المنشورات

حكم القضاء الروسي على الجاسوس السوفياتي.

في السابع والعشرين من حزيران 2002، نشرت الصحيفة الأميركية "فيلادلفيا أينکوايرر" نبأ حول إدانة الجنرال السابق في المخابرات السوفياتية "كي. جي. بي" في العهد السوفياتي "أوليغ كالوغين" الذي كان آخر منصب له في جهاز ال "كي جي بي " هو رئيس قسم مكافحة التجسس عام 1990، بالخيانة، وبالحكم عليه بالسجن لمدة 15 عاما، لن يقضيها بالطبع، لأنه موجود في واشنطن منذ زمن. ولذلك صدر الحكم غيابية ولن تعقبه بالطبع إجراءات محاولة إستعادته من الولايات المتحدة.
فما هي هذه القضية؟ ولماذا حكمت موسكو على الجنرال السابق في المخابرات السوفياتية بعد أكثر من عشر سنوات على سقوط الإتحاد السوفيايي؟
قضت محكمة موسكو التي تمت فيها إجراءات المحاكمة السرية المغلقة بتجريده من رتبتة العسكرية و أوسمته. أما التهمة التي وجهت إليه فتمثلت في "نشره معلومات سرية في عام 1994 حين كتب وأصدر ورزع كتابا هل عنوان "الدائرة الأولى ". ففي ذلك الكتاب تحدث كالوغين عن طبيعة عمل "كي جي بي" وظروف عمله فيها وعن أميركيين جواسيس جندهم "كي جي بي" وطرق تجنيدهم.
وحول هذا الكتاب ذكرت مصادر من "السي آي إي" أن إحدى الإشارات الأولى لوجود عميل كبير في مكتب التحقيقات الفيدرالي الأميركي "إف بي آي" ظهرت في ذلك الكتاب وساهمت باعتقال أخطر جاسوس أميركي لصالح موسكو بعد ألدريك يمس، وهو روبرت هانسين الذي أعتقل قبل سنتين متلبسا حين هم بتسليم معلومات لرجل مخابرات روسي في إحدى الحدائق عام 2000. وكانت الخطة المتبعة في ذلك الوقت هي تخبئة رزمة المعلومات تحت التربة في مكان متفق عليه. وعندما وصل هانسين إلى الحديقة وشرع بإعداد المكان كان كمين من زملائه في "إف بي آي" في انتظاره واعتقاله متلبسا.
وقد عقب کالوغين على صدور الحكم بسجنه 15 عاما في مقابلة مع راديو روسيا قائلا إن الولايات المتحدة لن تسلمه لموسكو، واعتبر أن محاكمته لم تكن سوى بدافع الإنتقام من زملائه لأن الأحداث التي وصفها في كتابه حول عمله خلال 22 عاما في "كي جي بي" لا تدينه لأنها عامة ولم تكن تتعرض للتفاصيل الجوهرية. ورغم ذلك ذكر إيفجيني بارو محامي الدفاع في المحكمة، أنه سيقدم إستئنافا لصالح موكله ضد هذا القرار.
والمعروف أن كالوغين عمل في قسم مكافحة التجسس منذ عام 1973 حتى عام 1980، وكان والده في المخابرات السوفياتية في عهد ستالين. ويتمتع كالوغين الآن بثراء وحياة رفاه واضحة ويعمل مستشارة خاصة للشركات الأميركية، وابتكر بالمشاركة مع رئيس "السي آي إي" السابق وليام كولي، لعبة تجسس تستخدم في ألعاب الكومبيوتر ويقوم بإدارة جولات تجسس سياحية حول مدينة واشنطن بصحبة جاسوس أميركي سابق. وكان أول إتمام وجه لكالوغين بخيانة الدولة عام 1990 حين بدأ عهد "بيروستر ويکا" غورباتشوف وبداية التدمير الذاتي للنظام السوفياي. ففي ذلك الوقت شارك كالوغين رغم أنه ما زال في منصبه في "كي جي بي" في تظاهرات تأييد للديموقراطية الغربية فاضطرت قيادة "كي جي بي" لفصله وتجريده من رتبته العسكرية. لماذا هو وليس غيره ممن هدموا النظام؟
وبعد سقوط الإتحاد السوفيا و تحول موسكو الى الإقتصاد الحر وإنتاج النظام الديموقراطي الغربي، أعيدت لكالوغين رتبته العسكرية وراتبه التقاعدي. وشارك في ترشيح نفسه مع إيغور غايدار باسم "منظمة العسكريين الديموقراطية" في إنتخابات قيادة "حركة روسيا الديموقراطية". ويقول سيرجي يوغوف، أحد الكتاب الصحفيين الروس في صحيفة برافدا: "وهكذا يدان كالوغين ويصدر قرار بحبسه في حين أن با کاتين رئيس "كي جي بي السابق الذي دمر جهاز المخابرات الروسية، وكذلك غورباتشوف ويلتسين وبيريزوفسكي وهو يهودي روسي، وغوزينسكي، يهودي روسي آخر، لا يزالوا أحرارة".
وكان كالوغين قد أجرى في كانون الثاني / يناير عام 1998 مقابلة مع محطة "سي إن إن" إعترف فيها أنه كان من المتحمسين للفكر الشيوعي والنظام الإشتراكي السوفياتي، ولذلك إنضم على غرار والده إلى سلك المخابرات. وكانت طريقة إعداده للعمل التجسسي ضد الولايات المتحدة قد تم ترتيبها من خلال منحة دراسية كطالب جامعي في جامعة كولومبيا منذ إنتهاء دراسته الثانوية لدراسة الصحافة. وفي فترة دراسته الجامعية لم يطلب منه المسؤولون عنه التجسس، بل إنجاز مهمتين هما: التعرف عن كثب على طبيعة النظام الأميركي والجمهور والسياسة والإعلام فيه والمهمة الثانية إقامة أكبر قدر من علاقات الصداقة العادية الطبيعية مع زملائه ومع الشخصيات الجامعية هناك ودون التنويه أو التلميح لأي مسألة مريبة تثير الشكوك بينهم: الصداقة لمجرد الصداقة موقتة وكمرحلة أولى ويقول كالوغين: "تعين على إقامة مثل هذه الصداقات من أجل بناء تربة خصبة لعملي بين هؤلاء في المستقبل". وبعد تخرجه من جامعة كولومبيا أرسلته "كي جي بي" عام 1960 إلى الولايات المتحدة بصفة مراسل لراديو موسكو، وكان المراسل السوفياتي الوحيد الذي يغطي أنباء الولايات المتحدة والأمم المتحدة في نيويورك. وعمل بهذه الصفة أربعة أعوام كان أثناءها يجمع المعلومات ويحاول تجنيد بعض الأميركيين. ويقول في هذا الصدد: "كنت أهتم بالتركيز على الشبان الواعدين، وفي ذلك الوقت كنت شابا في العشرينات وهذا ما كان يطلبه منه المسؤولون". وفي عام 1964 عاد إلى موسكو وبقي سنة فيها ضمن مكتب المخابرات السوفياتية. وفي عام 1990 رتبت له وزارة الخارجية السوفياتية غطاء للعمل في السفارة في واشنطن حيث كان يتولى منصب نائب رئيس المخابرات السياسية في تلك الساحة ويضطلع بدور رئيس محطة ل"الكي جي بي" من ناحية عملية. لكن الصحفي الأميركي جاك أندرسون إكتشف دوره هذا واضطرت المخابرات السوفياتية إلى نقله، ولو لم يتم كشفه لأصبح رئيسا للمحطة هناك. ويتذكر كالوغين تلك الفترة قائلا:" ربما كانت تلك السنوات أكثر سنواي المثمرة. فمنذ عام 1965 حتى عام 1970 وأنا أعمل كسكرتير صحفي وضابط علاقات عامة وألتقي بعشرات الصحفيين الأميركيين والأوروبيين أضللهم أحيانا بمعلومات مزيفة. ولكي لا أفقد ثقتهم أقوم أحيانا أخرى بإعطاء بعض التفاصيل الموجزة الصحيحة التي لم تضر في حينها. لكن مهمة نائب رئيس محطة "الكي جي بي" وقرت لي إدارة عدة خلايا تجسس أميركية كان أحد أبطالها جون ووكر الذي جاء إلى السفارة السوفياتية في خريف عام 1997 ورتبت العلاقة معه وإستمر جاسوسة لصالح موسكو مدة 18 عاما. (يذکر أنه إعتقل وحكم بالسجن قبل الحديث عنه). رقمت بإدارة عمل بعض الجواسيس الآخرين في نفس السفارات الغربية الموجودة في واشنطن وفي أوساط الصحفيين، وأوساط الأكاديميين الأميركيين. ولذلك أعتقد أن السنوات الخمس التي عملت خلالها في واشنطن جعلتني أفضل ضباط "كي جي بي" بموجب أدق معاييرها. ولهذا السبب إستدعتني موسكو رغم أنني ما زلت شابا في ذلك الوقت، وعينتني نائب رئيس قسم مكافحة التجسس في "كي جي بي". وفي عام 1974 رقيت إلى رتبة جنرال وكان عمري 40 عاما فقط". مشهد طبيعي قلب تفكيره ..
ويتحدث كالوغين عن زيارة رافق فيها عام 1979 رئيس "كي جي بي" إلى تشيكوسلوفاكيا قائلا:" في صيف جميل قام وفد "كي جي بي" بصحبة نظيره التشيكي بزيارة عبر نهر الدانوب الى الحدود التشيكية - النمسوية في قارب. وفي منطقة لا تبعد كثيرة عن براتسلافا توقفنا لتفحص السياج الحدودي الشائك الذي يفصل تشيكوسلوفاكيا عن النمسا. وكان النمسويون يقومون بنزهات على ضفة النهر والدخان يتصاعد من مواقد اللحم والأطفال يلعبون وكان المشهد رائعة يدل على الرضى والسلام. أما نحن فكنا واقفين صامتين على جانب السياج الشائك الذي امتدت على طوله أبراج الحراسة والجنود بأسلحتهم الظاهرة للعيان. وكان التناقض بين الجانبين حادة جدا، وكنت أشعر أن جميع أعضاء الوفد السوفياتي الأمني
كان يفكر بنفس ما يفكر به الآخر، أي أن النمسويين هم الأحرار في حين أننا نحن الذين نعيش في سجن كبير. وهنا أنا لا أنسى ما حدث الغروتشكوف رئيس "كي جي بي" حين كان يحملق في الضفة المقابلة لنهر الدانوب وبدأ يهمهم قائلا: " حسن، نعم" وسحر المشهد أمامه. فبالتأكيد أن غروتشكوف أراد قول ما نفكر به جميعا لكنه كان عاجزة عن التفوه بحقيقة أن نظامنا السوفياتي متعفن". ويتساءل الكثير من المراقبين في روسيا والغرب عن السبب الذي دعا القضاء الروسي والمخابرات الروسية إلى محاكمة الجنرال كالوغين الآن وفي هذا الوقت بالذات طالما أن ما جاء في كتابه يتعلق بالعهد السوفياتي البائد؟. هناك إعتقاد لدى البعض بأن المخابرات الروسية تريد منع صدور أي معلومات علنية أخرى حول العهد السوفياتي ونشاطاته الأمنية في العالم خصوصا وأن عملاء سابقين لل كي جي بي" قد يكونوا الآن في موقع حساس رغم إنتهاء عهد عمالتهم ومر کزهم السابق بكل ما يعنيه ذلك من قلة الأخطار. فالطمع بالمال قد يدفع ضباط سابقين في "كي جي بي" بنشر کتب تضر بآخرين لا يجد بوتين من مصلحته الآن التسبب بإيذائهم.
المراجع
1 - صحيفة "فيلادلفيا اينکوايرر" في 2002
/ 4/ 27. 2 - صحيفة "المحرر العربي". العدد 302. من 0 - 11 تموز 2002 ص 20. 3 - أوليغ كالوغين "الدائرة الأولى". الطبعة الأولى 1994.









 مصادر و المراجع :

١- موسوعة الامن والاستخبارات في العالم

المؤلف: د. صالح زهر الدين

الناشر: المركز الثقافي اللبناني للطباعة والنشر والتأليف والترجمة - بيروت

الطبعة: الاولى                      

تاريخ النشر:2002 م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید