المنشورات

قضية أهارون كوهين:

مثلت قضية تجسس البروفسور أهارون كوهين لصالح الإتحاد السوفياتي أيضا، ضربة مؤلمة على دماغ المؤسسة العسكرية والتكنولوجية والسياسية الإسرائيلية، فضلا عن تأثيرها الهائل على المؤسسة الأمنية الصهيونية ذاها، خاصة بعد أن اعترف رئيس الموساد وقتذاك، إيسر هارئيل أن المعلومات التي حصل عليها جهاز الموساد بشأن قضية أهارون كوهين، والتي أدت إلى إعتقاله، وصلت إليه
صدفة " (8).
وبالنظر إلى أهمية أهارون كوهين واعتباره من المستشرقين الكبار في دولة الإحتلال الصهيوني، وبحجة تأليف عدد من الكتب حول العرب في الشرق الأوسط، ربط كوهين علاقته بالسوفيات، واستعان بالكتب السوفياتية منهم لجمع معلوماته وتغذية معرفته وأبحاثه - كما قال -.
والجدير بالذكر، أن أهارون كوهين كان من أنشط الحزبيين في حركة "هشومير هتصعير" (الحارس الشاب) في الثلاثينات. كما كان نشيطا في تأييده للعرب، إضافة إلى كونه فيما بعد رئيسا للشعبة العربية التابعة للكيبوتس القطري. وعندما ألقي القبض عليه كان قد وصل الى القمة الهرمية في "حزب مبام"، ومنافسة لزعيم الحزب مائير يعاري ونائبه يعقوب حزان.
كان البروفسور أهارون كوهين يسكن في كيبوتس "شاعر هعماكيم" بوابة الأغوار)، وكان لقضيته التجسسية "نكهة مميزة في الأوساط الإسرائيلية. ويؤكد إيسر هارئيل نفسه ذلك بقوله:" كانت قضية أهارون كوهين ذات خصائص مميزة؛ فكوهين كان عضوا في كيبوتس، ووجها جماهيرية معروفة، ونشيطة حزبية لامعة. ولكل هذه الأسباب مجتمعة، فقد تحولت محاكمته الى محاكمة ذات صبغة سياسية، وضعت جهاز الإستخبارات الإسرائيلي وأمانته على محك الإختبار " (9).
كان أهارون كوهين يلتقي بعدد من مسؤولي جهاز الاستخبارات السوفياتية العاملين في دولة الإحتلال الصهيوني، والذين يتخذون من العمل الدبلوماسي في سفارة بلادهم هناك، ساترة وغطاء لعملهم التجسسي. ونذكر من بينهم "فيسجونوف" و "سوكولوف" و " فيتالي بابلوفسكي" عضو البعثة العلمية السوفياتية الموجودة في القدس، والذي كان يجتمع سرة مع كوهين في حقول الكيبوتس قبل إلقاء القبض على أهارون. وكانت الحقائق والمعطيات التي توفرت لدى أجهزة الأمن الإسرائيلية حتى ذلك اليوم - كما ذكر هارئيل - (10) هي على النحو
التالي:
1 - هناك لقاءات دورية تجري بين الدبلوماسي السوفياتي وبين أهارون كوهين. 2_ الدبلوماسي السوفياتي يوقف سيارته بجوار بوابة الكيبوتس الخلفية، حيث يجري اللقاء تحت غطاء (عطب في المحرك). 3 - أضواء السيارة تكون أثناء وقوفها مطفأة. 4 - تقوم السيارة بإنزال الدبلوماسي منها والإبتعاد عن مكان اللقاء. هر في أعقاب إنتهاء اللقاء المحدد سلفا، والذي يستغرق حوالي ساعة تعود السيارة لالتقاط الدبلوماسي.
- يقوم أهارون كوهين بانتظار الدبلوماسي الروسي بجوار بوابة الكيبوتس ثم يصطحبه داخل الحقول حتى يحول دون توجه أي عضو من الكيبوتس للدبلوماسي وسؤاله عما يفعله داخل الكيبوتس. 7 - جميع السيارات التي حملت الدبلوماسي الروسي كانت مسجلة على أنها سيارات عملاء إستخبارات سوفيات. وقد أشارت هذه المعطيات بوضوح، الى الجهد الذي يبذله الطرفان لإخفاء أمر هذه الإتصالات والعلاقة عن الجميع ..
إستخدم رئيس الموساد، إيسر هارئيل، الحيلة في إعتقال أهارون کوهين، عندما إستدعاه لإجراء حوار هادئ معه - كما يقول - في مكتب الإتصال التابع لوزارة الخارجية الإسرائيلية، وكان ذلك في السابع عشر من تشرين الأول سنة 1958. وبعد تحقيق مطول من هارئيل مع كوهين، بحضور شموئيل ديبون، مدير شعبة الشرق الأوسط في وزارة الخارجية، تأكد هارئيل على أثره أن أهارون كوهين "يكذب"، فحوله إلى رئيس الشعبة الأمنية مباشرة عله يتمكن من "إقناعه ببراءته"، لكنه لم يوفق - على ما يبدو - بانتزاع الإعتراف بلقاءات كوهين السرية مع العملاء السوفيات، الأمر الذي أدى إلى نقل القضية للشرطة، حيث قام الرائد ير کوي، رئيس دائرة شعبة المهام الخاصة في الشرطة باعتقاله فعلا ... ويؤكد إيسر هارئيل أنه في السادس والعشرين من تشرين الأول 1908، طلبت السفارة السوفياتية من السلطات الإسرائيلية منحها تأشيرة خروج وعودة للدبلوماسي السوفياتي فيتالي بابلوفسكي وزوجته. وفي الثلاثين من نفس الشهر غادرا "إسرائيل" ولم يعودا اليها أبدا (11).
وفي الوقت الذي تسب فيه خير إعتقال أهارون كوهين الى الصحف ووسائل الأنباء، إرتفعت صيحة "الفضيحة السياسية في دولة الإحتلال الصهيوني، فضلا عن "الفضيحة الأمنية". ونظرا لخطورقا الكبيرة، فقد عرفت قضية محاكمته مد وجزرة، قلما شهدها السلطات الإسرائيلية على اختلافها من قبل، حيث صدر الحكم بحقه في التاسع من كانون الثاني سنة 1963، وذلك عن محكمة حيفا المركزية برئاسة شلوم کوسان، رقضي بحبسه لمدة خمس سنوات فعلية، ثم خقف الحكم فيما بعد إلى عامين ونصف، قضى منها سبعة عشر شهرة في السجن قبل أن يطلق سراحه بعفو من رئيس دولة الإحتلال الصهيوني". ثالثا: قضية البروفسور کورت سيطة:
لم تكن قضية البروفسور کورت سيطة، أقل أهمية وخطورة من قضيتي بير وكوهين. إذ كان سيطة عالم تشيكوسلوفاكيا رفيعة، ومن ألمع العلماء وأشهرهم يومذاك في دولة الإحتلال، كما يقول ميشال بار زوهار (12). يكفي أن نلقي نظرة صغيرة على مكانته لندرك مدى الضرر الذي نتج عن تعامله مع الإستخبارات التشيكية، وبالتالي السوفياتية، نظرا للترابط بين الجهازين والعلاقة المتينة بينهما.
فقد كان البروفسور سيطة رئيس شعبة الفيزياء في كلية الهندسة التطبيقية بحيفا (معهد التخنيون)، والخبير الكبير في أبحاث الفضاء، واحتل مكانة رفيعة في الأوساط العلمية الإسرائيلية، وأصبح ذائع الصيت.
إستمرت الإتصالات بين البروفسور كورت سيطة وضباط إتصاله من العملاء التشيكيين، طيلة خمس سنوات متواصلة، كان خلالها يلتقي بهم مهما كانت الأوضاع، أو الأحوال الجوية. وقد إضطر البروفسور في العديد من المرات للإنتظار ساعات طويلة، القدوم العميل التشيکي، وتحت الأمطار الغزيرة في إحدى الحدائق العامة. أضف إلى ذلك دعواته الكثيرة إلى الإجتماعات العلمية الأوروبية، وقيامه بزيارة وطنه تشيكوسلوفاكيا لأربع مرات، حيث تم إستجوابه هناك بشكل مطول - كما يقول هارئيل (13) - وأمر بأن يستغل زياراته الكثيرة الى الدول الأوروبية، لجمع المعلومات، عن الجديد في مجال تخصصه وخاصة في المانيا الغربية.
أما عن دولة الإحتلال الصهيوني، فقد أعلم سيطة الإستخبارات التشيكية بكل ما بحوزته من مجال العلوم والأبحاث الإسرائيلية، وعلى وجه الخصوص، الأبحاث والعلوم العسكرية والنووية. كما طلبت منه أن يخبرها بجميع ما يعلمه عن طلبته اليهود، ممن هاجروا من إحدى الدول الشيوعية، كي يمكن ممارسة الضغوط على أقربائهم الباقين، الحثهم على إرغام أولئك الطلبة، على التعاون معها.
ومهما حاول إيسر هارئيل أن يقزم خطر سيطة ويفرغه من قيمته الحقة، سرعان ما يبرز "صديق هارئيل" نفسه، ريتشارد ديكون معترفا بقوله:" إن إسرائيل تلقت في أوائل الستينات، ضربتين كبيرتين في حرب المخابرات هذه، وقد تكشفت الواحدة منهما عن نصر هام جدا للإتحاد السوفياتي. وكانت الأولى حالة البروفسور کورت سيطة الألماني السوديتي الكهل، الذي شغل منصبا بحثي هاما، بوصفه عالمة نووية مختصة في الإشعاع الكوبي لفترة طويلة في منشأة هامة جدا في إسرائيل، وشكل تهديدا لا لإسرائيل فقط، بل للولايات المتحدة الأميركية ولأوروبا الغربية كلها (14)
ويضيف ديكون قائلا:" .... كان بعض العمل الذي قام به البروفسور کورت سيطة في معهد التخنيون بحيفا، لصالح سلاح الجو الأميركي. فقد كان يقدر تقديرة عالية على كلا جاني المحيط الأطلسي بوصفه عالما كبيرة (10) ".
ألقي القبض على البروفسور سيطة في شهر نيسان 1990؛ وبدأت محاكمته في الخامس من تشرين الثاني 1960 أمام المحكمة المركزية في حيفا. ومثله في الدفاع المحامي يعقوب سولومون. ونطقت المحكمة بقرار الحكم في التاسع من شباط 1991 حيث قضى بسجنه لمدة خمس سنوات (بينما يقول ريتشارد ديكون سبع سنوات).
والجدير بالذكر، أن محاكمة البروفسور کورت سيطة "جرت بشكل مغلق، ولكن بحضور بعثات من الفيزيائيين من كلية الهندسة التطبيقية، ومن الجامعة العبرية في القدس، ومن معهد "وايزمان" للعلوم في "رحوبوت" بعد أن حصلوا على تصريح خاص حسب طلب إتحاد الفيزيائيين الإسرائيليين، الأمر الذي كان بمثابة تعبير واضح، عن عدم ثقتهم بجهاز الأمن الإسرائيلي، وبالمحاكمة الدائرة على حد قول إيسر هارئيل (19).
والواقع أن إعتراف إيسر هارئيل "بعدم الثقة بجهاز الأمن الإسرائيلي" إلى هذا الحد، ليس أمرا بسيطا أبدا، بل يحمل في جوهره كثيرا من الأبعاد والأهمية، باعتباره حالة من الخلل التي لا يخلو منها جهاز أو مؤسسة من الأجهزة الإسرائيلية ومؤسساقا ...
وإلا ما معنى أن يصدر رئيس دولة الإحتلال الصهيوني عفوا عن البروفسور كورت سيطة في 2 نيسان 1993 بعد خمسة عشر شهرة على سجنه، فغادر دولة الإحتلال بلا عودة؟.









مصادر و المراجع :

١- موسوعة الامن والاستخبارات في العالم

المؤلف: د. صالح زهر الدين

الناشر: المركز الثقافي اللبناني للطباعة والنشر والتأليف والترجمة - بيروت

الطبعة: الاولى

تاريخ النشر:2002 م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید