المنشورات
احتماء القبائل بشعرائها
كانت القبيلة من العرب إذا نبغ فيها شاعر أتت القبائل فهنأتها، وصنعت الأطعمة، واجتمع النساء يلعبن بالمزاهر، كما يصنعون في الأعراس، ويتباشر الرجال والولدان؛ لأنه حماية لأعراضهم، وذب عن أحسابهم، وتخليد لمآثرهم، وإشادة بذكرهم. وكانوا لا يهنئون إلا بغلام يولد، أو شاعر ينبغ فيهم، أو فرس تنتج: فممن حمى قبيلته زياد الأعجم، وذلك أن الفرزدق هم بهجاء عبد القيس، فبلغ ذلك زياداً وهو منهم، فبعث إليه: لا تعجل وأنا مهد إليك هدية، فانتظر الفرزدق الهدية، فجاءه من عنده:
فما ترك الهاجون لي إن هجوته ... مصحاً أراه في أديم الفرزدق
ولا تركوا عظماً يرى تحت لحمه ... لكاسره أبقوه للمتعرق
سأكسر ما أبقوا له من عظامه ... وأنكت مخ الساق منه وانتقي
فأنا وما تهدي لنا إن هجوتنا ... لكالبحر مهما يلق في البحر يغرق
فلما بلغته الأبيات كف عما أراد، وقال: لا سبيل إلى هجاء هؤلاء ما عاش هذا العبد فيهم.
وهجا عبد الله بن الزبعري السهمي بني قصي، فرفعوه برمته إلى عتبة بن ربيعة؛ خوفاً من هجاء الزبير بن عبد المطلب، وكان شاعراً مفلقاً شديد العارضة مقذع الهجاء، فلما وصل عبد الله إليهم أطلقه حمزة بن عبد المطلب وكساه، فقال:
لعمرك ما جاءت بنكر عشيرتي ... وإن صالحت إخوانها لا ألومها
فرد جناة الشر؛ إن سيوفنا ... بأيماننا مسلولة لا نشيمها
فإن قصياً أهل مجد وعزة ... وأهل فعال لا يرام قديمها
هم منعوا يومي عكاظ نساءنا ... كما منع الشول الهجان قرومها
وكان الزبير غائباً بالطائف، فلما وصل إلى مكة وبلغه الخبر قال:
فلولا نحن لم يلبس رجال ... ثياب أعزة حتى يموتوا
ثيابهم سمال أو طمار ... بها ودك كما دسم الحميت
ولكنا خلقنا إذ خلقنا ... لنا الحبرات والمسك الفتيت
وهجا رجل من بني حرام الفرزدق، فجاء به قومه يقودونه إليه، فقال الفرزدق:
ومن يك خائفاً لأذاة شعري ... فقد أمن الهجاء بنو حرام
هم قادوا سفيههم وخافوا ... قلائد مثل أطواق الحمام
وهجا الأحوص بن محمد الأنصاري رجلاً من الأنصار يقال له ابن بشير وكان مكثراً فاشترى هدية، ووفد بها على الفرزدق مستجيراً به، فأجاره، ثم قال: أين أنت من الأحوص بن محمد؟ فقال: هو الذي أشكو، فأطرق الفرزدق ساعة ثم قال: أليس الذي يقول:
ألا قف برسم الدار فاستنطق الرسما ... فقد هاج أحزاني وذكرني نعمى
قال: بلى، قال: والله لا أهجو شاعراً هذا شعره، فاشترى ابن بشير أنفس من الهدية الأولى وقدم بها على جرير، فاستجاره فأجاره، ثم قال له: ما فعل ابن عمك الأحوص بن محمد؟ قال: هو صاحبي الذي هجاني، قال: أليس القائل:
تمشى بشتمي في أكاريس مالك ... يشيد به كالكلب إذ ينبح النجما
قال: بلى، قال: والله لا أهجو شاعراً هذا شعره، فاشترى أكثر من الهديتين وأهداها إلى الأحوص وصالحه.
ولهذا وأمثاله قال جرير لقومه يعاتبهم في قصيدة خاطب فيها أباه وجده الخطفي ممتناً عليهم بنفسه:
بأي نجاد تحمل السيف بعد ما ... قطعت القوى من محمل كان باقياً؟
بأي سنان تطعن القرن بعد ما ... نزعت سناناً من قناتك ماضياً؟
ألا لا تخافا نبوتي في ملمة ... وخافا المنايا أن تفوتكما بيا
فقد كنت ناراً يصطليها عدوكم ... وحرزاً لما ألجأتم من ورائيا
وباسط خير فيكم بيمينه ... وقابض شر عنكم بشماليا
وإني لعف الفقر مشترك الغنى ... سريع إذا لم أرض جاري انتقاليا
جريء الجنان لا أهاب من الردى ... إذا ما جعلت السيف من عن شماليا
وليست لسيفي في العظام بقية ... ولا السيف أشوى وقعة من لسانيا
وهذا الباب اكثر من أن يستقصى، ورغبتي في الاختصار، وإنما جئت منه ومن سواه بلمحة تدل على المراد، وتبلغ في ذلك حد الاجتهاد.
مصادر و المراجع :
١- العمدة في محاسن الشعر
وآدابه
المؤلف: أبو على
الحسن بن رشيق القيرواني الأزدي (المتوفى: 463 هـ)
المحقق: محمد
محيي الدين عبد الحميد
الناشر: دار
الجيل
الطبعة: الخامسة،
1401 هـ - 1981 م
5 أبريل 2024
تعليقات (0)