المنشورات

رئيس وزراء أسترالي جاسوس صيني.

يعمد الكثيرون أحيانا إلى طمس بعض الحقائق إبتغاء هدف شخصي أو ما شابه؛ وفي اعتقادهم أن طمس الحقيقة أو إخفاءها هو موت ها. لكنهم في هذا الإعتقاد مخطئون، لأن الحقيقة لا تموت، ولا يمكن أن تموت، وإن نامت أحيانا؛ وليس كل نوم موت.
وعالم المخابرات والجاسوسية عالم يضج بالحقائق المنومة"، ولكن إلى حين، وليس بصورة أبدية. وغالبا ما ينفض "صاحب العلاقة" عن نفسه غبار الماضي المخفي ليبرز على حقيقته، أو بالأحرى ليظهر الحقيقة على حقيقتها دون لفت أو دوران، مع أنه كان يفرط في إخفائها يوم كان مقتنعة أن هذا الإخفاء واجب يفرض ذلك. كما يبادر آخرون أيضا إلى فضح حقائق كانوا يظنون فيما سبق أنها أسرار ومحرمات لا يجوز البوح بها مهما كانت الظروف ... وهكذا تطل الحقيقة بصورتها اللامعة رغم أطنان التراب التي طمرت بها وحرمتها - حتى - من التنفس.
والأمثلة كثيرة على الحالتين في كل زمان ومكان
وليست قصة رئيس الوزراء الاسترالي "هارولد هولت"، وتجسسه لصالح الصين عشرات السنين، سوى أحد النماذج في هذا المجال. فما هي قصة هارولد هولت هذا؟ وكيف وقع في شبكة الجاسوسية الصينية؟ وما هي نتيجة هذه القضية؟
في مطلع العام 1985، أصدر صحفي إنكليزي هو "انطوني جري" کتاب جديد في لندن وسيدي معا، كشف حقيقة اختفاء هارولد هولت، رئيس وزراء استراليا في صيف عام 1967.
وقد اعتمد في كتابه هذا على وقائع ووثائق صحيحة - كما قال _ نافي الرواية التي أشيعت يومئذ عن غرق رئيس الوزراء ... ويؤكد أن مجموعة من رجال الضفادع البشرية التقطته وحملته إلى غواصة صينية، ثم اوصلته إلى بكين، لأن أمره انكشف، وأصبح من الخطر على الصين أن تتر که يواجه مصير الجواسيس.
وإذا كانت أستراليا قد كذبت الخبر - الكتاب، لكن المؤلف (أنطوني جري) أجاب على حملة التكذيب قائلا:" كيف أستطيع أن أكتب هذا من خيالي؟ إن تحت يدي وثائق وأدلة قاطعة لا تقبل التكذيب ".
بدأت علاقة هارولد هولت مع الصين عام 1929، حين أراد أن يعد بحث في الجامعة عن الصين، فاستعان بالسفارة الصينية في ملبورن، حيث قام القنصل "سنج" باجتذابه بمنحه كل المعلومات المطلوبة مع رجاء بإعطاء "سنج" نسخة من البحث!!! واعتبر هولت هذا الطلب تقديرة لنبوغه وأهميته.
وبالطبع، فقد أثنى "سنج" على البحث وطلب من الشاب أن ينشره له في إحدى الصحف الصينية، وبالتالي فقد دفع له مبلغ خيالية في ذلك الوقت مقابل نشر المقال. وتوالت المقالات ... والأموال ... وكان الناشر الوهمي هو الإستخبارات الصينية. وحدث أن انفصل والده عن والدته في هذه الفترة، فانغمس هولت في اللهو، وقد وفرت له مقالاته ما جعله ينفق بسخاء شديد، ولا سيما أنه كان من عاشقي الذات والإثارة وجذب الأنظار ... وهكذا استمر حتى تعلق بفتاة هي "زارا ديکتر" التي ملت من هروبه فتزوجت عام 1946 من رجل آخر فأورثت هولت أزمة عاطفية
كبيرة تجاوزها ظاهريا حين تخرج من الجامعة واشتغل محاميا. وحين أحب ثانية فوجي بفتاته تتزوج والده الثري فانتهت علاقته مع أبيه. كل هذا دفعه إلى المقامرة. وهذه دفعته إلى القنصل الصيني الذي كشف له حقيقة الدور المطلوب منه. فدخل الطريق الصعب الذي لا عودة منه. وبدأ يعمل بنصح القنصل وتوجيهات المخابرات الصينية.
وحين جاءت حكومة "منزيس"، وهو إنكليزي الميول، صعد نجم هولت فأصبح نائبا في البرلمان. وسرعان ما تغيرت البعثة الدبلوماسية الصينية، فجاء القنصل الداهية "لي هنج" بدلا من "سنج" الذي سرعان ما ورط هولت في الجاسوسية المكشوفة للطرفين، وراح يدفعه أماما ويستنزفه دومة. فكان على هولت أن يطرح في البرلمان الأسئلة التي ترسلها له الصين، مثل: هل ستقوم أستراليا ببناء مدمرة بحرية جديدة الحساب بريطانيا؟. ثم توغل النائب هولت أكثر حتى أنه راح يرسل صورة كاملة عن اجتماعات وقرارات مجلسي النواب والوزراء الأستراليين إلى الصين. وهكذا تحولت الشخصية الأسترالية الكبيرة إلى حجر شطرنج سهل التحريك.
فجأة تتغير الوزارة في أستراليا وكذلك البرلمان بسبب أحداث الحرب العالمية الثانية، فيخرج هولت بعيدا عن الضوء. لكن الأموال الصينية تظل تصله باستمرار. وتأتي المفاجأة الثانية من الصين حيث تتغير الأوضاع بقدوم "ماو تسي تونغ" وتقع تقارير هولت في يد المناوئين "لشان كاي تشيك" فيقرر هؤلاء مداومة الإتصال به ما دام مفيد لهم.
وما إن تمر ثلاثة شهور (كانون الأول 1949) على إعلان الصين کجمهورية، حتى تجري في أستراليا إنتخابات جديدة يعود على أثرها حزب الأحرار إلى الحكم ... ويعيد رجله اللامع هولت ليصبح الساعد الأيمن لرئيس الوزراء "روبرت منزيس" .. الذي يمهد السبيل أمام هولت الذي يتسلم رئاسة الوزراء بدءا من عام 1965 حتى الإختفاء المدبر عام
خلال هذه الفترة، إستطاع الوزير الأول ورئيس الوزراء فيما بعد أن يجعل الصين تحكم استراليا. وأن يسرب للصين جميع المعلومات الأسترالية والدولية التي يحصلها من خلال اجتماعاته مع أنداده في العالم. كل هذا والأموال الصينية تتدفق عليه حتى أنه بحسب الوثائق قبض (30) ألف جنيه بين 1952 و 1900. وهو مبلغ هائل في وقته. لقد سقط الرجل تماما في يد الإستخبارات الصينية، فلديهم من الوثائق ما يكفي جزء صغير منه لتدمير هارولد هولت ... فلا طريق أمامه إلا الإمعان في سيره والاستسلام النهائي والكامل.
وتجري الرياح مع بداية عام 1967، بما لا تشتهي السفن، فيدرك جهاز المخابرات الأسترالي الذي أسس في عهد روبرت منزيس بطريقة إنكليزية قوية أن هولت غير أمين على الأسرار التي بوسعه معرفتها. فتجري عملية مراقبته بشدة بدعوى حمايته ... وترغمه علاقته مع الصين على زيارة السفارة الصينية وتسليم المعلومات ... فيصار الى التشديد عليه حتى يدرك بنفسه انکشاف أمره! لكن لماذا لا يلقون القبض عليه؟. يفتش عن الإجابة، وحين يتأكد أنهم لا يريدون تفجير فضيحة تودي بسمعة البلاد ... يذهب في عطلة نهاية الأسبوع مع ثلة من رفاقه للإستجمام والسباحة ويتوغل بعيدا عن زملائه ... ثم يغوص لتلتقطه الغواصة الصينية بينما يتأكد أصحابه من غرقه ...
وتجري الحكومة البحث المكثف الوهمي عن رئيس وزرائها الغريق ... ثم تعلن الحداد على ميت ... يعيش بهدوء في ظل ثقيل في العاصمة الصينية: بكين.
وهكذا كوفي هارولد على خدماته بإنقاذه من المراقبة ... والشكوك ... التي كان من الممكن أن توقعه في الفخ الأسترالي. إلا أن "الفخ الصيني" كان أكثر خبرة وذكاء، فالتقطه في الوقت المناسب ليحيا بقية حياته بعيدا عن هواجس الإعتقال والسجن ... والفضيحة.
المرجع
(1) مجلة "الحرس الوطني" (السعودية). جمادى الأول 1900 ه شباط/ فبراير 1980 م. ص 127.









مصادر و المراجع :

١- موسوعة الامن والاستخبارات في العالم

المؤلف: د. صالح زهر الدين

الناشر: المركز الثقافي اللبناني للطباعة والنشر والتأليف والترجمة - بيروت

الطبعة: الاولى

تاريخ النشر:2002 م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید