المنشورات
الدور الأميركي في المنطقة حتى الاجتياح الإسرائيلي للبنان في 4 حزيران 1982:
من المؤكد أن التحركات الأميركية في المنطقة العربية كانت تنطلق أولا وقبل كل شيء من المصلحة الإسرائيلية المترابطة والمتداخلة مع مصلحتها، باعتبار أن الاهتمام الذي توليه أميركا الإسرائيل، يفوق اهتمامها بإحدى ولاياتها الواقعة داخل الحدود الأميركية، خاصة وأن الولايات المتحدة تعتبر الدولة الصهيونية قاعدة لها ومرتكزة تضمن من خلاله جميع الامتيازات والمصالح الأميركية حتى أنه أصبح من الضروري القول: إن أمن الولايات المتحدة هو من أمن إسرائيل، وأي مساس بالأمن الإسرائيلي يعتبر بحد ذاته مساس بأمن أميركا نفسها.
وقد أكد وزير الخارجية الأميركي السابق سايروس فانس على هذه المقولة اثر مناقشة مطولة لأول مرة بينه وبين الرئيس جيمي كارتر في منزل هذا الأخير في دبلنزه حول الشرق الأوسط في أواخر عام 1976، عندما قال إنه لم يكن محلا للسؤال أن حجر الأساس في سياسة كارتر حيال الشرق الأوسط سيبقى هو التزامنا بأمن إسرائيل» (1)
وعند دراستنا لهذه المسألة بكثير من العمق لاستشفاف أبعاد الاهتمام البالغ بمنطقة الشرق الأوسط من قبل أميركا وفي فترة هامة من عمر المقاومة الفلسطينية التي أصبح أمر تصفيتها صعبة بل ومستحيلا، في الوقت الذي تصرح فيه رئيسة وزراء العدو الصهيوني غولدا مائير قائلة: «إن أية ثورة مضى عليها عشر سنوات ولم يستطع القضاء عليها، فمن الصعب تصفيتها بعد ذلك،، عندئذ ندرك معنى الفرز الأميركي لخبراء واختصاصيين في هذه القضية توكل إليهم مهمة وضع الحلول الملائمة. طبعا للمصلحة الأميركية والصهيونية. عبر كل الطرق والوسائل التي تكفل الوصول إلى ما يضمن ذلك، ومن هنا كان التركيز على خبراء الاستخبارات الأميركية وكبار سياسييها من المشهود لهم بالكفاءة والخبرة والاطلاع في هذا المضمار.
ويشير وزير خارجية الولايات المتحدة السابق سه يروس فانس إلى هذا الموضوع الشرق أوسطي قائلا ومعترفة في الوقت ذاته بالعامل الاستخباراتي الهام بأنه «كان المستشاران الرئيسيان لي حول الشرق الأوسط هما «روي (الفريد) أثرتون، الذي كان عندئذ مساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق الأوسط وجنوب آسيا، ثم اصبح سفيرة فوق العادة في مفاوضات الشرق الأوسط، ورهال (هارولد) سوندرز، الذي كان عندئذ مدير الاستخبارات والأبحاث ثم خلف أثرتون.
وكان هذان الدبلوماسيان اللذان يتميزان بكفاءة غير عادية يتمتعان بفهم لا مثيل له للمسائل العربية - الإسرائيلية، إذ كان كل منهما منغمسة في المشاكل العربية - الإسرائيلية لأكثر من خمسة عشر عاما. وقد تضاعفت هذه المؤهلات بقدرتهما الملهمة على العمل معا ومع آخرين من خارج وزارة الخارجية دون منافسة بيروقراطية. وقد
كانت تحليلاتهما ومساندتهما البريئة من المصلحة والصبورة والغنية بالخيال حيوية المشاركتنا في عملية السلام على مدى السنوات الثلاث التالية.
وبمشاركة «أنطوني لاكه، المدير اللامع الذي لا يقدر، للتخطيط السياسي في وزارة الخارجية والذي اعتمدت عليه اعتمادا كبيرة في العديد من الأمور، قام سوندرز وأثرتون والعاملون معهما بمراجعة شاملة للوضع في الشرق الأوسط في مطلع 1977، وقدموا الخيارات السياسية العريضة التي اعتقدوا أنها مفتوحة أمام إدارة كارتر. وقد شاركهما في هذا المشروع الرجل الموهوب واسع الخيال ويليام كوانت، خبير الشرق الأوسط في مجلس الأمن القومي. ولقد عمل كوانت بانسجام كلي مع نظرائه في وزارة الخارجية، ولقد كان التعاون بين هذا الفريق المشترك نموذجا يحتذيه الأخرون ... (2). و في هذه الفترة كان على رأس وكالة المخابرات المركزية الأميركية (. C
1 . A) الأميرال «ستانزفيلد تيرنر، الذي بقي يدير عملياتها منذ عام 1977 حتى 1981. ومن المسلم به أن نيرنره لعب دورا أساسيا إلى جانب المخابرات الإسرائيلية في عملية اجتياح لبنان في الخامس عشر من آذار 1978، حيث من المستحيل أن يتم ذلك بدون علمه كرئيس للوكالة المركزية من جهة، وبدون تخطيطه وموافقته وإرشاداته وتوجيهاته من جهة ثانية، وقد اعترف انيرنره في الثالث عشر من آذار 1983 في واشنطن بأن وكالة المخابرات امركزية حاولت في عهد الرئيس جيمي كارتر الإطاحة بالعقيد معمر القذافي في ليبيا، وبالرئيس الكوبي فيدل کاسترو، ونظام نيكاراغوا وحكم الإمام آية الله الخميني في إيران. لكنه لم يعط مزيدا من التفاصيل حول الطرق التي بحثت أو يحدد أسباب رفضها")، وبالنظر إلى طبيعة الثقل الأساسي للمقاومة الفلسطينية على الساحة اللبنانية، فقد حظيت باهتمام بالغ في الاستراتيجية الأميركية - الإسرائيلية، في الوقت الذي مثل فيه حليف المقاومة على هذه الساحة، والمتمثل بالحركة الوطنية اللبنانية، مصدر إزعاج مشترك بالإضافة إلى القلق المتزايد من جراء النمو والالتفاف الشعبي حول هاتين الحركتين اللتين اعتبرنا حركة واحدة وخطرة واحدة على جدول الاستخبارات الصهيونية - الأميركية.
ونتيجة لذلك، فقد بلغ التنسيق المخابراتي الأميركي - الإسرائيلي شكلا أرقي في لبنان حيث تبين أن الاستخبارات الإسرائيلية جندت عددا من العملاء في عام 1980 ثم أحالتهم إلى الاستخبارات الأميركية ليعملوا في لبنان. وتمكن هؤلاء العملاء من التوغل في الأوساط الوطنية قبل اكتشافهم. وكان «جيمس بلن»، رئيس القسم السياسي في السفارة الأميركية في بيروت وشقيق الحاخام الأعلى في مدينة نيويورك، يدير شبكة وكالة المخابرات المركزية الأميركية في بيروت، والتي عمل فيها العملاء المذكور ون. وكانت المهمة الرئيسية المعهودة، إلى هذه الشبكة، هي التجسس على الحركة الوطنية اللبنانية والمقاومة الفلسطينية لمعرفة معلومات عن قواعدها ومستودعات أسلحتها، وتقديم هذه المعلومات للاستخبارات الإسرائيلية (7).
ومما لا شك فيه أن هذه المعلومات التي تمكن هؤلاء العملاء من الحصول عليها، لعبت دورها الهام في توجيه الضربات الإسرائيلية إلى قواعد المقاومة إن كان ذلك في مخيمات تواجدها أم خارجها، وبصورة خاصة، أثناء الاجتياح الصهيوني اللبنان في الرابع من حزيران 1982.
ومن خلال التصريحات التي أدلى بها كبار المسؤولين في الولايات المتحدة و إسرائيل، في تلك الفترة، تبرز لنا بوضوح أهمية التنسيق الأميركي - الصهبوني، ليس على صعيد الاستخبارات وحدها، بل على مختلف الأصعدة وأكثرها أهمية، وقد وصل الأمر بالرئيس الأميركي ريغان، أن يعلن في أول لقاء له بالصحفيين الأميركيين
تاريخ الثالث من شباط 1981 آن على أميركا أن تنشئ وجودة استراتيجية أمنية في المنطقة لكي يعلم السوفيات أن أميركا مستعدة للمواجهة، وأن «إسرائيل» التي تشاركنا في المبادي، بجهازها العسكري المستعد للقتال وله تجارب قتال، هي قوة مفيدة النار (8).
في هذا الإطار، تبدو السياسة الأميركية إزاء «إسرائيل» من جانب رؤساء الولايات المتحدة ووزراء خارجيتها على وجه الخصوص، وكانها من آيات الله البينات، وقد كان الرئيس السابق جيمي كارتر ووزير خارجيته فانس من الذين أعلنوا عنها صراحة وبكل وضوح. وجاء خليفته ريغان ووزير خارجينه هيغ للسير على سياسة السلف بل وتعميقها بصورة جذرية، وبشكل يؤدي أحيانا إلى ترداد التصريحات ذاتها التي كان يطلقها كارتر وهيغ في هذا الموضوع. -: من هنا نرى بأن الجنرال هيغ، خلال زيارته الإسرائيل، في أوائل نيسان 1981، أكد أن أميركا وإسرائيل، ستعملان معا لمواجهة الأخطار المشتركة بما فيها الخطر العسكري والإرهاب العالمي. وقال هيغ بعد اجتماعه بوزير الخارجية الإسرائيلي إسحق شامير ورئيس الوزراء مناحيم بيغن: بحثنا مع اصدقائنا وسائل مواجهة خطر السوفيات وعملائهم في المنطقة. وإن التزامنا بأمن إسرائيل، هواساس السياسة الأميركية في الشرق الأوسط، وأن الرئيس ريغان وأنا نؤمن بأن الإسرائيل دورا هاما في حماية مصالحنا الاستراتيجية في المنطقة (1)، على هذا الأساس، كان التركيز على لبنان، وعلى السفارة الأميركية تحديدا. إذ أن دروبرت کلايتون إيمز، من اقدر وافضل الخبراء الأميركيين في شؤون الشرق الأوسط، كان مديرا لمكتب تحليلات وكالة المخابرات المركزية الأميركية لشؤون الشرق الأوسط وجنوب آسيا، والذي تابع تطوراتها لعشرين عاما. وفي عام 1981، قرر «إيمز، تقوية مركز الرصد التابع للوكالة والعامل في نطاق السفارة الأميركية في بيروت، حيث أوفد إليها مساعده ابول ليبنغول، وكان يعمل تحت ستار ملحق بالسفارة، والآنسة اليزا بياسيلا، وكانت تعمل كزميلها دوغلاس غرين، كسكرتيرة ثالثة في سلك السفارة الأميركية، وقد قضى هؤلاء الثلاثة نحبهم في حادث الانفجار الذي تعرضت له السفارة بتاريخ الثامن عشر من نيسان 1983، مع رئيسهم «روبرت ايمز» نفسه. إلا أن الرئيس الإداري لمركز الرصد دريان کوگر، كان خارج نطاق دائرة الانفجار في مكان ما في السفارة بعيد عن واجهتها، فنجا من الموت المحقق بأعجوبة (10).
ومن المؤكد أن هذا الجهاز، جهاز الرصد الأميركي في السفارة، لم يكن بعيدة عن رصد تحركات المقاومة وقيادتها، وكذلك الحركة الوطنية اللبنانية، وتسليم هذه المعلومات للاستخبارات الإسرائيلية عبر ممثليها الكثر في السفارة الأميركية في بيروت، أو في أي مدينة أخرى، كي نتعامل «إسرائيل، مع هذه المعلومات، على الأرض، تماما كما تعاملت في العاشر من نيسان عام 1973، اثناء عمليتها في قلب بيروت، في شارع فردان، حيث كان للسفارة الأميركية دورها الأول في هذا المجال.
هذا ولم يقتصر التنسيق الأميركي - الإسرائيلي على الشكليات والعمل الميداني المحدد؛ بل انتقل إلى تكريسه بعقود واتفاقات ومعاهدات تضمن استمراريته وديمومنه. فنتيجة المباحثات التي جرت بين وزير الدفاع الإسرائيلي آرييل شارون، ووزير الخارجية الأميركي الجنرال هيغ، صدرت اتفاقية التفاهم الأميركي - الإسرائيلي حول التعاون الاستراتيجي بتاريخ 30 تشرين الثاني 1981. وقد أكدت الاتفاقية ران العلاقة بين أميركا و «إسرائيل، مبنية على علاقة الأمن المشترك للبلدين، وضرورة التعاون الاستراتيجي لمواجهة جميع التهديدات السوفياتية في المنطقة. كما نص البند الأول منها على أن التعاون الأميركي - الإسرائيلي الاستراتيجي مبني لمواجهة تهديد سلام وأمن المنطقة من قبل الاتحاد السوفياتي والقرى التابعة للسوفيات
وأوضحت الاتفاقية مجالات التعاون الأميركي - الإسرائيلي الاستراتيجي خاصة في مجال التدريبات العسكرية المشتركة وأعداد القوات المستعدة للتدخل، وتبادل المعلومات العسكرية، والقيام بمناورات مشتركة شرق البحر الأبيض المتوسط، وتخزين الأسلحة والمعدات الأميركية العسكرية في قواعد عسكرية بإسرائيل (11).
لم يقتصر الدور الإسرائيلي من خلال هذه الاتفاقية، على ما يبدو، على منطقة الشرق الأوسط وحدها. وقد أوضح وزير الدفاع الإسرائيلي شارون في تصريح له بتاريخ الرابع عشر من كانون أول 1981، في معهد الدراسات الاستراتيجية بجامعة تل ابيب قائلا: «إن اتفاقية التفاهم بشأن التعاون الاستراتيجي بين أميركا و «إسرائيل» تشكل الخطوة الأولى العلاقة أمنية مثمرة ومفيدة ومتمشية مع سياسة الدفاع التي طرحتها ... ثم يضيف قائلا: إن دور إسرائيل بتعدي منطقة الشرق الأوسط، ويشمل دول تركيا وإيران وباكستان ومنطقة الخليج وإفريقيا الشمالية، وإن على «إسرائيل، أن تلعب دورا استراتيجية وتحافظ على تفوقها العسكري في المنطقة (12)
وهذا ما أكدته رئيسة الوفد الأميركي إلى الأمم المتحدة وجين كيركباتريك، في مقال عن أميركا الوسطى في العشرين من نيسان 1983، حول الخطر الذي يهدد الأمن الأميركي، لكنها تعدت الأمن الأميركي لتحدث عن الأمن الإسرائيلي في أميركا الوسطى. وقد قالت السفيرة الأميركية: هناك خطة لخلق أميركا وسطي شيوعية لو نجحت تكون لها نتائج خطيرة على أمتنا وعلى أمن حلفائنا الأوروبيين وعلى مركز إسرائيل الدولي،. خطورة هذا الكلام هو أن مسؤولة أميركية بمستوى كيركباتريك كانت مرشحة لمنصب سكرتير مجلس الأمن القومي، تمد أمن إسرائيل إلى أميركا الوسطى، مما يؤكد أن تحالف أميركا مع إسرائيل ليس قاصرة على الشرق الأوسط وإنما يتعداه إلى أميركا اللاتينية (13)
مصادر و المراجع :
١- موسوعة الامن
والاستخبارات في العالم
المؤلف: د. صالح
زهر الدين
الناشر: المركز
الثقافي اللبناني للطباعة والنشر والتأليف والترجمة - بيروت
الطبعة: الاولى
تاريخ النشر:2002
م
2 أبريل 2024
تعليقات (0)