المنشورات

تعرض الشعراء

كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه عالماً بالشعر، قليل التعرض لأهله: استعداه رهط تميم بن أبي بن مقبل على النجاشي لما هجاهم، فأسلم النظر في أمرهم إلى حسان بن ثابت؛ فراراً من التعرض لأحدهما، فلما حكم حسان أنفذ عمر حكمه على النجاشي كالمقلد من جهة الصناعة، ولم يكن حسان على علمه بالشعر أبصر من عمر رضي الله عنه بوجه الحكم، وإن اعتل فيه بما اعتل، وقد مضت الحكاية.
وكذلك صنع في هجاء الحطيئة الزبرقان بن بدر: سأل حسان ثم قضى على الحطيئة بالسجن، وقيل: بل سجنه لمواقفته إياه وقوله: إن لكل مقام مقالاً، فقال له: أتهددني؟ امضوا به إلى السجن، فسجنه في حفرة من الأرض.
وسئل أبو عبيدة: أي الرجلين أشعر: أبو نواس، أم ابن أبي عيينة؟ فقال: أنا لا أحكم بين الشعراء الأحياء، فقيل له: سبحان الله كأن هذا ما تبين لك! فقال: أنا ممن لم يتبين له هذا؟؟!! وقيل: إن أول من لقب قريشاً على شرفها، وبعد ذكرها في العرب سخينة لحساء كانت تتخذه في الجاهلية عند اشتداد الزمان خداش بن زهير حيث يقول:
يا شدة ما شددنا غير كاذبة ... على سخينة لولا الليل والحرم
فذهب ذلك على أفواه الناس، حتى كان من التمازح به ما كان بين معاوية بن أبي سفيان وبين الأحنف بن قيس التميمي، حين قال له: ما الشيء الملفف في البجاد؟ فقال له: السخينة يا أمير المؤمنين، أراد معاوية قول الشاعر:
إذا ما مات ميت من تميم ... فسرك أن يعيش فجئ بزاد
بخبز أو بلحم أو بتمر ... أو الشيء الملفف في البجاد
يريد وطب اللبن، وأراد الأحنف قول خداش بن زهير يا شدة ما شددنا ... البيت وحتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لكعب بن مالك الأنصاري: أترى الله نسي قولك؟ يعني:
زعمت سخينة أن ستغلب ربها ... وليغلبن مغالب الغلاب
ولسير الشعر على الأفواه هذا المسير تجنب الأشراف ممازحة الشاعر خوف لفظة تسمع منه مزحاً فتعود جداً، كما قال دعبل الخزاعي:
لا تعرضن بمزح لامرئ طبن ... ما راضه قلبه أجراه في الشفة
فرب قافية بالمزح جارية ... في محفل لم يرد إنماؤها نمت
إني إذا قلت بيتاً مات قائله ... ومن يقال له والبيت لم يمت
وقال رجل لابن الرومي يمازحه: ما أنت والشعر؟ لقد نلت منه حظاً جسيماً وأنت من العجم، أراك عربياً في الأصل أو مدعياً في الشعر! قال: بل أنت دعي؛ إذ كنت تنتسب عربياً ولم تحسن من ذلك شيئاً، وله يقول من أبيات:
إياك يا بن بويب ... أن يستشار بويب
قد تحسن الروم شعراً ... ما أحسنته العريب 
وهذا مثل قول الصيني الشاعر لبعض الأعراب وقد أنشد عبد الله بن طاهر بحضرته شعراً، فقال له الأعرابي: ممن الرجل؟ فقال: من العجم، قال: ما للعجم والشعر؟ أظن عربياً نزا على أمك، قال: فمن لم يقل منكم الشعر معشر العرب فإنما نزا على أمه أعجمي!! فسكت الأعرابي.
وأنشد أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ فقال:
وللشعراء ألسنة حداد ... على العورات موفية دليله
ومن عقل الكريم إذا اتقاهم ... وداراهم مداراة جميله
إذا وضعوا مكاويهم عليه ... وإن كذبوا فليس لهن حيله
والأبيات لأبي الدلهان. ولأمر ما قال طرفة:
رأيت القوافي تتلجن موالجاً ... تضايق عنها أن تولجها الإبر
وقال امرؤ القيس:
وجرح اللسان كجرح اليد. ومع ذلك كله فلا ينبغي للشاعر أن يكون شرساً، ولا حرجاً عريضاً؛ لما يدل به من طول لسانه وتوقف الناس عن مخاشنته.
فهذا الفرزدق كان شاعر زمانه ورئيس قومه، لم يكن في جيله أطرف منه نادرة، ولا أغرب مدحاً، ولا أسرع جواباً: اجتاز بنسوة وهو على بغلة فهمزها فحبقت، فتضاحكن، وكان عريضاً، فقال: ما يضحككن وما حملتني أنثى قط إلا فعلت مثل هذا؟ قالت إحداهن: فما صنعت التي حملتك تسعة أشهر؟ فانصرف خجلاً.
ومر به رجل فيه لين، فقال له: من أين أقبلت عمتنا؟ فقال: نفاها الأغر بن عبد العزيز، فكأن الفرزدق صب عليه الماء؛ لأنه عرض له بقول جرير فيه حين نفاه عمر بن عبد العزيز من المدينة:
نفاك الأغر بن عبد العزيز ... وحقك تنفى من المسجد
وكان الفرزدق مرة ينشد، والكميت صبي، فأجاد الاستماع إليه، فقال له: يا بني أيسرك أني أبوك؟ قال: أما أبي فلا أرى به بدلاً، ولكن يسرني أنك أمي، فأفحمه حتى غص بريقه، وزعم قوم أن هذه الحكاية إنما وقعت مع كثير.
ومر يوماً بمضرس الفقعسي، وهو غلام حديث السن، ينشد الناس شعره فحسده على ما سمعه منه، فقال له بعد كلام طويل فيه تعريض وتصريح: أدخلت أمك البصرة؟ وفهم عنه مضرس ما أراد، فقال: كلا ولكن أبي! ورجع إلى إنشاده فاستحيا الفرزدق، حكى ذلك شيخنا أبو عبد الله، وإنما أراد الفرزدق أنها إن دخلت البصرة فقد وقعت عليها فأنت ابني، قال مضرس: بل أبي وقع على أمك.
ومثل هذا بعينه عرض للفرزدق مع الحطيئة؛ فإن الحطيئة قال له وقد سمعه ينشد شعراً أعجبه: أنجدت أمك؟ قال: بل أنجد أبي!! ونظم ذلك جرير، ونعاه عليه، وادعى أنه صحيح فقال:
كان الحطيئة جار أمك مرة ... والله يعلم شأن ذاك الجار
من ثم أنت إلى الزناء بعلة ... بأشر شيخ في جميع نزار
لا تفخرن بغالب ومحمد ... وافخر بعبس كل يوم فخار
وكان يزعم أن الحطيئة جاور لينة بنت قرطة فأعجبته فراودها فوقع عليها وزوجها أخوها العلاء غالباً أبا الفرزدق وقد تبين حملها فولدت الفرزدق على فراشه.
واحتذى هذا الحذو سواء أبو السمط مروان الأصغر بن أبي الجنوب بن مروان أبي حفصة فقال يهجو علي بن الجهم بن بدر:
لعمرك ما الجهم بن بدر بشاعرٍ ... وهذا علي بعده بصنع الشعرا
ولكن أبي قد كان جاراً لأمه ... فلما تعاطى الشعر أوهمني أمرا
والشاعر أولى من كف منطقه، وأقال عثرات اللسان؛ لما رزق من القدرة على الكلام، والعفو من القادر أحسن، وبه أليق " ولمن انتصر بعد ظلمه فاؤلئك ما عليهم من سبيل؛ إنما السبيل على الذين يظلمون الناس، ويبغون في الأرض بغير الحق، أولئك لهم عذاب أليم، ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور ".









مصادر و المراجع :

١- العمدة في محاسن الشعر وآدابه

المؤلف: أبو على الحسن بن رشيق القيرواني الأزدي (المتوفى: 463 هـ)

المحقق: محمد محيي الدين عبد الحميد

الناشر: دار الجيل

الطبعة: الخامسة، 1401 هـ - 1981 م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید