما وناغازاكي في اليابان، حيث تتل عشرات الألوف خلال أقل من ساعة، واستمرت هذه الحرب حتى انتصر الحلفاء ودخلوا المانيا ظافرين وانتهى متلر منتحرة أو مقتولا. وطوت الأيام والسنون ذکريات هذه الحرب المدمرة ليبقى منها ما خلاصته أن المخابرات هي التي أشعلت الحرب العالمية الثانية.
ولكن لو قرأ الحلفاء كتاب كفاحي، لهتلر قبل هذه الحرب، لوفروا على البشرية الكثير من الآلام والدماء والعذاب، لأن هذا الكتاب بمثل عصارة العقل الهنلري النازي الجهنمي وتخطيطه المستقبلي، وكان بالإمكان تلافي كوارثه ومآسيه.
- المراجع
أ. سعيد الجزائري المخابرات والعالم، مطابع دار الحياة. بيروت.
الطبعة الثانية. لا تاريخ. 2? حافظ ابراهيم خير الله والمخابرات الألمانية. (ملف عالم
الاستخبارات). توزيع الشركة الشرقية للنشر والتوزيع. بيروت 1971.







مصادر و المراجع :

١- موسوعة الامن والاستخبارات في العالم

المؤلف: د. صالح زهر الدين

الناشر: المركز الثقافي اللبناني للطباعة والنشر والتأليف والترجمة - بيروت

الطبعة: الاولى

تاريخ النشر:2002 م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید