المنشورات

غاربو، غريتا:

هي احدى اكبر نجوم السينما في هوليوود في النصف الأول من القرن العشرين، كما لعبت في الوقت نفسه دورا هاما وخطيرة لصالح الاستخبارات الأميركية والبريطانية ضد النازيين في البلاد الاسكندينافية، وتحديدا في السويد. وكان اهم كتابين صدرا في النصف الثاني من القرن العشرين، بل في الربع الأخير منه، وتناولا قضية تجسس "غريتا غاربو" هما: "مآثر واخفاقات الجاسوسية الاميركية" من تأليف "بيار دي فيلمارست" وصدر في جنيف سنة 1978. وكتاب "النازية والحرب العالمية الثانية في سينما التجسس" "لرولان لاكورب" وصدر في باريس سنة 1983
والجدير بالذكر، أنه خلال السنوات السابقة مباشرة للحرب العالمية الثانية، كانت غريتا غار بو، السويدية الأصل والمولودة عام 1900 باسم "غريتا لوريزا غوستافسون"، مثلت العديد من الأدوار الكبيرة التي تليق بشهرها في افلام مثل "ماتاهاري" (1931)، و " غراند أو نيل " (1932) والملكة كريستينا (1933) و آنا کارنينا" (1930) و"غادة الكاميليا " (1937). لكنها على رغم نجاحها الساحق في هذه الأفلام اعلنت فجاة انها لم تعد راغبة في المزيد وتفضل الابتعاد. ويبدو أن غريتا غار بو تأثرت كثيرة بشخصيات النساء التي لعبتها، و بدأت ترى نفسها على غرارهن في الواقع ... خصوصا دور العميلة السوفياتية التي تكتشف الحب والحرية إذ تبعث إلى الغرب ... وهكذا، حين اندلعت الحرب العالمية الثانية وتوجهت غاربو لتعيش فترة في ستو کهولم، على عكس ما كان يتوقع كثيرون، تسارعت التساؤلات: ماذا تراها تفعل هناك؟ وكيف تختار هذه النجمة العالمية أن تعيش في مدينة غزاها النازيون، بينما يفر كثيرون من ستوكهولم نحو بلدان اقل تعرضا للحرب بخاصة نحو الولايات المتحدة؟ ... ومن اولئك الذين صعب عليهم تصور الأمر "لويلا بارسونز" إحدى الشخصيات الأكثر نفوذا في هوليوود في تلك الأيام. فذات يوم كانت غريتا غاربو في الولايات المتحدة، فتساءلت "بارسونز" بدهشة وغضب عما يجعل هذه المرأة التي اعطتها اميركا كل شيء تستنكف عن المشاركة في قوافل النصر" التي راح الفنانون الأميركيون وغيرهم يشكلوها لدعم المجهود الحربي الأميركي، بعدما دخلت امير کا الحرب. 
بالنسبة إلى "بارسونز" كان استنکاف غاربو مثيرة للشبهات، ومن شأنه لاحقا أن يقضي على مستقبلها السينمائي، لأن الشعب الأميركي والشعوب الحرة كلها في رأي بارسونز: لن تستطيع أن تنسى الذين وقفوا معها، والذين تخلوا عنها. لكن بارسونز لم تكن تعرف، وهذا
طبيعي، آن غار بو كانت تجازف، ليس بمستقبلها الفني فقط، بل بحياها ايضا، من اجل القضية نفسها التي تميل لبارسونز انها تكفلها. في ستوكهولم كانت غار بو تعيش في تلك الاوقات بالذات، أخطر ايام حياتها. وعلى الأقل هذا ما كان يؤكده کتاب بيار دي فيلمار ست، والذي يقول استنادا الى العديد من الوثائق والمعلومات التي جمعها، آن غاربو كانت بين العام 1939 و 1993 وخلال الفترة التي قضتها في ستوكهولم محورا رئيسيا لعمليات الحروب والتهريب وجمع المعلومات المصلحة الديمقراطيين والحلفاء "، وليس في السويد وحدها، بل كذلك في الدانمرك و في بقية البلدان الاسكندينافية. وهذا العمل كله كان تطوعيا وسريا. قامت اهميته الكبرى على كونه لم يثر ادن ارتياب من جانب النازيين، الذين كانوا على العكس من ذلك يبدون تقدير كبيرة للفنانة الهوليوودية ويسهلون لها مهماقا من دون أن يدروا. ولكن كيف بدات حكاية غاربو مع العمل الاستخبارالي الأميركي والانكليزي اكسسوارا؟ في العام 1939 عين ويليام ستينفنسون مسؤولا اساسيا عن اجهزة التجسس ومكافحة التجسس في بريطانيا، وهو بهذه الصفة سيلعب دورا اساسيا في طول اوروبا وعرضها. وكان ستينفنسون الموج من قبل تشرشل بنسج علاقات مع زميله الامير کي ويليام دونوفان، الذي كان يعتبر اليد اليمنى للرئيس روزفلت في العمليات السرية، تماما كما أن ستيفنسون كان يعتبر اليد اليمني لونستون تشرشل في النوع نفسه من العمليات. والاثنان تعاونا على اقامة العديد من الشبكات التي خاضت الحرب السرية ضد النازيين في كثير من البلدان الأوروبية. وكان ستيفنسون، على رغم جنسبنه الكندية، من أصول اسكندينافية، وهو قبل تفرغه التام لأعمال اجهزة الاستخبارات، كان خلال النصف الثاني من العشرينات، عمل في إنتاج الأفلام الصامتة حيث تعرف إلى غاربو وارتبط معها بصداقة
عميقة
عرفها في قمة مجدها، وكان يعرفها عن كثب عند نهاية العقد التالي حين بدأت تفكر بالاعتزال. وكان ستينفنسون يعرف مقدار حماسها لأي شيء تقدم عليه، لذلك ما إن فكر بأن الوقت قد حان للقيام في اسكندينافيا، حتى فكر فيها وفاتها بالأمر، فوافقت من دون تردد. 
وبمساعدته اللوجستية بدأت تقسم وقتها بين شقتها في نيويورك والفيلا التي تملكها في الريفييرا الفرنسية، ومنزل لها في سويسرا، ثم شقق عديدة في البلدان الاسكندينافية، اهمها شقتها في ستو کهولم. وفي العاصمة السويدية بالتحديد، راحت غاربو تظهر نوعا من الحياد المتواطئ المزعوم مع البعثات الثقافية والدبلوماسية النازية التي كانت بدأت تتكاثر متعاملة مع السويديين (ذوي الجذور الجرمانية، حسب المقاييس النازية) ... وصارت غاربو تدعي إلى الحفلات والمناسبات التي يقيمها عادة كبار القادة العسكريين والدبلوماسيين الألمان في العواصم الاسكندينافية. ولما كان كل واحد من هؤلاء يجد نفسه ميا"، في حضرة السيدة والنجمة السينمائية الكبيرة، إلى الثرثرة والحديث عما فعل وعما سيفعل، كان ما تجمعه غاربو كل يوم يشكل حصيلة رائعة من المعلومات والآراء وترسلها الى ويليام ستيفنسون الذي يقوم بتحليلها. ويبدو أن غريتا ظلت طوال سنتين او اكثر قادرة على أداء ذلك العمل على أفضل وجه، بل أن شقتها في ستوكهولم تحولت منذ العام 1947، ودائما من دون أن يشتبه النازيون بشيء، مكان لجوء وانطلاق ل" كل عميل ومضطهد ديمقراطي" يسعى إلى الهرب إلى اماكن اكثر امانا له من اوروبا المحتلة.
والمرجح أن غار بو سهلت ومولت العديد من العمليات من هذا النوع لكن هذا لم يكن كل شيء، ولم يكن الأهم في نشاطاتها.
فالواقع ان رولان لاكورب يقول إن بطلة "نينوتشكا" و"غادة الكاميليا" اعتادت طوال تلك الفترة أن تقوم بجولات بين المدن والمناطق الاسكندينافية، زاعمة أنها مكلفة من قبل شركة بارامونت السينمائية اختيار ممثلين وممثلات الافلام الشركة. وهي قد فعلت هذا خصوصا في فنلندا ومرات عدة متتالية. غير أن المهمة الحقيقية التي كانت تقوم بها هناك، هي القيام باتصالات سرية مع مجموعات المقاومة المناهضة للنازيين، لحساب اجهزة مكافحة التجسس والاستخبارات الأميركية. بل أن ستيفنسون ودونوفان غالبا ما كلفاها بإيصال أموال واخبار الى تلك المجموعات. ومن المؤكد أن غريتا غاربو، بابتسامتها وصمتها الشهيرين كانت خير من يمكنه أن يؤدي تلك المهمة. وهي حين بدأت منذ أواخر العام 1993 تقلل من زياراتها الى اسكندينافيا، كان واضحا انها شعرت بان عملها قد انتهى، وانها لو غامرت بالمزيد ستنكشف. ويقينا انها ابتسمت كثيرا حين سمعت ما قالته عنها "بارسونز"، كما ابتسمت ايضا حين كانت تتخيل وجوه القادة النازيين، لا سيما الذين وقعوا في هواها و استفادت من هيامهم بما للقيام ببعض مهماتها ... كانت تتخيل وجوههم، حين يعرفون اخيرا، ما كانت تقوم به حقا ... اخيرا وعلى رغم سرية ما قامت به، وقلة الأشخاص الذين اطلعوا عليه، لم يفت الأجهزة الأميركية والبريطانية أن تشير لاحقا، وان باشكال مواربة إلى الخدمات العظيمة والشجاعة" التي قدمتها غرينا غار بو لقضية الحرية والديمقراطية ضد النازية والنازيين. أما هي فواضح انها حين اعتزلت الدنيا والسينما والحياة العامة، خلال الخمسين سنة الأخيرة من حياتها (إذ رحلت في العام 1990) ظلت محافظة على سرها هذا بين العديد من الأسرار التي صمتت عنها طوال
حياها وشكلت اسطورها المثيرة، على عكس زميليها: "کوردا"، الذي صارت مآثره أمثالا تضرب، و"هايدن"، الذي روى بنفسه اعماله البطولية متفاخر بها. كما لم يفت المخرج "سيدي بولاك" أن يتحدث عنها بوضوح في بعض حوارات فيلم "ثلاثة ايام للكوندور" الذي مثله "روبرت ردفورد" لاحقا.








مصادر و المراجع :

١- موسوعة الامن والاستخبارات في العالم

المؤلف: د. صالح زهر الدين

الناشر: المركز الثقافي اللبناني للطباعة والنشر والتأليف والترجمة - بيروت

الطبعة: الاولى

تاريخ النشر:2002 م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید