المنشورات

کاسترو يهزم ثاني رؤساء أميركيين ووكالة مخابراتهم.

قليلون جدا في التاريخ، هم الأفراد الذين هزموا عدد من رؤساء الدول. فكيف إذا كان شخص إسمه "فيديل كاسترو" إستطاع أن يقهر دولة عظمي کالولايات المتحدة الأميركية وثمان من رؤسائها، ووكالة مخابراتها المركزية، على مدى نصف قرن من الزمن، رغم كل جبر رقم وقوقم رعبقريتهم التي لم تدخر جهدا ولا طريقة للتخلص منه والقضاء عليه؟.
وبالفعل فإن جون كينيدي، ليندون جونسون، جيرالد فورد، جيمي کارتر، رونالد ريغان، جورج بوش، بيل کلينتون، وحاليا جورج بوش الإبن) ... جميعهم إعتلوا كرسي الرئاسة الأميركية تراودهم أحلام القضاء على الزعيم الكوبي فيديل كاسترو. لكن الأحلام بقيت أحلاما، وانتهت ولاياقم الرئاسية (باستثناء بوش الإبن وابتلعهم النسيان، فيما بقي كاسترو صامدة في موقعه في وجه الأمواج الأميركية العاتية.
ولعل أكبر هزيمة منيت بها أجهزة المخابرات الأميركية كافة منذ الخمسينات حتى الآن هي إخفاقها وفشل محاولاها كافة خلال ما يزيد على أربعين عاما في اغتيال الزعيم الكوبي. فمنذ الفشل الأول الذي منيت به "السي آي إي" في عملية خليج الخنازير الشهيرة في نهاية الخمسينات (کنا قد تناولناها تفصيلية في جزء سابق من هذه الموسوعة أصبح الفشل الدائم والهزيمة ما يحالف "السي آي إي" وأجهزة المخابرات المركزية الأميركية الأخرى كافة.
فكاسترو أصبح في القرن الماضي والقرن الجديد أحد أهم الرموز التي تدل على هزيمة الولايات المتحدة وخصوصا أجهزة مخابراتها وأجهزة المخابرات الحليفة لها في قارة أميركا اللاتينية. وإذا كان من المألوف أن نسمع بمؤامرات إغتيال تصدر أوامرها دولة ما لأجهزة مخابراتها، فإنه من غير المألوف أن نسمع أن شركة ما هي التي قامت بتمويل كافة نفقات محاولات إغتيال الزعيم الكوبي.
ففي 22 آب 2002، کشف الصحفي البريطاني دانكان كامبيل مراسل صحيفة "غارديان" في لوس أنجلوس أن شركة (باركادي لصناعة وإنتاج الخمور وخصوصا مشروب الروم (RUM)  الكحولي هي التي قامت بدفع تكاليف ونفقات "السي آي إي" لاغتيال فيديل كاسترو خلال ما يزيد على أربعين عاما، بل ولقلب نظام الحكم الكوبي مهما كلف ذلك، ومهما كانت الطريقة. وفي كتاب ظهر حديقة في الولايات المتحدة، تبين أن الشركة الأميركية (باركادي دفعت مبالغ هائلة لمجموعات يمينية متشددة ولقادة أميركيين في الإدارة الأميركية و "السي آي إي" لاغتيال كاسترو وقلب نظام الحكم الكوبي وتحويل كوبا إلى محمية أميركية
وقبل الحديث عما تكشفه صحيفة "غارديان"، نستعرض هنا أهم ما کشف عنه من سجلات المخابرات الأميركية من المحاولات الفاشلة لاغتيال الزعيم الكوبي الثوري منذ أكثر من أربعين عاما.
ففي كتاب ألفاه وجمعا وثائقه "جوناثان فانكين" و "جون والين" تحت عنوان "أكبر ستين مؤامرة دولية" صدر عام 1996 عن سيتاديل بريس، يكشف الكاتبان أن جلسات التحقيق التي جرت حول فضيحة "ووترغيت" (التي أبعدت ريتشارد نيكسون عن سدة الرئاسة الأميركية) تطرقت للتحقيق في مؤامرات الإغتيال التي حاولت أجهزة المخابرات الأميركية تنفيذها، فظهر السجل التالي حول كوبا وفيديل كاسترو: ففي آب 1990 قام مكتب ال" السي آي إي" الخاص بالأدوية والسموم بتسميم عدد من السيجار الكوبي الذي يعتاد فيديل كاسترو تدخينه، ووضعت داخله مادة سامة جدا عند طرفه الذي يمضغ أو يوضع في الفم. لكن هذه المحاولة لم تنجح ولم يقع کاسترو في فخها. وكانت قد وضعت هذه السجائر في مخدعه أثناء وجوده في الأمم المتحدة لكنه لم يستخدم أي منها. وعلمت شرطة نيويورك بعد فشل هذه المحاولة أن "السي آي إي" فشلت في وضع متفجرات مميتة داخل عدد من السيجار لكي يستخدمها کاسترو وتنفجر فيه. وفي فترة الستينات نفسها حاولت "السي آي إي" وضع مادة تدفع المرء إلى الهلوسة إذا إختلطت بلعابه وفمه داخل عدد من السيجار الذي يشبه تمام ما يدخنه کاسترو. وكان الهدف هو إظهار کاسترو بعد تدخينه السيجار کرجل مجنون فيسهل إبعاده عن السلطة. وحين فشلت هذه المحاولة قامت "السي آي إي" بمحاولة تشويه وجه کاسترو وذلك عن طريق وضع نوع من أملاح "الشاليوم" داخل حذائه يؤدي إلى التسبب بسقوط متسارع للشعر في الوجه والحاجبين ورموش العين والجسم والتشويه وجهه وإرباكه. ولم تنفع هذه المحاولة وتمكن کاسترو من إفشالها أيضا.
وحين علمت "السي آي إي" أن كاسترو مولع بالغطس تحت الماء، مع إستخدام أوعية التنفس الخاصة بالغطاسين، قامت بتكليف القسم الفني فيها بشراء ثياب غطس بحري كاملة ووضعت داخل أنبوب التنفس الإصطناعي مادة قاتلة ينفذ مفعولها عبر الإستنشاق. بل وأعدت "السي آي إي" ثياب أو بدلة الغطس على نحو يتسبب لكل من يرتديها بمرض جلدي قاتل تتسرب جراثيمه عبر مسامات الجلد ولا يمكن لأحد شفاء کاسترو منه، وفشلت هذه المحاولة أيضا. وكان من المقرر أن يقوم محام أميركي من الذين كلفوا في الستينات بإجراء مفاوضات مع كوبا لإطلاق سراح المعتقلين من عملية خليج الخنازير، بتسريب جهاز الغطس هذا إلى معدات غطس الزعيم الكوبي إذا لم يقبله كاسترو هدية. لكن "السي آي إي" أقلعت عن هذه الطريقة لخطورة مضاعفات إكتشافها المتوقع حتى لو مات کاسترو.
ومع ذلك، واصلت "السي آي إي" محاولاتها لإستغلال هواية كاسترو بالغطس، وأعد قسمها التكنولوجي قنبلة خاصة يمكن وضعها قرب المنطقة التي اعتاد کاسترو على الغطس فيها داخل البحر، وعند انفجارها يصبح کاسترو بين الأموات. لكن عدم النجاح في وضعها في ذلك المكان واحتمال إكتشافها دفعا المختصين في "السي آي إي" إلى الإقلاع عنها واختيار طريقة أخرى مثل اغتياله عبر إطلاق النار من بندقية قنص متطورة ومن مكان بعيد. وفي عام 1987 اعترف "فيليكس رودريغيز " أحد عملاء "السي آي إي" في أميركا اللاتينية أثناء إستجوابه من قبل لجنة خاصة من الكونغرس أعدت للتحقيق في فضيحة "إيران - كونترا" أنه كلف باغتيال کاسترو قبل ذلك عن طريق بندقية قنص متطورة عام 1961 ومجهزة بأضخم عدسة تيليسكوب مكبرة، وفشلت هذه المحاولة أيضا.
لكن أخطر ما قامت به "السي آي إي" كان قد تمثل في محاولة تعد من أغرب ما ظهر وما يحمله من دلائل مثيرة. فحين كان الجنرال "إدوارد لاندسديل" مسؤولا عن كل عمليات التآمر على كوبا و کاسترو تفتق ذهنه عن طريقة غريبة يمكن لها كما رأى أن تثير ثورة مضادة وفوضى ضد قيادة كاسترو. فالجنرال يعرف أن الكوبيين من المسيحيين الكاثوليك، وفي هذا الإتجاه تماما أراد التلاعب على معتقداتهم. فأعد خطة يظهر فيها "السيد المسيح" من البحر ويمكن للكوبيين رؤيته ليلا من الساحل وبعد ترتيب أضواء تطلقها سرا غواصة بحرية أميركية في السماء وعلى شكل قديس يشبه ما علق في أذهان الناس من صورة الوجه المسيح بموجب الأيقونات والرسوم، ويقوم عملاء "السي آي إي" داخل کوبا بإثارة الناس بحجة أن "المسيح" يريدهم أن يتحركوا ضد النظام الشيوعي الكوبي. لكن أسباب غير معروفة حالت دون تنفيذ هذا المخطط الغريب جدة.
أما الجديد في محاولات إغتيال كاسترو، فقد نشره الصحفي الكولومبي "هيرناندو كالفو أوسبينا" في كتاب جديد حمل عنوان "باركادي الأميركية، وحرها الخفية ضد کاسترو". ويقول الكتاب كما نشرت عنه صحيفة "غارديان" في 22 آب 2002 مايلي:" تعد شركة باركادي من أقدم وأكبر منتجي خمور "الروم" (RUM)  الروحية وأكثرها مبيعا في العالم حين نشأت عام 1892 في سانتياغو في كوبا على يد أحد الفرنسيين وشريکه الإسباني من كاتالونيا، وهي تبيع 230 مليون قارورة لمئة وسبعين دولة".
والطريف أن عددا من أصحاب الأسهم في شركة (بار كادي) ومدرائها أصبحوا من أوائل المؤسسين عام 1981 للمؤسسة الكوبية الأميركية الوطنية (كانف) (CANF)  التي كانت تقود التنسيق مع "السي آي إي" من أجل الإطاحة بفيديل كاسترو. ثم توسعت أعمال هذه المؤسسة فشاركت في نشاطات "السي آي إي" في "نيكاراغوا ضد الساندينيين الثوريين أثناء ولاية الرئيس رونالد ريغان، وهذا ما كشفته فضيحة "إيران - كونترا". وكانت هذه المؤسسة في مقدمة من تولى الدفاع عن حق الولد الكوبي "إليان كونزاليس" بالعيش في أميركا ضد رغبة والده الذي يريده في كوبا. وثمة من يعتقد أن شركة (بار کادي نفسها أصبحت جهاز يعمل في كل ما تطلبه "السي آي إي" على الرغم من أنها لم تكن قمتم في البداية إلا في كوبا وکاسترو.
ففي عام 1966 أعلنت "باركادي" عن دعمها بكل ما يمكن للتشريع الذي وضعه ريتشارد هيلمز ضد أي شركة أجنبية تعمل في كوبا أو تتعاون مع الشركات الكوبية منها.
حتى أن أعضاء في الكونغرس أطلقوا على تشريع هيلمز "مشروع قانون بار كادي". وعلى الفور بدأت "باركادي" بحملة لجمع التبرعات لصالح ريتشارد هيلمز حين قرر إعادة ترشيح نفسه للكونغرس. وحين جاء "أوتو رايش" الذي دافع بشدة عن مقترحات
هيلمز ضد كوبا جرى تعيينه في إدارة جورج بوش مساعدا لوزير الخارجية الأميركية لشؤون أميركا اللاتينية رغم معارضة لجنة الخارجية التابعة للكونغرس. والجدير بالذكر، أن "رايش" كان يعمل قبل تسلمه هذا المنصب مستشارة لدى شركة "باركادي" والمدافع عن مقترحاها داخل أروقة إتخاذ القرار الأميركي. ويقول "كالفو أو سبينا" أن رايش كان يعمل وكأنه رئيس للمؤسسة الكوبية - الأميركية الوطنية. وكان من آخر النشاطات التي قامت بها شركة "باركادي" بالتنسيق مع "السي آي إي" دعم فكرة بوش بوضع كوبا ضمن قائمة الدول التي تقول واشنطن أنها "داعمة للإرهاب"، لكن هذه المساعي لم تفلح كثيرة بعد أن صوت مجلس النواب الأميركي بأغلبية 292 صوت على مشروع قانون يخفف القيود على السفر الى كوبا ويخفف بعض الحظر عليها.
هذا، وبالنظر إلى المسافة القريبة جدا بين کوبا والولايات المتحدة، فقد شكلت العبارة التي أطلقها فيديل كاسترو منذ بداية إنتصار ثورته الإشتراكية على أميركا والتي تقول:" يكفينا الفخر بأننا، على فم الولايات المتحدة الأميركية، أقمنا الإشتراكية "، شكلت تحديا خطيرا لأميركا، ولا تزال، حتى أنها تحولت إلى "كابوس" أقلق - ولا يزال يقلق رؤساء أميركا، دون أن يتمكنوا من نجاح مخططاقم - القديمة الجديدة - في القضاء عليه ...
وانتصاره، بالفعل، هو من أكبر هزائم الولايات المتحدة ووكالة مخابراتها المركزية (السي آي إي) على الإطلاق.
المراجع
1 - صحيفة "غارديان" في 2002 / 8/ 22. 2 - جوناثان فانكين وجون والين " أكبر ستين مؤامرة دولية" منشورات سيتا ديل بريس 1999. 3 - هيرناندو كالفو أوسبينا "باركادي الأميركية وحرها الخفية ضد کاسترو". (أوسبينا هو صحفي كولومبي). 4 - مجلة "المحرر العربي". العدد 340. من 30 آب - 5 أيلول. عام 2002
ص 18. 5 - تيري ميسان 11 أيلول 2001 الخديعة المرعبة". ترجمة سوزان قازان ومايا سلمان. دار کنعان للدراسات والنشر. دمشق. الطبعة الأولى 2002. ص 127 وما بعدها.








مصادر و المراجع :

١- موسوعة الامن والاستخبارات في العالم

المؤلف: د. صالح زهر الدين

الناشر: المركز الثقافي اللبناني للطباعة والنشر والتأليف والترجمة - بيروت

الطبعة: الاولى                      

تاريخ النشر:2002 م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید